المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ٢

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌(101) باب الشفاعة

- ‌(102) باب شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته

- ‌(103) باب من مات على الكفر فهو في النار

- ‌(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا

- ‌(105) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب

- ‌(106) باب من مات على الكفر لا ينفعه عمل

- ‌(107) باب موالاة المؤمنين والبراءة من موالاة الكافرين

- ‌(108) باب دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون

- ‌(109) باب نصف أهل الجنة من هذه الأمة

- ‌كتاب الطهارة

- ‌(110) باب فضل الوضوء

- ‌(111) باب لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول

- ‌(112) باب الوضوء من الحدث

- ‌(113) باب صفة الوضوء وكماله

- ‌(114) باب فضل إحسان الوضوء والمشي إلى المسجد والصلاة وانتظار الصلاة والجمعة إلى الجمعة

- ‌(115) باب الذكر المستحب عقب الوضوء

- ‌(116) باب إسباغ الوضوء وغسل الأعقاب

- ‌(117) باب فضل إحسان الوضوء

- ‌(118) باب فضل إحسان الوضوء

- ‌(119) باب السواك

- ‌(120) باب خصال الفطرة

- ‌(121) باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة

- ‌(122) باب المسح على الخفين

- ‌(123) باب كراهة غمس المتوضئ يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا

- ‌(124) باب حكم نجاسة الكلب

- ‌(125) باب البول والاغتسال في الماء الراكد

- ‌(126) باب إزالة النجاسات إذا حصلت في المسجد

- ‌(127) باب حكم بول الطفل الرضيع

- ‌(128) باب حكم المني

- ‌(129) باب نجاسة الدم وكيفية غسله

- ‌(130) باب وجوب الاستبراء من البول وعقوبة من يتهاون فيه

- ‌كتاب الحيض

- ‌(131) باب مباشرة الحائض فوق الإزار والاضطجاع معها في لحاف واحد

- ‌(132) باب طهارة يد الحائض وسؤرها وحجرها

- ‌(133) باب حكم المذي

- ‌(134) باب وضوء الجنب قبل نومه وغسل فرجه قبل أكله أو شربه أو جماعه

- ‌(135) باب مني المرأة ووجوب الغسل عليها بخروجه

- ‌(136) باب الصفة الكاملة لغسل الجنابة

- ‌(137) باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة

- ‌(138) باب استحباب إفاضة الماء ثلاثا في الغسل

- ‌(139) باب نقض ضفائر المرأة عند الغسل

- ‌(140) باب استعمال المرأة قطعة من المسك عند غسلها من الحيض

- ‌(141) باب المستحاضة وغسلها وصلاتها

- ‌(142) باب قضاء الحائض الصوم دون الصلاة

- ‌(143) باب حفظ العورة والتستر عند البول والاغتسال

- ‌(144) باب وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل

- ‌(145) باب الوضوء مما مست النار ومن لحوم الإبل

- ‌(146) باب من تيقن الطهارة وشك في الحدث

- ‌(147) باب طهارة جلود الميتة بالدباغ

- ‌(148) باب التيمم

- ‌(149) باب المسلم لا ينجس

- ‌(150) باب أكل المحدث الطعام وذكر الله حال الجنابة

- ‌(151) باب ما يقول إذا دخل الخلاء

- ‌(152) باب نوم الجالس لا ينقض الوضوء

- ‌كتاب الصلاة

- ‌(153) بدء الأذان

- ‌(154) باب ألفاظ الأذان والإقامة وشفع الأذان وإيتار الإقامة

- ‌(155) باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد

- ‌(156) باب ما يقول إذا سمع الأذان

- ‌(157) باب فضل الأذان

- ‌(158) باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع وفي الرفع من الركوع

- ‌(159) باب التكبير عند الرفع والخفض في الصلاة

- ‌(160) باب قراءة الفاتحة في كل ركعة

- ‌(161) باب البسملة

- ‌(162) باب وضع اليدين على الصدر في الصلاة

- ‌(163) باب التشهد في الصلاة

- ‌(164) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد

- ‌(165) باب التسميع والتحميد والتأمين

- ‌(166) باب ائتمام المأموم بالإمام

- ‌(167) باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ونسخ القعود خلف الإمام القاعد لعذر ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(168) باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام وتسبيح الرجل وتصفيق المرأة في الصلاة إذا نابهما شيء

- ‌(169) باب الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها

- ‌(170) باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما ومتابعة الإمام والعمل بعده

- ‌(171) باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة

- ‌(172) باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد فيها

- ‌(173) باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها

- ‌(174) باب أمر المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رءوسهن من السجود حتى يرفع الرجال

- ‌(175) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة

- ‌(176) باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة

- ‌(177) باب الاستماع للقراءة

- ‌(178) باب الجهر في القراءة في الصبح والقراءة على الجن

الفصل: ‌(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا

(104) باب ما جاء في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغني عن الكافرين شيئا

369 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال "يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار. فإني لا أملك لكم من الله شيئا. غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها". بهذا الإسناد وحديث جرير أتم وأشبع.

370 -

عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: "يا فاطمة بنت محمد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم".

371 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]"يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله. لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئت. لا أغني عنك من الله شيئا". نحو هذا.

ص: 40

372 -

عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو رضي الله عنهما؛ قالا: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] قال انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل. فعلا أعلاها حجرا. ثم نادى "يا بني عبد منافاه! إني نذير. إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله. فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف: يا صباحاه". بنحوه.

373 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: لما نزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا. فهتف "يا صباحاه! " فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال "يا بني فلان! يا بني فلان! يا بني فلان! يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! " فاجتمعوا إليه فقال "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ " قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال فقال: أبو لهب تبا لك؛ أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام. فنزلت هذه السورة: {تبت يدا أبي لهب وقد تب} [المسد: 1]. كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.

374 -

عن الأعمش، بهذا الإسناد. قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا فقال "يا صباحاه! " بنحو الحديث السابق. ولم يذكر نزول الآية: {وأنذر عشيرتك الأقربين} .

-[المعنى العام]-

لرفع المحاباة، وللترغيب في دعوة الإسلام، للإشعار بأنها الخير كل الخير، أمر صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بدعوة قومه وعشيرته وأقربائه، بل أن يبدأ بأقرب الناس إليه داعيا له، ومنذرا إياه من عذاب شديد، فقال جل شأنه:{وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] وبادر صلى الله عليه وسلم فصدع بما أمر، فصعد الصفا، الذي قدسه العرب كشعيرة من شعائر الحج، ثم وضع إصبعيه في أذنيه،

ص: 41

وهتف بأعلى صوته: يا صباحاه. يا صباحاه. يا صباحاه، يا معشر قريش يا بني فهر، فاجتمعوا، يا بني لؤي، فأجاب بنو الأروم بن غالب، يا آل كعب، يا آل كلاب، يا آل قصي، يا آل عبد مناف، يا بني هاشم، يا بني المطلب، فاجتمعوا، وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، قال له أبو لهب: هؤلاء عبد مناف عندك. ماذا تريد منهم؟ فقال: أخبروني. لو أنبأتكم أن عدوا لكم جاء بخيله خلف هذا الوادي، يريد أن يغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. فوالله ماجربنا عليك كذبا، وإنك عندنا لصدوق. قال: فإني رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد، يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار بالإيمان. يا بني مرة: اشتروا أنفسكم من الله بالإسلام، يا بني عبد شمس؛ أنقذوا أنفسكم من النار بالإسلام، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، أنقذ نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، أنقذي نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئا، سليني من مالي ما شئت، فقد أنفعك، لكن لا تتكلي علي فإني لا أملك لك من الله شيئا إن لم تؤمني.

فقال أبو لهب: تبا وخسرانا وهلاكا لك يامحمد. ألهذا جمعتنا؟ ألهذا القول الساحر دعوتنا؟ وأخذ حجرا يريد أن يرمي به محمدا صلى الله عليه وسلم، وهاج الناس وماجوا، وأخذ يناقش بعضهم بعضا، ونزل صلى الله عليه وسلم، فدافع الله عنه، وأجاب عنه أبا لهب بقوله جل شأنه:{تبت يدا أبي لهب وتب* ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى نارا ذات لهب} [المسد: 1 - 3] وحقق الله وعده فهلك أبو لهب حسرة وكمدا حين هزمت قريش في غزوة بدر، وأتم الله نوره رغم أنف الكافرين.

-[المباحث العربية]-

{وأنذر عشيرتك الأقربين} أي ذوي القرابة القريبة، والعشيرة رهط الرجل الأدنون، أو هم أهل الرجل الذي يتكثر بهم، أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وهو العشرة.

(دعا قريشا فاجتمعوا فعم وخص) يقال عمهم بكذا، أي شملهم، فالمعنى عم قريشا بالدعوة وشملها، فقال: يا معشر قريش، وخص بعض بطونها، فقال: يا بني كعب إلخ، فالفاء في قوله:"فعم" للتفصيل، مثلها في قولنا: توضأ فغسل وجهه إلخ، وقوله:"فاجتمعوا" مقدمة من تأخير، والتقدير: دعا قريشا بطريق التعميم والتخصيص فاجتمعوا.

(أنقذوا أنفسكم من النار) بالإيمان، وفي الرواية الثالثة "اشتروا أنفسكم من الله" أي باعتبار تخليصها من النار، كأنه قال: أسلموا تسلموا من العذاب، فكان ذلك كالشراء، كأنهم جعلوا الطاعة ثمن النجاة.

ص: 42

(غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) يقال: بل رحمه إذا وصلها، من باب كتب، والبلال بكسر الباء الماء، وروي بفتح الباء، والمعنى: غير أن لكم رحما سأصلها بوصلها الحق، شبهت قطيعة الرحم بالحرارة، ووصلها بإطفاء الحرارة بالبرودة.

(قام رسول الله على الصفا) الصفا الحجر الصلد الضخم لا ينبت، والصفا من مشاعر الحج، طرف جبل أبي قبيس، وفي الرواية الرابعة "انطلق نبي الله إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، و"الرضمة" بفتح الراء وإسكان الضاد وفتحها، جمعها رضم ورضام، وهي صخور عظام بعضها فوق بعض. وقيل هي دون الهضاب: وقيل: الرضمة الحجارة المجتمعة ليست ثابتة في الأرض، كأنها منثورة، وقوله: "فعلا أعلاها حجرا" "حجرا" مفعول "علا" و"أعلاها" حال من "حجرا" وأصله صفة، فلما قدمت أعربت حالا، والتقدير: فعلا حجرا كائنا أعلاها.

(يا فاطمة بنت محمد)"بنت" و "ابن" فيها، وفي أمثالها منصوب لا غير، لأنه مضاف تابع للمنادى، و"فاطمة" و"صفية" و"عباس" يجوز ضمها ونصبها، والنصب أفصح وأشهر، وفي بعض الأصول "يا فاطم" بحذف الهاء على الترخيم، فيصح ضم الميم وفتحها.

(سلوني من مالي ما شئتم) أي فإني أعطيكم ما تسألون، ولكن لا تسألوني دفاعا عنكم عند الله إن لم تسلموا وتعملوا خيرا، وفي الرواية الثالثة "سليني بما شئت" و"سأل" تتعدى بنفسها وبعن وبالباء، ففي القاموس: سأله كذا وعن كذا وبكذا.

(قال: انطلق نبي الله)"قال" معناه: قالا، لأن المراد أن قبيصة وزهير قالا، ولكن لما كانا متفقين، وهما كالرجل الواحد أفرد فعليهما، ولو حذف لفظة "قال" كان الكلام واضحا منتظما، ولكن لما حصل في الكلام بعض الطول حسن إعادة "قال" للتأكيد، ومثله في القرآن العزيز {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35] فأعاد لفظ "أنكم". ذكره النووي.

(يا بني عبد منافاه) هذا هو المسمى بالندبة في عرف النحاة وهي نوع من النداء، يزيد على النداء أن المنادى فيه متفجع عليه. ويلحق آخر المنادى والمندوب ألف يفتح ما قبلها، وإذا وقف عليه لحقه بعد الألف هاء السكت.

(فانطلق يربأ أهله) أي يحفظهم، ويحميهم، ويتطلع لهم و"يربأ" على وزن "يقرأ" والربئة بفتح الراء وكسر الباء وبالهمزة المفتوحة، هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلا يدهمهم العدو، ولا يكون في الغالب إلا على جبل، أو شيء مرتفع، لينظر إلى أبعد.

(فجعل يهتف: يا صباحاه)"يهتف" يعني يصيح ويصرخ و"يا صباحاه" كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم، فيقولونها ليجتمعوا ويتأهبوا له، وهي منادى، مندوب وأصلها مضاف إلى ياء المتكلم "يا صباحي" فقلبت الياء ألفا في النداء، أو حذفت من أجل ألف الندبة، والهاء للسكت.

ص: 43

(ورهطك منهم المخلصين) في القاموس: "الرهط" ويحرك. قوم الرجل وقبيلته، ومن ثلاثة أو سبعة إلى العشرة، وما فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه. اهـ. والمراد هنا القوم، و"المخلصين" بفتح اللام، وهي صفة المؤمنين، و"من" تبعيضية، وهو من عطف الخاص على العام تنويها به وتأكيدا.

(أرأيتكم لو أخبرتكم)"أرأيتكم" معناه أخبروني، عن طريق مجازين: الأول في الاستفهام، بأن تريد معه مطلق الطلب، بدلا من طلب الفهم، بعلاقة الإطلاق بعد التقييد، والثاني: في الرؤية بأن تريد منها لازمها وهو الإخبار، فآل المعنى إلى طلب الإخبار، المدلول عليه بلفظ أخبروني.

(أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل) أي الأعداء، وفي رواية "تريد أن تغير عليكم" وسفح الجبل أسفله، وقيل: عرضه، والمشار إليه جبل أبي قبيس، حيث كان وافقا على طرفه.

(أكنتم مصدقي) بتشديد الياء، وأصله أكنتم مصدقين إياي، فالياء الأولى علامة النصب، والياء الثانية ضمير المفعول وحذفت النون للإضافة.

(فقال أبو لهب: تبا لك)"أبو لهب" بفتح الهاء وسكونها عم النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وأمه خزاعية، وكني أبا لهب إما بابنه لهب، وإما بشدة حمرة وجنته، ووافق ذلك ما آل إليه أمره، من أنه سيصلى نارا ذات لهب، ومات بعد وقعة بدر، ولم يحضرها، بل أرسل عنه بديلا، فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما وكمدا، وقوله:"تبا لك" أي خسرانا لك، مصدر محذوف فعله.

(تبت يدا أبي لهب) في القاموس: تبت يداه ضلتا وخسرتا، والجملة دعائية معنى، أو خبرية لفظا ومعنى.

(وقد تب كذا قرأ الأعمش) أي هكذا قرأها الأعمش يومئذ بزيادة "قد" وليست هذه القراءة فيما نقل القراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيا، لا قارئا، والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده، والجملة على هذه القراءة حالية ويمتنع أن تكون دعائية؛ لأن "قد" لا تدخل على أفعال الدعاء، أما على القراءة الأخرى بحذف "قد" فيجوز أن تكون دعائية، ويجوز أن تكون حالية، و"قد" معها مقدرة، فيكون دعاء عليه بهلاكه كله، أو يكون إخبارا بما سيحصل، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع.

قال الفراء: الأول: "تبت يدا أبي لهب" دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله تعالى:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] والثاني إخبار بالحصول، أي وكان ذلك وحصل. اهـ. وقيل: الأول: إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده، ولم ينفعه، لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا، والثاني إخبار عن هلاك نفسه. اهـ. والظاهر أن كل من يقول: إنها إخبار يقول بأنها من قبيل التعبير عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، أو إخبار عما وقع في علم الله وقضائه.

ص: 44

-[فقه الحديث]-

قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث من مراسيل الصحابة، لأن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة، وهذه القصة وقعت بمكة، لتصريحه في حديث الباب أنه صعد الصفا، ولأن ابن عباس كان حيئنذ إما لم يولد، وإما كان طفلا. اهـ.

كما أن عائشة لم يتجاوز سنها بمكة ثماني سنوات على أرجح الأقوال.

ويشكل على الحديث نداء فاطمة في الرواية الثانية والثالثة، وهي لم تكن بالغة بحيث تخاطب بالأحكام، ويمكن أن يجاب على هذا الإشكال بأن نداءها لم يكن لتكليفها بالأحكام، وإنما ليعلن لقريش أنه لا يملك لها شيئا عند الله إن لم تعمل لنفسها بعد بلوغها، وإن كان يملك أن يعطيها من ماله ما تسأل.

ووجه تخصيص عشيرته صلى الله عليه وسلم الأقربين بالإنذار مع عموم رسالته دفع توهم المحاباة، وأن الاهتمام بشأنهم أهم، وأن البداءة تكون بمن يلي، ثم من بعده. وقال الحافظ ابن حجر: والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع، وألا يأخذه ما يأخذ القريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نص له على إنذارهم. اهـ.

وأفرد صلى الله عليه وسلم فاطمة وصفية في الرواية الثانية، وعباس في الرواية الثالثة لشدة قرابتهم، ولشدة صلته بهم من بين قراباته، وفاطمة كانت أصغر أولاده، وللصغير زيادة محبة، فإذا انتفى نفعه لمن يحب من أقاربه، ومن يحرص على نفعه، انتفى عن غيره من باب أولى.

وقد جاء في الرواية الخامسة زيادة "ورهطك منهم المخلصين" قال الحافظ ابن حجر: وهذه الزيادة وصلها الطبري عن عمرو بن مرة أنه كان يقرؤها كذلك. قال القرطبي: لعل هذه الزيادة كانت قرآنا فنسخت تلاوتها، ثم استشكل ذلك بأن المراد إنذار الكفار، والمخلص صفة المؤمن، وأجيب عن ذلك: أنه لا يمتنع عطف الخاص على العام، فقوله:"وأنذر عشيرتك الأقربين" عام بمن آمن منهم ومن لم يؤمن، ثم عطف عليه الرهط المخلص تنويها بهم وتأكيدا.

واستدل بعض المالكية بقوله في الروايتين الثانية والثالثة "يا فاطمة بنت محمد -بنت رسول الله-

لا أغني عنكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم" على أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذا لو جاز ذلك لتحمل صلى الله عليه وسلم عن فاطمة ما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع، ورد عليهم بأن هذا كان من قبل أن يعلمه تعالى بأن يشفع فيمن أراد، وتقبل شفاعته حتى يدخل الجنة قوما بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه من المؤمنين، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير، أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون في قوله: "لا أغنى شيئا" إضمار: إلا أن يأذن الله لي بالشفاعة.

ص: 45

-[ويؤخذ من الحديث]-

1 -

استحباب القيام على عال أو مرتفع من الأرض لإبلاغ الدعوة أكبر عدد، فإن فيه انتشار الصوت، مع تمكين السامعين من مشاهدة المتكلم مما يساعد على استقرار الكلام في النفوس.

2 -

مشروعية الهتاف بيا صباحاه ونحوها، لجمع الناس، وقد ورد عند الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع أصابعه في أذنه ورفع صوته.

3 -

وضوح بيانه صلى الله عليه وسلم وقوة حجته، إذا أخذ إقرارهم أولا على صدقه في مهام أمورهم وأخطرها قبل أن يخبرهم وينذرهم.

4 -

صبره صلى الله عليه وسلم على إيذاء قومه، بل على إيذاء من هو أقرب الناس إليه وهو عمه، فقد روي "أن أبا لهب أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل قوله تبا لك".

5 -

قال القاضي عياض: استدل به وبالسورة على جواز تكنية الكافر، وقد اختلف العلماء في ذلك، واختلفت الرواية عن مالك في جواز تكنية الكافر، بالجواز والكراهة.

وقال بعضهم: إنما يجوز من ذلك ما كان على جهة التآلف وإلا فلا، إذا في التكنية تعظيم وتكبير، وأما تكنية الله تعالى لأبي لهب فليست من هذا، ولا حجة فيه، لأنه قد ترك اسمه لقبحه لأن اسمه عبد العزى، وهذه التسمية باطلة، فلهذا كني عنه، وقيل: لأنه إنما كان يعرف بها، وقيل: إن أبا لهب لقب، وليس بكنية، وكنيته أبو عتبة، وقيل: إنما ذكر بهذه الكنية للإشارة إلى مايؤول إليه أمره من لهب جهنم، وذهب جماعة إلى أن الكنية لا تدل بمجردها على التعظيم، بل قد يكون الاسم أشرف من الكنية، ولهذا ذكر الله الأنبياء عليهم السلام بأسمائهم، دون كناهم.

والله اعلم

ص: 46