الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: نشأة فن الإلقاء
مدخل
…
نشأة فن الإلقاء
لقد عني المسلمون الأولون بلغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، وبذلوا جهودهم في دراسة هذه اللغة، كما عنوا بدراسة صيغ الكلمات وحروفها ومخارجها ومجموع الأصوات التي تتكون منها اللغة.
فحين انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية ودخل الأعاجم في دين الله وأخذوا يتعلمون العربية، أحس أهل الحفاظ على لغة القرآن أن العربية على لسان غير العرب قد أصابها تغييرات في نطق الكلمات هددت بمسخ صورة وقعها وجرسها وطبيعة تكوينها وتركيبها، فغير العرب كانوا يستبدلون بأصوات عربية أخرى أصواتًا أسهل عليهم في النطق.
ولا غرابة فقد دخلت اللغة العربية في صراع مع اللغة الفارسية وكذلك مع اللغة اليونانية كما اصطدمت العربية مع اللغة القبطية في مصر، واللغة البربرية في شمال أفريقيا.
وأخذت تظهر اللغة العربية المولدة على ألسنة الأعاجم بخصائصها وصفاتها التي تغاير العربية، ولقد أوضح الجاحظ في كتاب
البيان والتبيين جانبًا من هذه اللغة المولدة واللهجات التي كانت تنطق بها، كما كشف ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان عن جانب من ذلك.
هذا مما جعل العربية تصاب على ألسنة الأعاجم باللثغة واللكنة والعجمة والإغلاق وعدم الإبانة، وخشي العرب على لغتهم من طول مخالطة السامع للعجم وسماعه للفاسد من الكلام، وأخذوا يعملون جاهدين على تنقية اللغة والحفاظ على أصواتها وصونها من اللحن ومن تعسر النطق السليم بها.
ولم يقف القدماء صامتين أمام هذه الظاهرة، ولكن كانوا أشد حرصًا على تنقية اللغة، والجهود التي بذلوها جهودًا توضح مدى الحرص على إعادة النطق السليم للعربية، وللذين يقرءون القرآن الكريم.
فلقد وضعوا في ذلك كتبًا هي مراجع للدارسين في هذا الميدان، فأبو الفتح بن جني يقول في مقدمة كتابه سر صناعة الإعراب:....أن أضع كتابًا يشتمل على جميع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف منها، وكيفية مواقعه في كلام العربية،.... وأذكر أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها وانقسام أصنافها وأحكام مجهورها ومهموسها وشديدها ورخوها وصحيحها ومعتلها.... 1.
ومن يتصفح كتب القدماء فسيرى جهودًا لا تعرف الملل في سبيل ألا تنحرف أصوات العربية نتيجة لتأثرها باللغات الأخرى.
وكانت هذه الدراسة حدثًا بارزًا في تاريخ العربية حين وضعوا
1 سر صناعة الإعراب.
قواعد تكفل الحفاظ على النطق السليم وصون اللغة من التحريف.
وأصبحت هذه القواعد صمام الأمان من انحراف الألسنة عبر عصور التاريخ، بل لم يسبق لأمة من الأمم أن فكرت من قبل ذلك في وضع قواعد للنطق.
فالعرب هم أول أمة فكرت في وضع قواعد لنطق الأصوات اللغوية ثم أخذت عنهم بعد ذلك أمم كثيرة بعد أن أصاب لغتهم ما أصابها من تحريف أو انقسام مثل ما حث في اللغة اللاتينية أو في غيرها من لغات العالم.
ولقد كان القرآن الكريم هو أساس هذه الدراسات التي قام بها أهل الحفاظ على اللغة، من أجل الأداء السليم للنص القرآني.
وكان الهدف الأساسي من هذه الدراسات الصوتية هو الحفاظ على لغة القرآن وتلاوته حق تلاوة، وترتيله امتثالا لقوله تعالى:{وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} 1، والترتيل كما أوضح الزجاج: أن تبين القرآن تبيينًا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، وإنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، وكما ذكر الليث، الترتيل تنسيق الشيء إذا تمهلت فيه وأحسنته، وقال الضحاك: اقرأه حرفًا حرفًا 2.
وظهر علم القراءات من أجل صيانة القرآن من التحريف والتغيير ومعرفة كيفية الأداء، فليس كل من سمع يقدر على الأداء 3.
1 سورة المزمل: آية: "4".
2 انظر القرطبي: ج: 19، ص: 37، والفخر الرازي: ج: 2، ص:173.
3 انظر إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، لأحمد بن محمد الدمياطي الشهير بالبناء: ت "1117"، ص:"5".