الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: إلقاء الشعر إلقاء الشاعر قصيدته
مدخل
…
الفصل السابع: إلقاء الشعر إلقاء الشاعر قصيدته
عذوبة النغم
النبر في الشعر
القافية
إلقاء الشعر
عرف إلقاء الشعر باسم الإنشاد، فالشعر العربي كان يُنشد في أسواق الجاهلية، ويطرب له السامعون وتهتز القلوب له، وظل كذلك في العصور الإسلامية؛ فلقد عرفوا للإنشاد قدره فتنافسوا فيه، وظلوا ينشدون أشعارهم حتى يومنا هذا.
والنشيد في اللغة: رفع الصوت، ذلك لما فيه من قوة وحماس حين كان ينشد الشاعر قصيدته مفاخرا أو مادحا.
والنشيد في اللغة: هو أيضا الشعر المتناشد بين القوم، وجمعه أناشيد.
واستنشد شعرًا: طُلِب منه إنشاده، فأنشده إياه، ونشد الشعر: قرأه، ونشد بهم: هجاهم، وتناشدوا: أنشد بعضهم بعضا1.
وإلقاء الشعر أعم من إنشاده، فالشعر تتعدد موضوعاته وتتنوع أغراضه، فمنها ما يحتاج إلى الإنشاد ورفع الصوت في موضوعات الفخر والحماس والمدح، ومنها ما يحتاج إلى نغم صوتي يساير
1 لسان العرب، مادة نشد. القاموس المحيط: للفيروزأبادي، ج: 1، ص:354.
موضوعاته الإنسانية المتعددة من وصف وتعبير عن المشاعر والأحاسيس التي تتطلب نوعًا معينًا من الإلقاء يتمشى مع طبيعة المعنى وطبيعة الموسيقى اللفظية.
واستعمال كلمة الإنشاد نراها واضحة في كتب القدماء وبعض المحدثين؛ للتعبير عن إلقاء في الشعر بكافة أنواعه، وأصبحت دليلا على ذلك.
ولكن حين تنظر إلى مدلول كلمة: نشيد، وتطورها فسنجد أن المنشد من يؤدي الشعر بتلحين وحسن إيقاع، والنشيد: الصوت ورفعه مع تلحين، والأنشودة: قطعة من الشعر أو الزجل في موضوع حماس وطني، تنشده جماعة من المنشدين أو القوم في إيقاع واحد، والجمع: أناشيد1.
وإن كان الإنشاد للشعر قد يصحبه تلحين وحسن إيقاع، إلا أننا لابد أن نفرق بين الإنشاد والغناء.
والإنشاد غير الغناء، فلم يكن الغناء من عمل الشاعر ولا مما يقوم به الشاعر، وكان الشاعر يأنف أن يجلس مجلس المغنى وإنما كان يترك ذلك للجواري والقيان المغنيين.
واستمر استقلال الإنشاد عن الغناء في العصور الإسلامية، فالشعراء ينشدون والمغنون يغنون، ويكفي أن ننظر إلى كتاب: الأغاني، لأبي فرج الأصفهاني، وما جاء فيه؛ لندرك الفصل بين صنعة الشعر وإنشاده، وبين غنائه على أحد الأصوات أو الألحان المعروفة، فقد روى صاحب الأغاني المقطوعة الشعرية وكيف كان لها طريقتان في غنائها، وتنسب كل طريقة إلى مغنٍ يقوم بأدائها2.
1 المعجم الوسيط: لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ص:921.
2 الأغاني: ج: 1، ص:26.
إلقاء الشعر قصيدته
الأصل في الشعر أن يلقي الشاعر شعره بنفسه إذا لم يكن هناك سبب يمنعه من ذلك؛ لأن القصيدة قطعة من الشاعر وصورة نفسه وقيض وجدانه وإحساسه ورسم تجربته.
وتروي لنا كتب الأدب أن إلقاء الشعر يحتاج من الشاعر أن يحتفل له بما يجعله أنيقا في العيون، مهيبا في الصدور، جليلا في الأسماع؛ ليلفت إليه المستمع حسًّا ومعنى، وظاهرا وباطنا؛ وليعطفهم عليه، ويدفع سأمهم منه.
دخل العماني الراجز على هارون الرشيد؛ لينشده وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج.
فقال له الرشيد: يا عماني، إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة عظيمة وخفان دلقمان.
ودخل أبو تمام على المأمون في زي أعرابي فأنشده قصيدته التي أولها:
دِمَنٌ أَلَمَّ بِها فَقالَ سَلامُ
…
كَم حَلَّ عُقدَةَ صَبرِهِ الإِلمامُ
فجعل المأمون يتعجب من غريب ما يأتي به من المعاني، ويقول ليس هذا من معاني الأعراب؟
فلما انتهى إلى قوله:
هُنَّ الحَمامُ فَإِن كَسَرتَ عِيافَةً
…
مِن حائِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ حِمامُ
فقال المأمون: الله أكبر كنت يا هذا قد خلطت على الأمر منذ اليوم وكنت حسبتك بدويا، ثم تأملت شعرك، فإذا هو من معاني المتحضرين، وإذا أنت منهم.
وحين بلغ أبا تمام نَعْيُ محمد بن حميد الطوسي، غمس طرف ردائه في مداد، ثم ضرب به كتفيه وصدره، وأنشد قصيدته المشهورة، التي تعد من أمهات قصائد الرثاء والتي مطلعها:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
…
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وهذا يدل على إدراك الشعراء لطبيعة الموقف، وما يحتاجه الإلقاء من تهييء خاص يناسب المقام، فالرثاء له موقف وهيئة بل إن الخلفاء كان يروقهم أن يقف المنشدون أمامهم في بزة شائقة، وهيئة حسنة، وأن لباس الأعراب كان محببا إليهم، أثيرا لديهم، كما كان أثيرا لدى الشعراء أنفسهم1.
وكان شاعر البادية الشيخ محمد عبد المطلب، كثيرا ما يشند شعره في المحافل وقد لبس: الكوفية والعقال تذكيرا بأسلافنا الأُوَل، فكان ذلك يزيد في هيبته ويجعله ملء البصائر والأبصار2.
عادة الشعراء:
للشعراء عادات في إلقائهم عُرفوا بها قديما وحديثا، وكانت تلازمهم: فالخنساء كانت تهتز في مشيتها وتنظر في أعطافها، وصنعت ذلك حين أنشدت قصيدتها الرائية التي تقول فيها:
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِهِ
…
كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نارُ
1 راجع في ذلك: الشعراء وإنشاد الشعر: على الجندي، ص: 35- 41.
2 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص:42.
ووَإِنَّ صَخراً لَمَولَانا وَسَيِّدُنا
…
وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ
وكان أبو النجم العجلي- إذا أنشد- أزيد ورمي بثيابه، وكان بشار إذا أراد الإنشاد: صفق بيديه، وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب، وكان الطرماح بن حكيم لا ينشد إلا جالسا، وكان الفرزدق يتكبر أن ينشد قائما، قال أبو عبيدة: كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء والأمراء إلا قاعدا. وكان البحتري رديء الإنشاد، قبيح الحركات، وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به، وكان من عادته إذا فرغ من القصيدة، أن يعيد البيت، وقد يعيد بيتين من أول القصيدة 1.
وليس كل من ينشئ الشعر، يحسن إلقاءه، فبعض الشعراء يحسنون إلقاءه كما يحسنون نظم القصيدة، فيزيد شعرهم حسنا وجودة، ويكتسي ملاحة وحلاوة، وتتضاعف منزلته حين ينشده.
يقول البارودي يصف شعره وهو ينشده بنفسه:
يَزِيدُ عَلَى الإِنْشَادِ حُسْنَاً كَأَنَّنِي
…
نَفَثْتُ بِهِ سِحْرَاً وَلَيْسَ بِهِ سِحْرُ
وبعضهم يجيء شعره وسطا، ولكن بجودة إلقائه، فيرتفع شعره إلى الذروة في نفوس مستمعيه ويفوق غيره ممن هم أقوى منه مبنى، وأجمل معنى، وألطف خيالا، ويظفر من التصفيق والاستحسان بنصيب كبير، وما ذلك إلا نتيجة جودة إلقائه.
وعرف في كل عصر من عصور الشعر شعراء يجيدون إلقاء شعرهم، ومن هؤلاء: أعشى قيس، وقد لقب بصنَّاجة العرب، وقد
1 الشعراء وإنشاد الشعر، ص: 45- 48.
اختلفوا في تعليل هذه التسمية فقيل: كان يتغنى بشعره، أو لكثرة ما غنت العرب في شعره أو لجودة شعره ولحسن إلقائه، وقد كانت العرب تقول لمن أجاد إلقاء الشعر: هو صناجة الشعر، وقد عرف في العصر الأموي بحسن الإنشاد: وضاح اليمن، وقد كان من أجمل الناس وجها، وأطرفهم وأخفهم شعرا، وقال الفرزدق لعباد بن العنبري: انشادك يزين الشعر في فهمي.
شعراء لا يلقون أشعارهم:
إن كان الأصل أن يلقي الشاعر شعره إلا أن المتأمل في أخبار الشعراء يجد أنه لم يخلُ عصر من شعراء نابهين مجودين في كتابة الشعر، ولكنهم قعدوا عن إنشاد شعرهم لسبب ما: كآفة لسانية أوكبر في السن، أو الحياء، أو غير ذلك، ومن هؤلاء الشعراء: أبو عطاء السندي1، وكانت في لسانه عجمة شديدة، ولثغة جعلتاه لا يكاد يُبِين، وكان الكُمَيت طويلا أصم، ولم يكن حسن الصوت، ولا جيد الإنشاد، فكان إذا استنشده إنسان، أمر ابنه: المستهل، فأنشد بدله2.
وكانت في أبي تمام حبسة شديدة وتمتمة، وقد حدث أنه امتدح أبا دلف العجلي، وكان في المجلس من يكره أبا تمام، فلما افتتح قصيدته المشهورة:
عَلى مِثلِها مِن أَربُعٍ وَمَلاعِبِ
…
أُذيلَت مَصوناتُ الدُموعِ السَواكِبِ
قال الرجل: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فدهش أبو تمام،
1 شاعر من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية.
2 الشعراء وإنشاد الشعر، ص: 57، 58.
واستمر ينشد بنفسه، ثم ترك الإنشاد لهذه الآفة، فكان أخوه سهم ينشد نيابة عنه.
وكان أحمد شوقي لا ينشد شعره بنفسه، فكان ينوب عنه في إنشاده بعض من يحسن الإنشاد مثل: كامل الشناوي، من رجال الآداب والصحافة، وكامل زيتون، من رجال التربية والتعليم.
إلقاء الشعر من غير قائله:
إذا كان ملقي الشعر غير القائل له، فعليه أن يلبس نَفْسَ الشاعر، ويحمل مشاعره ويتشرب عواطفه وينغمس في تجاربه، حتى يصير كأنه هو، والإنسان فيه قدرة عجيبة على أن يتقمص روح غيره، ويترجم عن وجدانه، وينطق عن لسانه.
والإلقاء الجيد له أثره في نفوس السامعين؛ إذ يسمو بالشعر إلى أرقى الدرجات، كما أن سوء الإلقاء قد يخفض من قدر الشعر الجيد؛ لأن الإلقاء عنصر من عناصر الجمال في الشعر، لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه وأخيلته.
فالشعر تشعر به النفوس ويتغنى به الناس في أعمالهم ومحافلهم، ويرونه فيما بينهم، وفي هذا يقول المتنبي:
وَمَا الشِّعْرُ إِلا مِنْ رُوَاةِ قَصَائِدِي
…
إذَا قُلْتُ شِعْرًا أَصْبحَ الدَّهرُ مُنْشِدًا
فَسَارَ بِه مَنْ لا يَسِيرُ مُشَمّرًا
…
وغَنَّى بِه مَنْ لا يُغَنِّي مُغَرِّدًا
1 الشعراء وإنشاد الشعر: علي الجندي، ص:21.