الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابق فاللازم التسلسل إلى أن ينتهي إلى الوضع الأول فيدور. وأجيب: بمنع توقف المعرفة على تعريفهما أو التعريف عليها فربما يعرف بالترديد وقرينة الإشارة كما في الأطفال. (ج) في طريق معرفة الوضع قد مر أن النقل متواترًا فيما يفيد القطع وآحادًا فيما يطلب فيه الظن سواء كان في معاني المفردات المادية والصيغية أو المركبات من حيث أصل المعنى أو معنى المعنى أو الخصوصيات الزائدة عليهما العارضة للهيئات الشخصية لتشخص المقام فليس معناه النقل مستقل فيه من غير مدخل للعقل كيف وصدق المخبر عقلي ولا بد منه كما مر بل وقد يحتاج إلى ضميمة عقلية يستنبطها من النقل كمعرفة أن الجمع المحلا باللام موضوع للعموم بطريق أنه يدخله الاستثناء وكل ما يدخله عام فالكبرى ضميمة استفادها العقل من قولهم الاستثناء لإخراج ما لولاه لوجب دخوله.
وأما المبادئ الأحكامية فأربعة أقسام
لأن الحاكم يحكم على المكلف بالجواز ونحوه أو التعلق الشرعي بشيء في فعله ففيه بحث عن الحاكم والحكم أي المحكوم به والمحكوم عليه وآخر بحثه لاستدعائه مجالا أكثر.
القسم الأول في الحاكم
الحاكم في حسن الفعل وقبحه في حكم الله تعالى أعنى كونه مناطًا للمدح عاجلًا والثواب آلًا أو للذم والعقاب هو الشرع عند الأشاعرة لا بمعنى أن لا فائدة للعقل فإنه آلة فهم الخطاب ومعرفة صدق الناقل بمعنى أنه قبل ورود الشرع لا يعرف ما ينبغي أن يكون مأمورًا به أو منهيًا عنه شرعًا فالشرع هو المثبت والمبين ولو عكس القضية فحسن ما قبحه وبالعكس لم يكن ممتنعًا (1) والعقل عند المعتزلة والكرامية لا بمعنى أن لا فائدة للشرع فإنه ربما يظهر أنه مقتضى العقل الحاكم عند خفاء الاقتضاء وإن لم يظهر وجه اقتضائه كما في وظائف العبادات بل بمعنى أنه يقتضي المأمورية والممنوعة شرعًا وإن لم يرد كما أنه يحكم على الله بوجوب الأصلح وحرمة تركه عندهم وليس له أن يعكس القضية فالعقل مثبت في الكل والشرع مبين في البعض والمختار أن الحاكم والموجب هو الله تعالى عن أن تحكم عليه غيره والعقل المتعارف حسن بعض ما حكم الله به وقبحه بتوفيق الله تعالى وإيقافه وإن لم يرد الشرع إما بلاكسب كحسن الصدق النافع أو معه لكن لا بطريق للتوليد أو الإيجاب بل يخلق الله تعالى عادة عقيب النظر الصحيح كما مر
(1) انظر/ إحكام الأحكام للامدي (1/ 113) نهاية السول للإسنوي (1/ 258)، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (1/ 25).
كحسن الكذب النافع وكثير منهما ليس للعقل مدخل في معرفته فالشرع مثبت في الكل والعقل مبين في البعض وإنما يضاف الأحكام إلى العدل في الشرعيات والعقليات بالعقل تيسيرًا على العباد لأن إيجاب الله غيب، لا لأن العقل موجب بل فاهم ويصدق على حكم المسألة الاجتهادية أنه لله تعالى باعتبار أنه له عند المجتهد والصدق باعتبار كاف في أصل الصدق ولا ينافيه الخطأ لأنه في زعم المجتهد لا في حكم الله تعالى.
ولتحرير المبحث مقدمات
1 -
أن النزاع لا في مطلق الجن والقبح فإنهما في الصفات عقليان اتفاقًا فكل صفة توجب ارتفاع شأن المتصف بها حسنة وكل صفة توجب انحطاطه قبيحة وهما المعبر عنهما بصفة الكمال والنقصان فذكر الفعل احتراز عنهما.
2 -
أن حسن الفعل وقبحه يستعملان في ثلاث معان ليس شيء منها محلًا للنزاع إضافية كالقبلية لا ذاتية كالسواد ففي حكم الله احتراز عن هذه المعافي الثلاث أحدهما موافقة غرض الفاعل ومخالفته كقتل زيد لعدوه ووليه فما ليس موافقاً ولا مخالفًا من أفعال العباد يسمى عبثًا وفعل الله لا يوصف بهما لتنزهه عن الغرض عندنا ويرادفه الاشتمال على المصلحة التي هي اللذة أو وسيلتها والمفسدة التي هي الألم أو وسيلته وملائمة الطبع ومنافرته أخص منه من وجه والأول أولى لشمول الثاني الصفات وثانيها أمر الشارع بالثناء على فاعله كالواجب والمندوب أو بالذم كالحرام ويختلف بالأشخاص كصلاة الجمعة للرجل والمرأة الشابة وبالأحوال كأكل الميتة للمضطر وغيره وبالأزمان كالصوم في آخر رمضان وأول شوال لا يقال هذا شرعي قطعًا لأن من المحتمل حكم العقل قبل ورود الشرع أن هذا مما يستحق فاعله المدح أو الثناء في نظر الشرع فالمباح والمكروه ليس بحسن ولا قبيح وكذا فعل غير المكلف من الأناسي وثالثهما أن لا يكون في فعله حرج أي إثم أو يكون وقد يقال أن لا يكون منهيًا عنه شرعًا أو يكون، ويختلف كالثاني فالواجب والمندوب والمباح وفعل غير المكلف وكذا المكروه حسن وكذا فعل الله حسن بالمعنين الأخيرين لكن بالثالث مطلقًا وبالثاني بعد ورود الشرع لا قبله كما تخيله بعض إلَاّ صحاب من تعلق الأمر بالمعدوم بتقدير وجوه وإن كان وجود الفعل قبله فإنا مأمورون بعد ورود الشرع بالبناء على جميع أفعاله وقد وقع في المرصاد أن النزاع في الأخيرين ولعله أراد استلزامهما للمعنى المتنازع فيه المار وإلا ففيه بحث فإنه بعض محل النزاع لأن بعض ما لم يرد الشرع بالبناء والذم أو بالإثم وعدمه يتصف بهما عندهم لو أراد أنهما أيضًا
فيه الخلاف وقيل: هذه الثلاثة عقلية اتفاقًا غايته أن العقلية عند الأشاعرة لا يكون ذاتية وذلك بمعنى أن موجهما العقل ممنوع.
3 -
أن الفرق بين مذهبنا ومذهب المعتزلة من وجوه: أن الموجب والحاكم هو الله تعالى وأن العقل ونظره آلة للبيان وسبب عادي لا مولد وأن مدخله ليس مطلقًا وبينه وبين مذهب الأشاعرة من وجهين: أنه قد يعرفهما العقل بخلق القول بذلك فيما يتوقف الشرع عليه كوجوب تصديق النبي عليه السلام وإن كان في أول أقواله مثلا وحرمة تكذيبه وإلا لزم الدور والتسلسل وأنه بعد ورود الشرع آلة لمعرفة حسن ما ورد به الشرع وقبحه لا لفهم الخطاب وصدق الناقل فقط فالعقل ليس بمعتبر كل الاعتبار في موجب التكليف لأن الأفعال مستندة إلى الله خلقًا ولأن الوهم بعارضه كثيرا فلا يكلف بالإيمان العاقل قبل البلوغ وشاهق الجبل قبل إدراك الدعوة وزمان التجربة فلا يعذبان إن لم يعتقدا كفرا ولا إيمانًا خلافًا للمعتزلة وكذا لا ترتد المراهقة الغافلة تحت مسلم بين مسلمين إذا عقلت بخلاف الشاهق بعد إدراك أحدهما وإقامة مدة التجربة مقام الدعوة كإقامة أبي حنيفة رحمه الله خمسًا وعشرين مقام الرشد في السفه وليس بمهمل كل الإهمال حتى في الجائزات إذ لا يمكن إبطال العقل لا بالعقل ولا بالشرع المبني عليه كما مر في المسائل السبعة ولأن الأفعال مستندة إلى العباد كسبًا فيعتبر إيمان الصبي العاقل وكفره إذا اعتقده وصف أو لم يصف وترتد المراهقة الواصفة لأن التوجه إليه دليل إدراك زمان التجربة فنيين من زوجها بلا مهر قبل الدخول بخلاف الغافلة ولعظم خطر الأحكام الأصلية لا سيما الأيمان لم يعتبر وجود السبب الظاهر عند العلم بعدم السبب الحقيقي فلم يعذر كفر المراهقة بخلاف رخص السفر مع العلم بعدم المشقة واعتبار الردة مع السبي استحسان منهما لا من أبي يوسف وكذا كفر شاهق الجبل فلا يضمن قاتله خلافًا للأشاعرة والشافعي وإما أنه لا يضمن معذورهم كالصبي والمجنون بل وبالفهم العاقل قبل الكفر فلعدم العصمة بدون الإحراز بدارنا كالصبي والمجنون في دار الحرب فالمذهب أن العقل معتبر شرطًا لا سببًا للصحة مطلقًا وللوجوب عند إنضمام أمر آخر كإرشاد وتنبيه ليتوجه إلى الاستدلال وإدراك مدة التجربة المعينة عليه سواء جعلها الشارع علمًا لذلك كالبلوغ الغالب كما له عنده لتمام التجارب وتكامل القوي أولًا كما في شاهق الجبل وليس في تقديرها في حقه دلالة بل في علم الله تعالى إن لخققت يعذبه وإلا فلا وعلى هذا يحمل قول أبي حنيفة رحمه الله لا عذر لأحد في الجهل بالخالق لقيام الآفاق وإلا نفس
ويعذر في الشرائع إلى قيام الحجة ومن المشايخ حتى أبي منصور من حمله على ظاهره فقال بوجوب معرفة الله تعالى على الصبي العاقل دون عمل الجوارح لضعف البنية والأول هو الموافق لظاهر النص والرواية.
3 -
أن للمعتزلة وتوافقهم الكرامية والبراهمة القائلين بالعقلين الذاتيين للأفعال ضروريًا أو نظريًا لو بحيث يظهرهما الشرع لا يوجبهما مذاهب فقد ماؤهم على أنها لذواتهما كغالية الله عندهم وبعضهم لصفة موجبة حقيقية وعدم استقلال الصفة بدون الذات في التحقيق لا ينافي كونها علة تامة في الاقتضاء كالعلم لعالميتنا عند منبتي الأحوال منهم فإن بين استقلالها في التحقق واستقلالها في الاقتضاء فرقا كما في المشروطة لأجل الوصف أو بشرطه وبعضهم لصفة موجبة في القبح فقط ويكفى في الحسن عدم موجبية القبح والجبائية لصفة موجبة اعتبارية يختلف اختلاف الاعتبار لازمة كل بذاتها لا باعتبارها ويتوقف تعينهما على اعتبارها لا ذاتها كلطم اليتيم للتأديب أو التعذيب بخلاف الإضافية كصلاة الشابة وصوم أول شوال فإن قبحهما لا لأمر في ذات الصلاة والصوم بل من الإضافة، إذا تمهدت. قلنا: في رد غير الجيائية من المعتزلة وجهان:
الأول: أنهما لو كانا ذاتيين في كل من الأفعال المنصفة بهما لم يختلف شيء منهما بأن يجيء الحسن ويذهب القبح أو بالعكس من اختلف إليه القوم لأن ذاتي الشيء لا يختلف ولا يتخيف واللازم باطل لحسن الغنائم لنا بعد قبحها فيما سلف وعكسه تزويج البنات من البنين ومقصودنا إبطال الموجبة الكلية المستلزم لإثبات السالبة الجزئية لا إثبات السالبة الكلية كمقصود الأشاعرة فإبطال اللازم في الأمثلة الجزئية يكفينا ولا يكفيهم والتمثيل يسحن الكذب الذي فيه عصمة نبي من ظالم أو إنقاذ بريء من قاتل إذا تعين طريقًا لهما ولم يمكنه تعريض يتخلص به عن الكذب صحيح على غير الجبائية كما هو المراد لأن التقدير عندهم أن الحسن لكل حسن ذاتي حقيقي تابع للوجود بنصف الفعل به عند وجوده وجوبًا كالتحيز للجوهر ومثله لا يتخلف ولا يختلف بالاعتبار وبهذا يسقطان المراد بالاختلاف إن كان تعدد اللوازم تمنع الملازمة لجواز وجود جهتين يلزم الحسن بأحديهما والقبح بأخرى وإن كان حصول أحدهما وزوال الآخر فزوال القبح في الكذب المذكور ممنوع واستحقاق المدح والثواب ليس لحسن الفعل بل لصفة في فاعله وهو عدول المضطر إلى ارتكاب أحد القبيحي إلى أهونهما كما قال عليه. "امن ابتلى ببليتين
فليتخير أيسرهما" (1) كما يجوز للخائف عن النار إيقاع نفسه في الماء وكما يجوز أن يحلف كاذبًا لمصلحة حفظ الوديعة فقد ظهر من توجيهنا الجواب عن نفيه أما الاعتراض بأن الحسن لازم الكذب وهو تخليص النبي لا هو وكذا بأن التخلف لمانع لا يقدح في الاقتضاء فقد رد بأن الذاتية تمنعهما، وفيه بحث لأن المراد بالذاتية ليس الجزئية أو العينية بل كونهما مقتضى الذات فلا يرتدان بذلك والتحقيق الحاسم للشبه أن المراد بالاختلاف التنافي في الصفات الحقيقية فإن لوازم الأمر الواحد لا يتنافى لأن تنافي اللوازم ملزوم تنافي الملزومات والتقدير أن الحسن لكل حسن والقبح لكل قبيح لازم. الثاني: أنهما لوكانا تبيين لكل من موصوفاتهما لاجتمع النقيضان في قوله لأكذبن غدًا فقيل لأنه إذا لم يتكلم غدًا إلا كلامًا واحدًا فالكلام الغدى إن صدق استلزم الكذب اليومي وإن كذب استلزم صدقه فاجتمع الصدق والكذب أحدهما من نفسه والآخر من استلزمه فإن مستلزم الحسن أو القبيح حسن وقبيح ويمكن تنزله في الكلام اليومي أيضًا لكنه موقوف على فرض الوحدة في الكلام الغدى وعلى أن المستلزم متصف بصفة لازمة فالصحيح أن ينزل في الأخبار بجواب القسم فإنه خبر لا يخ عن الصدق والكذب والإنشاء تعلق القسم به ويقال صدق أخباره وقوع الذي هو الكذب غدًا في الجملة وكل ما هو وقوع الكذب فقبيح وكذا كذبه انتفاء الكذب وكل منه حسن فكل من صدقه وكذبه حسن وقبيح ولا تغفل عن نكتتنا مع الأشاعرة، وللأشاعرة الوجهان، وثالث وهو أنهما لوكانا ذاتين لزم قيام المعنى بالمعنى بخلاف ما لو كانا شرعيين فإنه أمراض في إما الملازمة فلأن الفعل معنى والحسن معنى فالأول ظاهر والثاني لأنه موجود زائد على مفهومه تابع في تحيزه وذلك معنى المعنى أما وجوده فلأن نقيضه وهو الأحسن سلب لصدقه بالاشتقاق على المعدوم إما بالضرورة وإما بأنه لو لم يصدق لصدق الحسن عليه فلم يكن وصفًا ذاتيًا لأن المعدوم لا ذات له فكيف لصفته والحسن من صفات التابعة للوجود عندهم وحاصله أن صدق اللاحسن على المعدوم ثبت المدعي وإن لم يصدق بطل مدعاكم وكل ماكان نقيضه سلبًا كان هو وجودًا وإلا لارتفع النقيضان وإما زيادته فلتعقل الفعل بدونه وإما تبعيته في لخيزه فلأنه حيث الفعل ولذلك يوسف به ها هنا وإن
(1) لا يعرف: لكن يستأنس له بقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا. انظر/كشف الخفاء لعجلوني (2/ 304).
كان الاختصاص الناعت أعم من التبعية في التحيز كما في نفس التحيز وصفات الله تعالى والصفات العقلية والنفسية عند القائلين بتجردهما وإما بطلان اللازم فلأن التحيز المتبوع لمحل الفعل وهو الفاعل لا له لتبعيته أيضًا إذ هما معًا حيث الجوهر كما في الحركة التبعية مع الذاتية في السفينة والأفلاك وقيام الأعراض في المتحيزة التبعية فيه كما للهيولى مع الصورة عند الفلاسفة وفي غيرها التبعية في الوجود كما في صفات الله تعالى وهذا لو كان حقًا لكان مساعدا للأشاعرة لكن فيه نظر من وجوه:
1 -
منع أن الفعل عرض عند المتكلمين فإن أجناس الموجودات عندهم اثنان وعشرون وليس الفعل معدودا منها لا يقال المراد الهيئة التي يكون الفاعل عليها عند الفعل وهو الحاصل بالمصدر لأنا نقول وتلك الهيئة لو وجدت لكانت كفا وليست معدودة في أنواع الكيفيات عندهم.
2 -
أن الأحسن إنما يصدق على المعدوم لو كان سلبًا إذ لو كان عدولا لم يصدق فالاستدلال به على السلبية دور لا يقال نقيض الشيء هو سلبه لا عدوله؛ لأنا نقول ح يكفي ذلك فأي حاجة إلى الاستدلال وجوابه أن صورة السلب لا يلزم أن يكون سلبًا في نفس الأمر والاستدلال لإثبات ذلك.
3 -
أن صحة تفسير قيام الأعراض بالتبعية في التحيز موقوفة على عدم المجردات في الممكنات وذلك ليس بضروري ولذا يذهب إلى وجودها حجة الإِسلام والراغب الأصفهاني وغيرهما والاستدلال عليه بأنها لو وجدت لشاركها الباري ولزم التركيب في ذاته أو بأنه أخص صفات الباري فيلزم إما قدم الحادث أو حدوث القديم ضعيفٌ لأن الاشتراك في العارض لا سيما السلبي لا يوجب التركيب وكونه أخص صفات الباري موقوفٌ على عدمها ففيه مصادرة غير أن الدليل يجب لمثبتها ويكفى لنافيه أن الاعتراف بغير الدليل كعدم الاعتراف بعد الدليل.
4 -
نقض الدليل بالإمكان الثابت للفعل فإنه يقتضي أن لا يكون ذاتيًا وأنه ذاتي لكل ممكن وإلا لزم انقلاب الحقائق.
5 -
أن السلب كما يرد على الوجود نحو ليس كل إنسان بحجر يرد على الثبوت أي الرابطة نحو كل إنسان ليس هو بحجر ويرد على ما ينقسم إلى الموجود والمعدوم كاللامعلوم ولكون الثبوت أعم من الوجود كما في كل ممتنع معدوم لا يقتضي عدم صدق سلبه عليه إلا صدق الثبوت الذي هو أعم من الوجود وصدق الأعم لا يستلزم
صدق الأخص فكون صورة السلب سلب وجود موقوف على كون المسلوب وجود إلا ثبوتًا ولا عدمًا فلو ثبت ذلك بهذا كان دورًا.
6 -
عبارة أخرى للخامس أن أزيد بارتفاع النقيضين ارتفاعهما بحسب الوجود
فبطلان اللازم ممنوع وإن أريد كما في الامتناع واللاامتناع بحسب الصدق فالملازمة، ورابع لهم وهو أن فعل العبد غير مختار وكل غير مختار لا يحكم العقل فيه بحسن ولا قبح بيان الصغرى أنه إن لم يتمكن من تركه فضروري وإن تمكن فإن لم يتوقف على مرجح لزم رجحان أحد المتساوين من غير مرجح ومع ذلك يكون اتفاقيًا فلا يوصف بهما عقلًا اتفاقًا وإن توقف فأما على مرجح من العبد فينقل الكلام إلى الفعل مع ذلك المرجح ويلزم التسلسل وأيضًا يجب عه وإلا لزم رجحان المرجوح وهو أشد استحالة من رجحان أحد المتساوين وإذ لو لم يجب لجاز تركه معه فاحتاج إلى مرجح آخر ولزم التسلسل فتعين توقفه على مرجح لا من العبد فيكون ضروريًا لذلك وللوجهين المذكورين وبيان الكبرى بالإجماع المركب فعند الأشاعرة لعدم الحسن والقبائح عقليين وعند المعتزلة لأن كل حسن أو قبيح عقلًا فعل المتمكن منه ومن العلم بحاله عندهم وكل فعل كذلك نحتار وينعكس القبحة عكس النقيض إليها، قيل: رجحان أحد المتساوين كوجود الممكن إن استحال وجب عدمه لما عرف في الطبقات فلا مساواة فيه، وجوابه: أن المستحيل رجحان الأحد المطلق فهو الواجب عدمه والنكرة في سياق النفي تعم فينعدم كلاهما ويبقي المساواة وبهذا الدليل اختاروا الجبر ونفي تأثير قدرة العبد أصلًا كما اختار جمهور المعتزلة القدر وفسروه بأن العبد موجد لأفعاله لا ايجابيًا بل اختياريًا وأبو الحسين منهم على أن الله يوجد للعبد القدرة والإرادة ثم هما يوجبان وجود المقدور وهو مذهب الحكماء وإما الحرمين، ومذهبنا خير من الأمرين ومنزلة بين المنزلتين وهو أن الأفعال الاختيارية لله تعالى خلقًا وإيجادًا وللعبد كسبًا واختيارًا وفسرناهما تارةً بما يقع به المقدور مع صحة انفراد القادرية أولًا معها وأخرى بما وقع لا في محل قدرته أو فيه، وهذا من أهم مهمات الدين وأعظم مقاصد ارباب اليقين فلنبتهل إلى جانب الله تعالى وحسن توفيقه لتحقيق هذا المطلب الجليل والهداية إلى سواء طريقه فلنتعرض أولًا لمقدمات يتوقف عليها التوسط وبطلان طرفي الإفراط والتفريط ثم لبيان أن ثبوت الجبر بهذا الدليل نتيجة الرأي العليل.
أما المقدمات
الأولى: أن المشهور بين الجمهور إلى المفهوم إن كان له تحقق في الوجود فموجود
وإلا فمعدوم وبعضهم وجدوا المفهومات على قسمين منها ما يتصور عروض الوجود لها فسموا تحققها وجودًا وارتفاعها عدمًا ومنها ما ليس من شأنها ذلك كالأمور الاعتبارية التي يسميها الفلاسفة معقولات ثانية فجعلوها لا موجودةً ولا معدومةً وسموها أحوالًا فالجمهور يجعل العدم للوجود سلب إيجاب وهم عدم ملكة فلا نزاع في الحقيقة.
الثانية: أن التسلسل في الأمور والمحققة من طرف المبدأ مجال لأن سلسلة مجموع الممكنات اللا متناهية لها علة وليست نفسها ولا بعضا منها فضلًا عن كل منها لأنه لولم يكن على الشيء منها أو لبعضها لم يكن علة لجميع السلسلة هف وإن كان علة لكل منها كان علة لنفسه وعلته وأنه دور فعلتها خارج عن جميع الممكنات وهي الواجب ولا علة له فلزم التناهي على تقدير عدمه أما الأمور العقنية فينقطع بانقطاع الاعتبار وأما من جانب المعلول فلا برهان عليه وبرهان التطيق ليس بشيء لأن التطبيق يمعنى تواني الحدين لا يوجب عدمه الانقطاع ويمعنى أن لا يفقد في أحديهما كما يمكن جعله مقابلًا لشىء من الأخرى لا يوجب نفسه تساوى الزائد والناقص فكذا غيره.
الثالثة: الفعل قد يراد به معنى المصدر الحركة لقطع المسافة وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر كهي للحالة التي تكون المتحرك غليها في كل جزء من المسافة وهي أثر الأول ولا شك أن الثاني موجود، واختلف في الأول وهو إيقاع تلك الحالة فقيل ليس موجود وإلا لكان موقعا فينقل الكلام إلى إيقاع الإيقاع يلزم التسلسل من طرف المبدأ في الأمور المحققة ويلزم عند إيقاع شىء إيقاعات محققة لأشياء محققة غير متناهية فيكون الإيقاع معدوما على مذهب الجمهور حالًا عند القائلين بها، فإن قلت لزوم المحذورين موقوف على أن لا يكون إيقاع الإيقاع عينه وهو ممنوع، قلت الإيقاع مع الموقع أمان ليس بينهما حمل المواطاة وكل أمرين كذلك يمتنع وحدة هويتهما الخارجية فعدم التعدد في الخارج آية كون أحدهما وكليهما اعتباريًا، وقيل: موجود لحدوثه بعد العدم ويجوز استناد الإيقاع الحادث إلى القديم الدي هو التكوين الأزلي استناد سائر الحوادث إليه فلا يلزم شىء من المحذورين، وفيه بحث لأن أثر الايقاع حاصل مستند إلى الايقاع المستند إلى التكوين القديم فيلزم الجبر من العبد وإن لم يلزم الإيجاب من الله تعالى كما سيجىء بيانه إن شاء الله تعالى ولأن الحدوث بمعنى التجدد مسلم ولا يقتضي الوجود كحدوث العمى وبمعنى الوجود بعد العدم ممنوع ومعنى تجدد مثله وحصوله بدون الوجود كونه بحيث يمكن للعقل أن يعتبره فيه مطلقًا أو منسوبًا إلى شىء كما في الإضافيات.
الرابعة: أن لا بد لوجود كل ممكن من موجد وإلا كان واجبًا ومن وجود جملة ما يتوقف وجوده على وجوده وإلا لما كان وجود البعض المعدوم موقوفًا عليه لوجوده، قال الفلاسفة ويجب وجوده عند وجود تلك الجملة وإلا أمكن عدمه عنده فوجوده من غير مرجح لاستواء نسبة وجوده إلى جميع الأوقات حاصل ولذا كان وجود الممكن محفوفا بوجوبين سابق ولاحق، وفيه بحث من وجوه:
1 -
أن وجود جملة ما يتوقف وجود الممكن على وجوده رما لا يكون كافيًا في وجود الممكن لتوقفه على عدم توقف الحوادث عندهم على عدم المعدات المغير القارة كالحركات ومنه توقف كل جزء منها على عدم الأجزاء السابقة وسنزداد وضوحا اللهم إلا بأن يعنوا بوجود الجملة وجود ما يتصور منها وجوده ونجدد الباقي ولا دلالة للفظهم عليها.
2 -
أن الرجحان من غير مرجح بمعنى وجود الممكن بلا موجد مسلم استحالته ممنوع لزومه لوجود الفاعل وليعنى رجحان أحد المستويين من غير مرجح داع ممنوع الاستحالة كرجحان أحد الطريقين المستوين من كل وجه كسلوك الهارب وغيره من الأمثلة المشهورة ومن غير مرجح أصلًا ممنوع اللزوم أيضًا لجواز أن يترجح بنفس الترجح العدمي وتحقيقه أن رجحان المساوي أو المرجوح أن أريد مساواته أو مرجوحيته قبل الترجيح فذلك واقع فإن الممكن المعدوم عدمه راجح بالنظر إلى عدم علته ومساو بالنظر إلى ذاته وقد رجح وجوده عند الإيجاد وإن أريد حال الترجيح فليس إلا ترجيحًا للراجح لأن الترجيح يلاقي الرجحان الحاصل منه كما أن الإيجاد يلاقي الوجود الحاصل منه وإلا لاجتمع الوجود والعدم وتحصيل الحاصل بهذا التحصيل غير ممتنع. قالوا: المراد وجود الممكن بلا موجد وهو لازم فيما نحن فيه لأنه إذ أمكن عدمه مع وجود الجملة الموقوف عليها ففي زمان وجوده أن تعلق به إيجاد كان من جملة الموقوف عليها فلا يكون المفروض جملة جملة، وإن لم يتعلق فقد وجد من غير إيجاد بلا موجد وأيضًا كون الرجحان بلا مرجح باطلًا قضية بديهية لولاها انسد العلم بالصانع فلا يبطل بإيراد أمثلة عدم العلم بالمرجح لا عدم نفسه وأيضًا أن قدم الايجاد قدم الحادث وإلا فله إيجاد آخر فتسلسل من طرف المبدأ، قلنا جواب الكل حرف واحد وهو أن لمشايخنا في إيجاد الله تعالى للحوادث طريقين: أحدهما: القول بعدم الإرادة وتجدد تعلقها وقت الحدوث.
وثانيهما: قدم الإرادة وتعلقها بحسب الأوقات المعينة فعلى الأول المتجدد في زمان
الوجود تعلق التكوين الأزلي المعبر عنه بالاختبار وهو إما نسبة عقلية معدومة متجددة لا حادثة لمحاذاة الشمس أو انحلال الغيم عن وجهها لوجود الضوء في الجدار أو حال وتجدده حالتئذ لا ينافي الجملة الموقوف عليها سابقًا ولا يلزم له اختيار آخر ولا اعتبارية داع إذ من شأن المختار أن يتعلق إرادته متى كان من غير تعليل بالداعي كما أمر من الأمثلة ولئن لزم فالتسلسل في الأمور الاعتبارية غير محال وعلى الثاني لا متجدد في زمان الوجود بل الإرادة والاختيار قديمان ومن شأن طبيعة الاختيار المقارن للتكوين الأولى أن يقتضي جواز صدوره من غير تعليل بالداعي كما أن طبيعة الإيجاب يقتضي فجأة الوجود من غير تعليل به وإما تعين الوقت فأما اتفاقي لأن طبيعة الاختيار يستدعي جواز تعينه من غير تعليل وإما لأن التعلق الأزلي عينه فعلى الأول ليس موقوفًا عليه وعلى الثاني ليس أمرا موجودًا حتى ينافي وجود الجملة السالفة بل هو عندنا خلاء متوهم كما في خلق الله الزمان أو العالم أو الفلك الأعظم أو حركته وفي قوله عليه السلام "كان الله ولم يكن معه شىء"(1)، لا يقال التعلق ونحوه نسب لا يتحقق إلا مع المنتسبين فكيف يكون النسب أزلية والمنتسبات فيما لا يزال؛ لأنا نقول الاختلاف بالأزلية والأبدية أو الماضوية والمستقبلية للمقيدين بالأمور الاعتبارية مثلنا وإلا فالجميع حاضر عنده تعالى، وكذا الكلام في تعلق سائر الصفات على أنا نمنع اقتضاء النسبة تحقق المنتسب مطلقًا بل فيما يكون تعلقها من حيث وجود المنتسب معه كالمعية ذهنًا أو خارجًا بخلاف قبلية الله من العالم فإنها نسبة تقتضي عدم العالم معه ومثله الإيجاد الاختياري وتعلقه بخلاف الإيجاب ولئن ثبت وجودية الزمان تختار إما الطريق الأول أو كون الوقت من جملة الوجوديات الموقوف عليها الغير الكافية في وجود الممكن لتوقفه على الاختيار أيضا وهو عدمي هذا كله في فعل الله وسيجيء إثبات اختيار العباد بما يناسبه فعلم مما مر أن في كلا شقي السؤال الأول منعًا وإما القضية البديهية المذكورة فبطلان وجود الممكن بلا موجد لا رجحان أحد المتساويين والقول بالشيء مع عدم العلم به أزلا وأبدًا كعدم القول مع قيام البرهان وبهذا يعلم أن وجوب وجود الممكن عند وجود تلك الجملة ليس متفقًا عليه كما ظن.
3 -
ولئن سلم وجودية الاختيار أيضًا فإنما يلزم وجوب المعلول أن لو لم يكن من جملة الوجوديات الموقوف عليها الاختيار على ما علم من طبيعته.
4 -
أن الوجوب السابق للمكن غير متصور إذ لا سبق بالزمان وإلا لا في العدم ولا
(1) أخرجه البخاري (3/ 1166) ح (3019).
بالذات وإلا كان من جملة العلة التامة لا معلولها بل الوجود والوجوب مقارنان معلولا علة واحدة ومنشأ الغلط اعتبار أحد المتلازمين المتقارنين محتاجًا في الوجود إلى الآخر وليسا يمتضائفين إذ لا توقف في العقل من طرف الوجود.
الخامسة: قيل: لا بد في العلة التامة للحادث من دخول أمر لا موجود ولا معدوم مسمى بالحال كالإضافيات إذ لولاه فاما موجودات محضة أو معدومات محضة أو مركبة لا سبيل إلى الأول لأنها إن قدمت قدم الحادث وإن حدث شىء منها فينقل الكلام إلى عليه يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم فيلزم إما قدم الحادث أو انتفاء الواجب بناء على امتناع التخلف ولا إلى الثاني لأن الكلام في مثل زيد فلا بد من وجود أجزائه ولا إلى الثالث إذ لو توقف وجود الحادث بعد وجوه جميع الموجودات الموقوف عليها على عدم شيء فأما على العدم السابق القديم فيقدم الحادث لأن العلة التامة تركبت منه أو من الموجودات المستندة إلى الواجب أو على عدمه اللاحق وذلك إما بزوال وجود جزء علة وجوده أو بقائه، وينقل الكلام إليه بتسلسل أو ينتهي بلى الواجب ويلزم انتفاؤه أو لزوال عدم له مدخل فيه وللزوال في زواله وزوال العدم هو الوجود فيتوقف وجود الحادث على عدم موقوف على هذا الوجود فيبقى شيء من الموجودات الموقوف عليها فلم يكن المفروض جملة جملة هف أما إذا دخل في العلة أمور لا موجودة ولا معدومة كالإيقاع والاختيار كما قيل فهي لا تستند إلى الواجب بطريق وجوب لعدم وجودها حتى يلزم قدم الحادث أو انتفاء الواجب بل يقع منه أي وقت كان من غير تعليل كما مر ولا يلزم الوجود بلا موجود بل ترجيح أحد المتساوين وأقول جمهور مشايخ أهل السنة وأكثر مشايخ المعتزلة غير قائلين بالحال وهذا يستدعي ركاكة مطلبهم وسخافة مذهبهم وحاشاهم عن ذلك ففيما ذكره بحث من وجوه:
1 -
امتناع التخلف ممنوع على تخلل الاختيار أزليًا كان ولا وعدميا كان أو وجوديًا كما مر ..
2 -
منع أن العدم السابق لو كان جزءًا من العلة لزم قدم المعلول لجواز أن ينضم إلى بعض الموجودات الحادثة ويصير المجموع علة تامة وكذا علة هذا المجموع لا إلى أول كما أن عدم الجسم المزاحم وإن كان أزليًا جزءًا من علة كون هذا الجسم في هذا الحيز ويصلح عدم الدجن للقصار نظيرًا.
3 -
منع أن عدمه إما لزوال شيء من علة وجوده أو لزوال العدم المؤثر في وجوده
لجواز أن يكون مقتضى طبيعته لكونه غير قادر كما تتوقف الحركة الجزئية على عدم الحركة السابقة فإن الحركة وإن اقتضاها طبيعة المتحرك وفرض دوامه يقتضي لكونها غير قارة أن يعقب وجود كل جزء عدمه ولذا تعد معدة لما يتوقف وجوده عليها من الحوادث وشرطا لا سببًا إذ شأنها أن لا يجتمع معه وكل ما يتوقف وجود الشيء على وجوده فعدمه يعد معدًا.
4 -
منع بقاء شىء من الموجودات الموقوف عليها إذا كان لزوال العدم وهو الوجود مدخل في زواله لجواز أن لا يكون هذا الموجود غير الموجودات الأول وإن يكون العدم لازمًا لها لكن لا بجهة استنادها إلى الواجب فيصح تركيب علة الموجود من عدم الشيء اللاحق اللازم لوجوده وهو معدود من الموجودات الأول ككل جزء من الوقت والحركة على تقدير وجودهما يتوقفان على عدم الجزئين السابقين وعدمهما يستندان إلى طبيعة الحركة الغير القارة المستندة إلى الواجب لا بهذه الجهة بل بجهة دوام موضوعها المقتضي لها بتشابه طبيعته، فإن لازم اللازم ليس لازمًا إذا لم يتخذ جهة اللزوم كالانتصاب اللازم للجدار اللازم للسقف مثله الانقضاء اللازم للحركة اللازمة للمتحرك فإن قيل انتصاب الجدار لازم للسقف قيل فانقضاء الحركة لازم للمتحرك فلا يدوم الأثر بدوام المؤثر بل ويقتض الحركة وانقضاءها.
5 -
أن المسمى بالحال معدوم عندنا فلا يسلم أن كل معدوم زواله بوجود شىء بل منه ما يكون جزعًا من العلة التامة وينقطع بلا وجود شيء فينعدم المعلول كمقابلة الشمس لضوء العالم فإنها عدمية وليس زوالها بوجود شىء وكذا انقطاع الإرادة وتعلقها فلا اضطرار في القول بالحال مخالفًا للجمهور وقد مر أن النزاع لفظي.
السادسة: أن المبين مجمعون على إن الله خلق القدرة والإرادة في العبد لكنا نفسر القدرة يما عليه الفاعل عند الفعل والإرادة بصفة مخصصة لأحد المقدارين بالوقوع ونقول يجعل العبد إرادته متوجهة نحو الفعل فيوجد الله الفعل عنده إجراء لسنته عليه فتعلقها هو الاختبار والقصد والكسب والإيقاع والفعل والمعتزلة يفسرون القدرة بصفة تؤثر وفق الإرادة والإرادة تارة باعتقاد النفع أو ظنه وأخرى يميل تعقبهما ويسمونها بالدراعية وحزمه بإيجاد الفعل بالاختيار والفعل الذي يوجده العبد من غير داعية اتفافيا وإن تخلل تعلق الإرادة بتفسيرنا الذي هو الاختيار عندنا.
السابعة: إنا نفرق بالوجدان الضروري بين الفعل الاختياري والضروري كما بين ما
نقدر على فعله ومالا نقدر كالصعود إلى الجبل وإلى السماء وبين ما نقدر على تركه ومالا نقدر كالهبوط والسقوط فلا سيما بين السقوط والصعود وليست تلك التفرقة كمجرد موافقة إرادتنا في الاختيارية لأن إرادتنا إن كانت مرجحة كان الترجيح منا بخلاف الضرورية وإلا كانت مجرد شوق فربما لا يكون الاختياري مرادًا بهذا المعنى كالمشي إلى مكروه والاضطراري مرادًا كحركة النبض على نسق نشمتهيه ولا بمجرد وجود القدرة بدون تأثيرها إذ لو لم يكن الأثر للقدرة فإن كان للداعي لم يوجد الفعل إلا عند وجوده وقد مر إبطاله في صورة عدم الداعي وإما في صورة الداعي إلى التوك فكالمشي إلى مكروه ولما أمكننا الانقلاع عن القعل الموجود مع بقاء الداعي عنادًا وإنكاره عنادًا وإن كان لقدرة الله تعالى فقط كان موجباُُُُُ والفعل مجبورًا عليه ولم يمكننا الانقلاع عنه والواجدان بكذبه.
الثامنة: إن الفعل بمعنى الحالة الحاصلة من المصدر الذي لا شك في وجودها ربما لا يترتب على الإرادة مع وجود سلامة الآلات والأسباب وتوفر الدواعي وتوجه الإرادة المسمى بالقصد والاختبار كما قصدوا أذى الأنبياء ولم يتيسر لهم ورما يترتب حاله لم يعهد ترتبها على مثل فعله كخوارق العادات من قطع مسافة سنة في طرفة عين وغيره فدل أن القدرة العبدية العادية غير مستقلة بالتأثير.
التاسعة: أن وجود تلك الحالة موقوف على موجودات كوجود الله تعالى ووجود قدرته وإرادته وغيرها وعلى معدوم أو حال هو نفس إيقاعها إن كان معدومًا وتعلقه بها إن لم يكن إذ لا بد من تعلق أو نسبه ببين وجوديهما المستقلين فإن كان كل تعلق موجودًا كان هناك أمورًا موجودة غير متناهية وقد مر أن دعوى العينية في الأمور المحققة غير صحيحة فتلك الحالة يتوقفها على الموجودات يستند إيجادها إلى موجد تلك الموجودات ولتوقفها على غير الموجود الموقوف تجدده على العبد استند كسبها إليه مثاله ملك عم العباد وهبًا ونصحًا نادى إن كل من وجدته محاذيًا لمنظرتي أعطته ألف دينار فرأى شخصًا محاذيًا لنظرته ووهبها ولا شك أن الإعطاء من الملك لا من الشخص كالخلق والمحاذاة منه لا من الملك كالكسب وذلك لأن الاختياري الذي لم يسبقه اختياري آخر من العبد مثلًا لما لم يكن وجود شيء من الموجودات التي يتوقف وجوده عليها من العبد كان إسناد لوجوده إلى العبد دون من صدر عنه الوجودات الموقوف عليه في غاية الركاكة ولما لم يكن مطروحًا في سلسلة التوقف كان إسناد كسبه إليه مستقيمًا فإن الكسب السعى في مقدمات الوجود ليس إلا وليس معنى استناده إلى الله تعالى خلقًا استناد
الوجودات التي يتوقف عليها حتى يقال لا نزاع في ذلك بل استناده لاستنادها.
العاشرة: أن ذلك الأمر العدمي المسمى بالقصد والاختيار وغيرهما هو الكسب وهو مناط كون الفعل طاعة ومعصية والثواب والعقاب والحسن والقبيح والخير والشر وغيرها إذ لا قبح في خلقها فإن خلق المعصية وإرادتها ليس بقبيح لجواز اشتمالها على حكمه بل القبيح كسبها كما لو كان إعطاء الملك ألف دينار في المثال المذكور مع علمه بأن تلك الألف يصرفها هذا الشخص إلى ما يفضي إلى إتلاف نفسًا لكنه يعطيها ليتعظ به غيرها فلا يسألها أولًا يصرفها إلى مثله إذا تقررت تقرر حال التوسط وبطلان طرفي القدر بالإفراط والجبر بالتفريط وتصوير أن لله تعالى الاختيار وأن العالم حادث وإن لله الاختيار الكلى وللعبد اختيارًا جزئيًا وغير ذلك من عدم التكليف يما لا يطاق ونحوه من مهمات الدين.
بقى البحث في دليل الأشاعرة وذلك من وجوه:
1 -
أنه استدلال في مقابلة التفرقة الضرورية بين الاختبارية والضرورية لما أن الجبر على فعل يقتضى عدم القدرة عليه فلا يندفع بما قيل إن الفارق وجود القدرة لا تأثيرها مع ما مر أنه لا يصح فارقًا.
2 -
أن المرجح سواء كان اختيارًا أو داعيًا موجبًا أو غير موجب لا يقتض الجبر أما إذا كان اختياريًا فلأن تخلله موجبًا يدفع الاضطرار لأن الاضطراري ما لا يوجبه الاختيار وغير موجب يدفع توجه الاتفاق لأن الاتفاقي ما لا يرجحه الاختيار وأما إذا كان داعيًا فلأن الداعي إلى الاختيار لا ينافيه كما أن العلم والقدرة والإرادة الأزليات التي تعين أحد الطرفين باختبار العبد لا ينافيه بل يحققه نعم يتوجه إلى المعتزلة فإنهم يوجبون الداعي لا نحن كما في مسألة الهارب فالترجيح بمجرد الاختيار الحادث مع غير الداعي لا يدفع الاتفاق عندهم وكل اتفاقي لا يتصف بالحسن والقبح العقليين ولذا قيل إنها مقدمة إلزامية ولذا لا ينتقض الدليل بفعل الرب فإن اختياره قديم ولأن التكليف بما لا يطاق لا يحتاج إلى مرجح لأن على الاحتياج الحدوث باتفاق بيننا وبينهم.
3 -
النقض بالحسن والقبح الشرعيين لأنهما مع الجبر غير واقعين بالاتفاق وإن جاز بما لا يطاق عند الأشاعرة والجواب بأن الاختيار كاف في التكليف والاستقلال بالفعل غير واجب إلفا يصح منا لقولنا بالاختيار معنى لا صورة فقط ومتوجه إلى المعتزلة القائلين لولا الاستقلال لقبح التكليف عقلًا لا لينا، واعترض بعضهم على الكبرى أيضًا يمنع أن
الاضطراري والاتفاقي لا يوصف بالحسن والقبح العقليين واسند بأن الضرورة والاتفاق لا ينافيان كون الفعل حسنًا لذاته أو لصفته كما أن الاتصاف الضروري كاتصاف الله تعالى بصفات جماله وجلاله لا ينافي كون الصفة حسنة بمعنى كونها صفات الكمال فلم لا يجوز الاتصاف بهما بالمعنى المتنازع فيه أيضًا على أنه إن عني بنفيهما بالمعنى المتنازع فيه أنه لا يجب الإثابة أو العقاب لأجله فنحن نساعده وإن عني أنه لا يكون في معرض ذلك فبعيد عن العقول لأن مرتكب أنواع القبائح كنسبة ما لا يليق بجلال الله تعالى مع العلم به إليه أن لم يرفع له يستحقق مذمة وعقابًا فقد سجل على غباوته.
ورد بأن المقدمة اتفاقية فلا يمنع وبأن السند بصفات الله تعالى لا يوافق محل النزاع وبأن عدم استحقاق المذمة والعقاب بارتكاب القبائح قبل ورود الشرع غير مستبعد إذا كان مجبورًا على ذلك كما مر.
والجواب عن الأول: أن جميع الفلاسفة منكرون لها وإن أريد اتفاق أهل السنة فينكره المشايخ وبتقدير تسليمه يكون جدلية فيتوجه طلب الدليل التحقيقي عليها.
وعن الثاني: بان الصفات ذكرت تشبيها بمحل النزاع بها لا على أنها عينة.
وعن الثالث: بأنه لا منافاة بين المجبور به والانصاف بالحسن والقبح العقليين لأن مجبورية العبد مبنية على استعداده الغير المجعول في الحسن وعدم استعداده في القبح وهذا مبني على أن الماهيات غير مجعولة وأن فيض الواجب موقوف على ما يليه الحل غير أن هذين الأصلين من أصول الفلاسفة والصوفية وهو اختيار بعض أهل السنة فجمهورهم وإن لم يقولوا بهما لكن لما ذهب إليهما كثير من أهل العقل علم أن العقل لا يجزم تلك المنافاة وهذا مما يكفي سند المانع.
ثم الأدلة المذكورة لا تنتهض على الجبائية: فالأول: لجواز لزومي المتنافين بإختلاف الجهتين، والثاني: لجواز اجتماع الكذب والصدق بالاعتبارين والثالث لجواز لا يكون موجودًا كالقول فلا يكون عرضًا أما عند غيرهم فهما تابعان للوجود كما مر والرابع لأن الضروري والاتفاقي قد لا يكون كذلك باعتبار ما كالتحيز الضرورى باعتبار تنافيه فالذي ينتهض على الكل قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا فإن نفي التعذيب قبل البعثة يستلزم نفي ملزومه وهو الوجوب والحرمة العقليان عندهم على تقدير تركهما لمنعهم العفو فهذا إلزامي وإلا فلا يمتنع القول بالوجوب العقلي مع نفي التعذيب قبل البعثة كالقبايح الصادرة عن الصبي العاقل هذا.
والأوجه عندي أن يؤخذ الإلزام من قولهم بتأثيم من لم يبلغه الدعوة فإن المراد بالبعثة
إيصال حكم الله تعالى وإلا لم يحصل إلزام الحجة إما أنه لا يكون تعلق الطلب ذاتيًا
حاصل أو لم يكن الباري مختارًا لأن الحكم بالمرجوح قبيح أو أن قبح الخبر الكاذب أو حسن الصادق مثلًا أن قام بكل حرف كان خبرًا وإن قام بالمجموع فلا وجود له أو أن علة الحسن والقبح حاصلة قبل الفعل فيلزم قيام الصفة الحقيقية بالمعدوم فليس بشيء لأن ذاتي الطلب تعلقه إلى مطلوب ما لا إلى المعين وأن امتناع الفعل لصارف القبح لا ينفي الاختيار وإنهما قائمان بكل حرف بشرط الانضمام أو بالمجموع ككونه صدقًا أو كذبًا فجوابهم ثمة جوابنا هنا وإنهما من الصفات التابعة للوجود والحدوث عندهم كما مر وبتقدير تسليمه يحكم العقل بإنصافهما إذا حصل، وللمعتزلة طريقان حقيقيان وطريقان إلزاميان أما الحقيقيان فاحدهما أن الحكم بالحسن أو القبح مشترك بين جميع العقلاء في مثل الصدق النافع والإيمان أو الكذب الضار والكفران وعلة المشترك مشتركة فلا يكون شرعيًا لعدم اختصاصه بالمتشرعة دون غيرهم كالبراهمة والدهرية ولا عرفيًا وعاديًا لعدم اختصاصه بأهل عرف أو عادة ولا لغرض من مصلحة أو مفسدة لذلك فيكون ضروريا ذاتيًا، وجوابه مع اشتراكه بالمعنى المتنازع فيه بل بأخذ التفسيرات الثلاث ولئن سلم فمنع أن علة المشترك مشتركة لجواز اشتراك المختلفات في لازم كفصول الأنواع المندرجة بحث جنس واحد ولئن سلم فمنع أن العلة المشتركة غير ما ذكر من عرف ومصلحة وغيرهما في حقه تعالى وإن وقع الاختلاف في حق ما عناه ولا يلزم أن يكون ذلك المشترك هو العلم الضروري.
2 -
أن اختيار العقل الصدق عند استوائهما في تحصيل الغرض من كل وجه دليل أن حسنه وقبح الكذب ذاتيان وهذا القادر على إنقاذ شخص أشرف على الهلاك انقاذه من غير أن يتصور غرضًا. وجوابه: أن ذلك لأنه تقر في النفوس كون الصدق ملائمًا لمصلحة العالم دون الكذب ولا استواء في نفس الأمر ولا يلزم من فرض التساوي وقوعه فمنع الاختيار على تقدير التساوي وجزم الذهن بإيثارالصدق لعدم تمييزه التقدير عن وقوع المقدر وله ولو سلم فلا نعلم دلالته على المعنى المتنازع فيه وإما الانقاذ فارقة الجنسية المحبولة إلا في الطبيعة، وسببه أن استحسان أن يفعله غيره في حقه يجره إلى استحسان أن يفعله غيره في حق غيره، وأما الإلزاميان فأحدهما لو كانا الشرعيين كان التكليف شرعيًا فلزم إفحام الرسل فلا يفيد البعثة، وذلك لأن المكلف لو قال في جواب انظر في معجزتي
كي تعلم صدقي لا أنظر حتى يجب أو حتى يثبت الشرع والحال أنه لا يجب ولا يثبت حتى ينطرح لم يكن للرسول الزامه النظر وهو المعنى بالافحام فلا يندفع لما قيل إن النظر لا يتوقف على وجوبه وجوابه جدلي وحل فالجدلي أنه مشترك الإلزام لأنه إذا كان عقليًا لم يكن ضروريًا بالتوقفة على خمس مقدمات نظرية كوجوب معرفة صدق الرسول بمعرفة المعجزة وتوقفها على النظر ووجوب مقدمة الواجب وإفادة النظر العلم في الجملة والعلم في الإلهيات، إذ يرد على الأولى: أن معرفة المعجزة لدفع خوف ضرر الأجل الذي ذلك الخوف ضرر عاجل فانما يلزم لو كان دفع الضرر واجبًا عقلًا، وعلى الثانية: جواز حصولها بالإلهام وغيره، وعلى الثالثة: منع وجوب مقدمة الواجب في حكم الله بأن يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، وعلى الرابعة: أن إفادته موقوفة على العلم المعارض العقلي وعدمه ليس ضروريًا فيحتاج إلى نظر آخر ويتسلسل وعلى الخامسة أنه لا يتصور الحقائق الإلهية والتصديق فرع التصور فلا بد من انظار يندفع بها هما فللمكلف أن يقول ما مر بقلب الدليل والحل أن قوله لا يجب حتى انظر إنما يسمع أن لو توقف الوجوب على العلم به وليس كذلك لوجهين:
1 -
أن الوجوب حكم شرعي وخطاب قديم لا يتوقف على الحادث من نظر أو علم به.
2 -
أن العلم بالوجوب موقوف عليه فلو توقف الوجوب على العلم به كان دورًا ولا يلزم تكليف الغافل لأن الغافل من لا يتضرر الخطاب لا من لا يصدق به والألم يكن الكفار مكلفين هذا غاية ملجأ الأشاعرة، وفيه بحث لأن المكلف لو قال لا نظر ولا صدق حتى اعلم لوجوبهما ولا أعلم حتى يثبت الشرع عندي ولا يثبت حتى انظر لا يندفع بذلك وهو مبني مذهبنا وثانيهما لو كان شرعيًا لزم محالات:
1 -
في الله أن لا يقبح منه شىء قبل السمع فجاز كذبه وخلق المعجزة على يد الكاذب وفي كل منهما إبطال البعثة والشرايع والتباس النبي بالتنبي فلا يقبح شىء منهما بعد السمع أيضا لأن حجبه السمع موقوفة على صدقه فيلزم الدور ولا يقال الصدق والكذب ليسا من الأفعال لأن كلام الله من الصفات الفعلية في زعم المعتزلة ولأن المراد بهما ها هنا خلق أمر قال على ما يطابق الواقع وما لايطابقه ولو تجوزا مثل قوله عليه السلام "وكذب ما بطن أخيك (1) "إذ قد يتصف بهما وبالدلالة غير الألفاظ كدلالة الحال.
(1) أخرجه البخاري (5/ 2152) ح (5360)، ومسلم (4/ 1736) ح (2217).
2 -
في العبد أن لا قبح التثليث وأنواع الكفر من المتمكن منها ومن العلم بحالها قبل السمع.
3 -
خرق الإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد وفيه سد القياس ونعطل أكثر الوقايع عن الأحكام، والجواب عن الأول: أن صفات الله تعالى غير محل النزاع قبل المراد أن لا يقبح نسبتها إلى الله تعالى قلنا فيكون كالثاني، وإنا لا نعلم الامتناع العقلي في الكذب وخلق المعجزة وإن جزمنا بعد مهما فإنهما من الممكنات وقدرته شاملة ولو سلم امتناعهما فلا نعلم أنهما لو لم يقبحا عقلًا لم يمتنعا لجواز أن يمتنعا لأمر آخر كاستلزامهما لالتباس النبي بالتنبي وكانتفاء لازم الدليل الذي هو المعجز لأن وجه الدلالة لازم كل دليل وهو منتف في المعجز في يد الكاذب وإلا لكان الكاذب صادقًا وانتفاء اللازم ملزوم انتفاء الملزوم، وعن الثاني: أن المعنى المتنازع وهو التحريم الشرعي قبل الشرع ممنوع وبالمعنى الآخر لا يضرنا، وعن الثالث: أن القياس مظهر لا مثبت فالابتناء عليها للكشف عن الإيجاب لا لإيجاب، ثم نقول للمعتزلة غاية أدلتكم أن حسن بعض الأفعال وقبحه معلوم بالعقل ورد الشرع أم لا فلئن سلمنا لا يثبت أن العقل هو الموجب ولا سيما في الكل.
ذنابة: النصوص من الطرفين مأولة وموفق بينهما بما قلنا.
مسألتان: على تقدير التنزل إلى إيجاب الفعل، الأولى أن لا يجب شكر عند الأشاعرة (1) ويجب عند المعتزلة عقلًا (2) والمراد به عرف الحبد جميع ما أنعم الله إليه إلى ما خلق لأجله كالنظر إلى مطالعة المصنوعات والسمع إلى نلقى ما ينبئ عن المرضاة والقلب إلى فهم معاني كلامه ببذل الطاقات والثمرة تأثيم من لم يبلغه دعوة نبي بتركه والمختار وجوبه عند إدراك زمان البحرية لما مر، للأشاعرة لو وجب لوجب الفائدة إذ لولاها لكان الوجوب عبثًا أو الإيجاب عبثًا وهو قبيح لا يجب عقلًا ولا يجوز على الله ولا فائدة لأنهما إما لله وهو متعال عنها وإلا كان مستكملًا بالغير وإما للعبد في الدنيا وفي الشكر فعل الواجب وترك المحرم عقلًا وأنه مشقة ناجزة لا حظ للنفس فيه أو في الآخرة ولا مجال للعقل فيه، قال المعتزلة فائدته دنيوية هي الأمن من ضرر خوف العقاب لتركه فإن المتقلب في نعم لا تحصى لا يمتنع أن يفهم لزوم الشكر والعقاب عند عدمه ورد مظنه الخوف فلا يعارض منه عدمه في أكثر الناس ولو سلم فمعارض بخوف العقاب على
(1) انظر/ إحكام الأحكام للامدي (1/ 125).
(2)
انظ/ نهاية السول للإسنوي (1/ 266).
الشكر إما لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذنه وإما لأية كالاستهزاء من حيث أن ليس للنعمة قدر يعتد به بالنسبة إلى مملكة منعمها فوجود العبد وبقاؤه وسائر كما لأنه من الله تعالى كإعطاء من ملك الخافقين فقيرًا لقمة خبز بل أدنى بكثير ومن حيث أن شكرها لا يليق بمصب منعمها فطاعة العبد مدة عمره كشكر الفقير بتحريك الأنملة والحيثية الأولى غيركافية لأن شكر نعمة لها قدر بالنسبة إلى حاجة المنعم عليه لا يعد استهزاء ولا نقض بوجوبه الشرعي لأن الإيجاب الشرعي لا يستدعي فائدةً ولأن فائدته أخروية ويستقل الشرع ببيانها وفيه بحث من وجوه:
1 -
أنه إن أريد بالفائدة ثبوتها فلا نعلم أنه يستلزم الاستكمال في الله تعالى إنما الاستكمال بقصدها لا بثبوتها، وإن أريد قصدها حين الإيجاب فلا نعلم أن عدمه يستلزم العبث فإن الوجوب إنما يكون عبثًا لو لم يترتب عليه ثواب أو لم يتعلق بتركه ذم لا سيما عند من يرى عدم صفة موجبة للقبح كافيًا في حسن الفعل.
2 -
أن الفائدة مرادًا بها أمر زائد على حصوله فالأفعال قد تكون حسنة لذواتها عند متقدمي المعتزلة ومرادًا بها الأعم ممنوع بطلان التالي لجواز وجوبه لفائدة دنيوية هي نفس الشكر الذي يربو على التعب الناجز كحفظ النفس على تعب الجهاد لا يقال الفائدة الدنيوية حظ النفس في اللذة أو وسيلتها ودفع الألم أو وسيلته لأنا نقول على تقدير تسليمه يتضمن الشكر المفسر بالصرف المذكور التلذذ بالمشتهيات الجائزة الفاخرة والتعيش الناعم مدة العمر بالأموال الوافرة ليتوسل به إلى تحصيل الكمالات النفسية التي يلتذ بها فوق التذاذها بالملذات الوهمية والحسية.
3 -
أن التصرف في ملك الغير إنما يقبح فيما فيه احتمال التضرر لما سيجيء ما قد قيل إن الأصل الإباحة.
4 -
أن الاستهزاء بالنسبة إلى المنعم لا ينافي عدمه بالنسبة إلى المنعم عليه وإن كان من مجموع الحيثيتين والمعتبر هو الثاني ولأنه يحتمل التنبيه بقلبه على العجز عن استيفاء حقه كما قال أعلم الخلق بالله تعالى "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"(1) وقد قيل الخوض في طلب الإدراك إشراك والعجز عن درك الادراك إدراك وربما يستدلون بأنه لو وجب لعذب بتركه قبل البعثة إما الزاميًا لعدم تجويزهم العفو أو تحقيقيًا كمعنى لاستحق العذاب بتركه ولم يأمن من وقوعه والتالى باطل لقوله تعالى {وَمَا كنَّا مُعَذَّبينَ
(1) أخرجه مسلم (1/ 352) ح (486).
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: من الآية 15) الآية فيه يحصل إلا من قيل التعذيب تبل البعثة محال لأن أول المكلفين آدم عليه السلام فلا فائدة في نفيه. وأجيب: بان قبل آدم قومًا يسمى الجان بن الجان وبأن في صحة نفيه يكفي الإمكان والصحيح أن المراد في حق كل قوم نبيهم وفيه أيضًا بحث لأن المراد ما في الآية العذاب الدنيوي والواجب هو الذي يلزم بتركه العقاب الأخروي وأيضًا هذا الدليل الرامي لهم فيتجوز العفو عندنا. الثانية: أن لا حكم للأفعال الاختيارية التي لا يقضي العقل فيها بالحسن والقبح قبل الشرع بخلاف الاضطرارية كالتنفس فإنها غير ممنوعة تبل البعثة إلا عند مجوزي التكليف بالمحال وقالت المعتزلة ما يدرك جهته إن اشتمل تركه على مفسدة فواجب لو فعله لحرام وإلا فان أشتمل فعله على مصلحة راجحة فمندوب أو تركه فمكروه والاقباح ومالا يدرك جهته فلا يحكم فيه تفصيلًا في فعل فعل وإما إجمالا فمباحة عند البصرية ومحرمة عند البغدادية وبعض الإمامية يمعنى أن العقل يقتض حرمته أو إباحته شرعًا وإن لم يرد الشرع وتوقف الشيخ الأشعري وأبو بكر الصيرفي، فقيل: معنى التوقف عدم العلم وقيل: عدم الحكم. ورد الثاني: بأن الحكم قديم عند الشيخ فكيف ينعدم وبأن عدم الحكم جزم لا توقف لأنه حكم بعدم الحكم وبأن هذه التصرفات إن كانت ممنوعًا فحظر وإلا فإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات ولذا قيل مرجعه الإباحة إذ ما لا منع فيه مباحٌ لا يقال شرط الإباحة الاذن لأنا نقول ذلك في الإباحة الشرعية والجواب عن الأول بأن كلام الشيخ ها هنا على أصول المعتزلة أو المراد عدم تعلقه وعن الثاني بان المراد عدم الحكم بالحظر والإباحة لا أصلًا فلا ينافيه الحكم بعدم الحكم وبأن تسميته توقفًا باعتبار العمل فان عدم الحكم يقضتي التوقف في العمل لا يقال تجويزه التكليف بالمح يقتضي أن لا يتوقف تعلق الحكم بالفعل على البعثة عنده لأنا نقول بل يقتضي أن يتوقف فلعل التوقف لمدرك آخر كالآية وامتناع حكم العقل وعن الثالث أن عدم الحكم ليس بكاف في الإباحة كما في فعل البهيمة بل لا بد من الحكم بعدم الحرج في الطرفين دليل الحظر أنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه كما في الشاهد قلنا عقلية حرمته ممنوعة ولئن سلمت فبينهما فرق لتضرر الشاهد ودليلنا لإبطاله أن الحظر يستلزم التكليف بالمحال لا سيما في أمرين لا ثالث لهي كالحركة والسكون إلا أن يقال يحكم العقل بأحدهما دفعًا للتكليف بما لا يطاق كفعل الواحد اللازم للمكلف نحو التنفس والمكره عليه، دليل الإباحة وجهان:
1 -
أنه تصرف لا يضر بالمالك فيباح كالاستظلال بجدار الغير والاصطلاء بناره