الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(128) باب حكم المني
516 -
عن علقمة والأسود أن رجلا نزل بعائشة. فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة: إنما كان يجزئك؛ إن رأيته، أن تغسل مكانه. فإن لم تر، نضحت حوله. ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا. فيصلي فيه.
517 -
عن عائشة رضي الله عنها في المني. قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مثله.
518 -
عن عمرو بن ميمون قال: سألت سليمان بن يسار عن المني يصيب ثوب الرجل. أيغسله أم يغسل الثوب؟ فقال: أخبرتني عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب. وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه.
وأما ابن المبارك وعبد الواحد ففي حديثهما قالت كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم
519 -
عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: كنت نازلا على عائشة. فاحتلمت في ثوبي. فغمستهما في الماء. فرأتني جارية لعائشة. فأخبرتها. فبعثت إلي عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك. قال قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه. قالت: هل رأيت فيهما شيئا؟ قلت. لا. قالت: فلو رأيت شيئا غسلته. لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري.
-[المعنى العام]-
كانت عائشة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم أما للمؤمنين بحق، إليها يلجأ المؤمنون عند شدائدهم، ويقصدونها في مشاكلهم، ويأوون إلى دارها في أسفارهم وكانت نعم الأم أعدت دارها لاستقبال الفقير والمسكين والسائل وابن السبيل أعدت دارا للضيافة ملحقة بدارها، وأسندت خدمة الضيوف والنازلين إلى جاريتها.
ونزل بساحتها عبد الله بن شهاب الخولاني، فبات ليله، فأصبح يذكر أنه رأى في منامه ما يرى النائم، رأى في منامه أنه مع امرأة يجامعها، وظن أنه بذلك نجس الفراش الذي نام عليه، فأخذ الفراش المكون من ثوبين وغمسهما كلهما في الماء، رأته جارية عائشة فأخبرت بذلك أم المؤمنين، فأسفت لما فعل، وقالت: لم أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصبعه، إن كان قد أمنى، فربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعي. ثم أمرت خادمتها أن تدعوه إليها. فجاء، ومن وراء حجاب سلم على أم المؤمنين، فردت السلام، ثم قالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ ولماذا غمستهما كلهما في الماء؟ قال: يا أم المؤمنين. رأيت ما يرى النائم في منامه، فأردت تطهير الثوبين. قالت له: هل رأيت فيهما بللا؟ قال: لا. قالت: لو كنت رأيت بللا لكفاك غسل مكان البلل دون غمس الثوب كله، ولو كنت رأيت يابسا لكفاك فركه بأصبعك، أما وقد اشتبه عليك الأمر، ولم تعرف إن كان قد أصاب الثوب شيء أو لم يصبه؟ ولم تعرف مكان الإصابة إن كان قد أصاب فقد كان يكفيك أن ترش المكان المشتبه فيه ببعض الماء، وأن تنضح المكان المظنون وحوله، طردا للوسوسة والشك وتثبيتا للاطمئنان، ولقد كنت أحك المني اليابس من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأظافري، فيخرج بثوبه هذا، فيصلي فيه.
-[المباحث العربية]-
(أن رجلا نزل بعائشة) الظاهر أنه هو عبد الله بن شهاب الخولاني المصرح به في الرواية الرابعة، وفي الكلام حذف، أي نزل ضيفا ببيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
(فأصبح يغسل ثوبه) جملة "يغسل ثوبه" خبر "أصبح" والمراد من الثوب الجنس، بما يصدق على المثنى والجمع، للتوفيق بين ما هنا وبين الرواية الرابعة "ثوبي" بالتثنية.
(إنما يجزئك أن تغسل مكانه) الضمير في "مكانه" وفي "إن رأيته" يرجع إلى المفهوم من الفحوى والمقام، إذ لم يسبق له ذكر، والمراد به المني الناشئ عن رؤية ما يراه النائم، والمصدر المنسبك من "أن تغسل" فاعل "يجزئك" بضم الياء والهمز.
(فإن لم تر نضحت حوله) مفعول "ترى" محذوف، والمعنى فإن لم تحدد مكانه وتر آثاره نضحت مكانه تقديرا واجتهادا، وزدت على المكان شيئا.
(ولقد رأيتني أفركه فركا) جملة "أفركه" في محل النصب على الحال، أي ولقد رأيتني فاركة إياه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"فركا" مفعول مطلق مؤكد لعامله.
(فيصلي فيه) الضمير المجرور يعود على الثوب الذي أصابه المني ونظف بالفرك.
(عن المني يصيب ثوب الرجل) جملة "يصيب" في محل النصب على الحال من "المنى" وسمي المنى منيا لأنه يمنى، أي يصب، يقال: أمنى، ومني بالتخفيف، ومني بالتشديد، والأولى أفصح، وبها جاء القرآن. قال تعالى:{ألم يك نطفة من مني يمنى} [القيامة: 37]؟ وقال: {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة: 58] وللمني صفات يتميز بها عن غيره مما يخرج من القبل. قال النووي: فمني الرجل في حال صحته أبيض ثخين، يتدفق في خروجه دفعة بعد دفعة، ويخرج بشهوة. ويتلذذ بخروجه، ثم إذا خرج يعقبه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل، قريبة من رائحة العجين، وإذا يبس كانت رائحته كرائحة البيض. هذه صفات، وقد يفقد بعضها مع أنه مني موجب للغسل بأن يرق ويصفر لمرض، أو يخرج بغير شهوة ولا لذة لاسترخاء وعائه، أو يحمر لكثرة الجماع ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا ويكون طاهرا موجبا للغسل. وأما مني المرأة فأصفر رقيق، ولا خاصية له إلا التلذذ، وفتور شهوتها عقب خروجه. اهـ.
(أيغسله) أي: أيغسل المكان الذي أصيب من الثوب؟
(أم يغسل الثوب) كله، ما أصيب وما لم يصب؟
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني) من ثوبه، أي يزيله عن ثوبه بالغسل، أو يغسل مكانه من الثوب، وإسناد الغسل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم قيل: على سبيل الحقيقة، وأنه فعل ذلك بنفسه، وقيل: على سبيل المجاز وأن التي كانت تغسل زوجه، والثاني هو الموافق لعموم الروايات، وإن جاز أن يكون قد فعل ذلك بنفسه مرة تواضعا ومشاركة.
(ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه) جملة "وأنا أنظر" إلخ حال من فاعل "يخرج" والرابط محذوف، أي يخرج في حالة نظري إلى أثر غسل ثوبه، أو من "الثوب" أي يخرج بثوبه المبلل حالة كونه منظورا إليه مني. والجملة كناية عن الخروج بالثوب مبللا، وعدم انتظار الجفاف، للحاجة إلى الخروج إلى الصلاة، وعدم وجود غير الثوب المبلل.
(فاحتلمت في ثوبي) في القاموس: حلم بفتح اللام، واحتلم رأى رؤيا والاحتلام الجماع في النوم. اهـ. وفي الكلام حذف، والأصل رأيت رؤيا جماع وأنزلت في ثوبي.
(فغمستهما في الماء) أي غمست الثوبين في الماء لغسلهما، والظاهر أنه غمس الثوبين كلهما، ولم يكتف بغمس مكان الإصابة منهما.
(رأيت ما يرى النائم في منامه) المراد من الموصول رؤيا الجماع، لا أي رؤيا وهذا أدب رفيع في التعبير عما يستهجن.
(هل رأيت فيهما شيئا) المراد من الشيء المني، والمعنى هل رأيت في الثوبين بلل المني؟ أو جرمه أو أثره؟
(لو رأيت شيئا غسلته) الأسلوب يتسم بالإنكار، أي لو كنت رأيت شيئا لحسن غسلك، لكن حيث لم تر شيئا فما كان ينبغي لك أن تغسل معتقدا وجوب الغسل.
وقال النووي: قولها "فلو رأيت شيئا غسلته" هو استفهام إنكار، حذفت منه الهمزة، وتقديره: أكنت غاسله معتقدا وجوب غسله؟ . اهـ. وتقدير الاستفهام هنا بعيد متكلف.
(أحكه يابسا بظفري) أي أفركه جافا وأحكه بظفري.
-[فقه الحديث]-
ذهب الشافعي وأحمد وإسحق وداود إلى أن المني طاهر، وأنه لا يفسد الماء إن وقع فيه، وأن حكمه في ذلك حكم النخامة، واستدلوا: بأحاديث الباب وهي تفيد الغسل تارة والفرك أخرى، فحملوا الغسل على الاستحباب للتنظيف، لا على الوجوب، قالوا: وبهذا يعمل بالأحاديث وبالقياس معا، لأنه لو كان نجسا لكان القياس وجوب غسله، دون الاكتفاء بفركه، كالدم وغيره وقالوا: ما لا يجب غسل يابسه، لا يجب غسل رطبه، كالمخاط، فسقوط الغسل في يابسه يدل على طهارته.
كما استدلوا بقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] وتكريمه لا يتناسب وجعل أصله نجسا، وبقوله تعالى:{وهو الذي خلق من الماء بشرا} [الفرقان: 54] فقد سماه ماء، وهو في الحقيقة ليس بماء، فدل على أنه أراد به التشبيه في الحكم، ومن حكم الماء أن يكون طاهرا.
وقالوا: إن المني أصل الأنبياء والأولياء، فيجب أن يكون طاهرا.
كما استدلوا بما رواه ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها "كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر [أي تمسح المني الرطب بعود من الإذخر وهو نبت طيب الرائحة] ثم يصلي فيه، وتحته من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه" فإن هذا الحديث يتضمن ترك الغسل في الحالتين. وبما رواه أيضا عن عائشة "أنها كانت تحكه من ثوبه صلى الله عليه وسلم".
قالوا: وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك، فليس في حديث الغسل ما يدل على نجاسة المني، لأن غسلها فعل، وهو لا يدل على الوجوب بمجرده قاله الحافظ ابن حجر.
وذهب مالك وأبو حنيفة وآخرون إلى أن المني نجس، أما المالكية فلم يعرفوا الفرك والعمل عندهم على وجوب غسله رطبا ويابسا.
وحمل بعضهم أحاديث الفرك على الدلك بالماء، وهو مردود برواية مسلم -الرواية الرابعة في الباب- وفيها "وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري" وقال بعضهم: الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم، والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة والثياب النجسة بالغائط والبول والدم لا يطهرها الفرك، ومع ذلك لا بأس بالنوم فيها، ولا تجوز الصلاة فيها حتى تغسل، فالمني كذلك، وهذا القول مردود أيضا بما جاء في مسلم، في الرواية الأولى بلفظ "ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا، فيصلي فيه" فهذا الحديث نص في فرك ثوب الصلاة. قالوا: يحتمل أن يكون في هذا الحديث حذف وأصله "ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا [فأغسله] فيصلي فيه فالفاء في "فيصلي فيه" عاطفة على محذوف. قلنا: هذا احتمال بعيد واه، إذ الأصل في الفاء أنها للترتيب والتعقيب.
وقال بعضهم: إن أحاديث فرك ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم لا تدل على تطهير المني بالفرك لاحتمال أن مني النبي صلى الله عليه وسلم طاهر خصوصية له. قلنا: إن الخصوصية لا تثبت بالاحتمال ولو كان خصوصية لكانت عائشة أعلم الناس بها، ولما أنكرت على ضيفها الغسل، ولما قالت عنه لجاريتها في رواية الترمذي "إنما يكفيه أن يفركه بأصبعه".
قال الحافظ ابن حجر: وعن تقدير صحة كونه من الخصائص أن منيه كان عن جماع فيخالط مني المرأة. اهـ. يعني إن كان منيه صلى الله عليه وسلم طاهرا وصح فركه فكيف صح فركه حين امتزج بمني غيره؟ وهذا الرد ضعيف لاحتمال أن المرأة لم تمن في هذه المرة فالامتزاج غير ثابت. والأولى ما رددنا به أولا.
وأما الحنفية فقد قالوا: إن المني نجس، والقياس وجوب غسله مطلقا رطبا ويابسا، ولكن خص هذا العموم بحديث الفرك يابسا، فالفرك بخصوص المني اليابس مطهر.
قال العيني مدافعا عن الحنفية: فإن قلت: ما لا يجب غسل يابسه لا يجب غسل رطبه كالمخاط؟ قلت: لا نسلم أن القياس صحيح، لأن المخاط لا يتعلق بخروجه حدث ما أصلا، والمني موجب لأكبر الحدثين وهو الجنابة. اهـ. وهذا دفاع واه، كما لا يخفى، لأن موطن النزاع عين المني وجرمه، هل هو طاهر أو نجس، وليس النزاع في أثر خروجه، فقد تحدث الجنابة بالطاهر، كالتقاء الختانين دون إنزال.
ودافع مرة ثانية، فقال: فإن قلت: سقوط الغسل في يابسه يدل على الطهارة؟ قلت: لا نسلم ذلك، كما في موضع الاستنجاء. اهـ. وهذه مغالطة مكشوفة لأن النزاع: هل الفرك يطهر النجاسة أو لا بد من غسلها، ولم يقل الحنفية ولا غيرهم إن الأحجار تطهر من الغائط، وإنما تبيح الصلاة مع وجود أثر النجاسة بل الغسل ساقط في الرطب في الاستنجاء بالأحجار فالمقصود من قولهم هو: سقوط الغسل في اليابس عند تطهير ما يجب تطهيره يدل على الطهارة، وسقوط الغسل عند الاستنجاء ليس عند تطهير المحل، بل عند استباحة الصلاة.
ثم دافع مرة ثالثة فقال: قياسكم المني على الدم قياس فاسد، لأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاء في يابس المني على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص. اهـ. وكان الأولى بالعيني أن يقول: قياسكم قياس صحيح، لكنا [أهل الرأي والقياس] تركنا القياس هذه المرة واقتصرنا على النص.
ودافع مرة رابعة فقال: والرد على الحنفية برواية ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها "كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، وتحته من ثوبه يابسا، ثم يصلي فيه" وأن هذه الرواية تدل على ترك الغسل في الحالتين. قال: هذا الرد غير صحيح وليس فيه دليل على طهارته، وقد يجوز أن يكون عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك. فيطهر الثوب، والحال أن المني في نفسه نجس. اهـ. وهذا الدفاع من العيني أو هي دفاع، إذ لم يقل الحنفية ولا غيرهم أن نجاسة ما رطبة، أصابت ثوبا، فتشربها، يمكن تطهيره بمسحها بعود من نبات. والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-
1 -
جواز سؤال النساء عما يستحيا منه، لمصلحة تعلم الأحكام.
2 -
وخدمة المرأة زوجها في غسل ثيابه ونحو ذلك، خصوصا إذا كان من أمر يتعلق بها، وهو من حسن العشرة وجميل الصحبة.
3 -
خروج المصلي إلى المسجد بثوبه الذي غسل، قبل جفافه.
4 -
استدل بعضهم بقولها في الرواية الثالثة: "وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه على أن بقاء الأثر بعد زوال العين في إزالة النجاسة وغيرها لا يضر. ذكره الحافظ ابن حجر.
5 -
قال النووي: وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على طهارة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف مشهور عندنا وعن غيرنا، والأظهر طهارتها وتعلق المحتجون بهذا الحديث بأن قالوا: الاحتلام مستحيل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من تلاعب الشيطان بالنائم، فلا يكون المني الذي على ثوبه صلى الله عليه وسلم إلا من الجماع، ويلزم من ذلك مرور المني على موضع أصاب رطوبة الفرج، فلو كانت الرطوبة نجسة لتنجس بها المني، ولما تركه في ثوبه، ولما اكتفى بالفرك.
والله أعلم