المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوالد الحاني والعالم الرباني - كلمات في مناسبات

[عبد الله الرحيلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌أنا والكلمة وأنت

- ‌اختيار موضع الكلمة

- ‌كلمات قلتها بمناسبة أسبوع المرور

- ‌ليس بينك وبينه إلا

- ‌شذرات

- ‌أساليب مغلوطة

- ‌الناس أصناف

- ‌لقد تبين لي

- ‌إقناع النفس بطلب العلم

- ‌قالوا وقلت

- ‌مفاتيح العلم الثلاثة

- ‌الطريقة المثلى لتحصيل مفاتيح العلم الثلاثة

- ‌أزواج بالكذب

- ‌آيات قرآنية وأحاديث نبوية في الموضوع:

- ‌حل المشكلة:

- ‌التأويل في العقيدة

- ‌شرف العلم ومسؤوليته

- ‌أصناف الناس مع الحق

- ‌وقفة عند الصلاة

- ‌بعدها يحمد أو يدرك الإنسان العاقبة

- ‌في مفهوم الدعوة

- ‌مناجاة

- ‌معايدة بالمعاني

- ‌يا أيها المودع رمضان

- ‌وقفة عند مناسبة العيد

- ‌صيانة الإنسان

- ‌مفهوم الراحة والتعب

- ‌أمران تتوقف عليهما السعادة

- ‌عناصر مقومات الشخصية المسلمة

- ‌الإنسان والموت

- ‌حديث من بين القبور

- ‌أعظم مشكلة

- ‌رحم الله الشيخ عمر

- ‌قصور وقبور

- ‌ورع غريب

- ‌أيها الجالس في الحانوت

- ‌صيد الكلاب وصيد بني آدم

- ‌الوالد الحاني والعالم الرباني

- ‌حكمة

- ‌عجبت

- ‌رحمه الله، ويرحمه الله

- ‌الحياة مدرسة

- ‌لا تضيع عمرك في البحث عن المفاتيح

- ‌ما أعظم الفرق

- ‌أيها الحاج بيت الله

- ‌قل

- ‌تعليقات على بحث

- ‌مطالب الإنسان بين المشروعية والإمكان

- ‌تأمل في معنى الحياة

- ‌نصائح وجيزة

- ‌يا ولدي

- ‌كلمات في طيبة الطيبة

- ‌ينبغي ولا ينبغي

- ‌لقد خسر هؤلاء

- ‌قال الطالب النجيب

- ‌صلة الرحم حسب المزاج

- ‌عقليتان لا تصنعان مجدا

- ‌الميزان المنكوس

- ‌ليس المهم أن تكون قويا لكن تقيا

- ‌علاقة الصحة بالإيمان

- ‌الشجرة

- ‌الأم

- ‌قصيدة في الزهد

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الوالد الحاني والعالم الرباني

‌الوالد الحاني والعالم الرباني

"1"

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله تعالى

بعد عمر مبارك، قضاه في الخير، توفي سماحة الوالد الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ فترك فراغا في القلوب، وفراغا في الدنيا التي عمرها الشيخ، وملأها بذكر الله تعالى والتذكير به، والعلم والتعليم؛ فأصبح مكانه خاليا مناديا؛ بأن لا أحد في هذه الدار يظل باقيا؛ فكم ترى حزينا باكيا؛ ثم تراه يلحق من بكاه؛ ليبكيه آخر سيلحق به تاليا!.

وها هو يرحل عن هذه الدنيا هذا الشيخ الجليل، وسنلحق به عما قليل؛ فهل نستعد للرحيل!.

يا أيها النائم إن المنون ليست نائمة، ويا أيها الغافل إن الأقدار ليست غافلة!.

يا أيها العاقل قم؛ فانظر في أخبار الراحلين: كيف كانوا، وكيف رحلوا.

يا أيها العاقل قم؛ فانظر في أخبار العالم الحبر؛ فلعله يوقظك بأخباره، ولو من بعد رحيله عن هذه الدار.

يا أيها العاقل قم؛ فانظر في أخبار البحر: كيف كان، وكيف واراه التراب.

ألا ما أعظم الفرق بين رجل ورجل، وما أعظم الفرق بين راحل وراحل!.

"1" قد أفردت هذا الموضوع في رسالة مستقلة، بعد أن أضفت إليه إضافات.

ص: 101

والله أكبر كم بين شخص وشخص من المراحل!.

رحل الشيخ الذي: يعطي السائل، ويحل المشكلات والمسائل، ويزهد في الدنيا غير سائل، ويتجاوز الحقد والحسد كأنه عن طبائع اللئام غافل، ويحمل كلام الإنسان على أحسن المحامل، ليثبت للدنيا أنه الرجل المؤمن العاقل؛ فازدانت به المجالس والمحافل، وابتسم للناس وألان لهم الكلام، وأطعم الطعام، وقرأ القرآن وصلى والناس نيام، وذكر الله حين غفل عن ذكره الغافلون، وأطاب الكلام حين أفحش المفحشون، وجمع الكلمة حين فرق المفرقون، وأحب الخير كله للناس كلهم، فكشف لهم الشيخ عن حقيقة ذاته، وأنه عبد لله يغدو ويروح في مرضاته، قد ضحى في سبيل ذلك بملذاته؛ لظفره بما هو ألذ منها من العبادة والذكر والدعاء وإيصال الخير للناس. فرحمة الله عليه، ولله دره ما أعقله وما أطيبه من رجل!.

ولعل في هذه الأسطر بعض ما ينبغي أن يكتب عن شيخ المسلمين ووالدهم-رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه.

صفتان بارزتان في حياة الشيخ:

ربما كان مجمل التعبير عن وصف الشيخ عبد العزيز ابن باز-رحمه الله تعالى-وأصدقه، أنه: الوالد الحاني والعالم الرباني.

الوالد الحاني:

فاز الشيخ عبد العزيز ابن باز بلقب: "سماحة الوالد"، وهو اللقب الذي يخاطبه به الناس عن رضا وقناعة؛ وذلك أن الناس يشعرون أن هذا الرجل

ص: 102

أبوهم العطوف الودود، صاحب القلب الرحيم، والدمعة القريبة التي طالما خرجت من عيني الشيخ الكفيفتين،؛ شفقة على أبنائه الأعزاء، الذين هم المسلمون في أرجاء الأرض كلها، وتراه دائم السؤال عنهم، ودائم الحرقة عليهم وعلى أحوالهم في دينهم وفي دنياهم!.

واقتضت هذه الصفة العظيمة في الرجل الكبير أن يكون سخيا سخاء صادقا، شاملا لكل مجالات السخاء؛ وذلك لأنه اكتسب هذا السخاء من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان الشيخ سخيا بما ورثه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم والهداية، وكان مجتهدا في بذل هذا لمن يسأله ولمن لا يسأله، فكانت حياته وقفا على إيصال رسالة الإسلام إلى الدنيا كلها؛ ولم تقعده شهوات الدنيا بأسرها؛ لأن الشيخ لم يقع في أسرها!.

وكان سخيا بالدنيا لكل محتاج؛ فبذل، ولم يزل يبذل طوال حياته بكل ما يستطيع، دون أن يفرق بين محتاج ومحتاج، ودون أن يملي شروطا، ودون أن يبتغي من وراء ذلك شيئا سوى الهداية وسد الحاجة.

ولقد كان بذله عجيبا، والله، إذ لم يكن هذا البذل على فترات ومناسبات، وإنما كان في كل الأوقات، وعلى امتداد حياته كلها؛ لا، بل امتد ذلك إلى أن تجاوز حياة الشيخ في هذه الدنيا؛ إذ من المؤكد أنه التزم للناس التزامات مستقبلية من هذا القبيل حالت دونها الوفاة؛ فلله در الشيخ ما أوفاه!.

وتجاوز عطاؤه أيضا قدرته، إذ كان من عادته أن يقترض إذا لم يكن عنده شيء!. وقد أوصى بأشياء بعد وفاته، منها الوصية لنائبه بالاستمرار في أعمال

ص: 103

الخير ومساعدة الناس!.

وكان يعطي السائل، وأحيانا يعطي المحتاج وإن لم يسأل!.

ولا غرو أن يعطي الشيخ من يسأل، ومن لا يسأل؛ لأنه أيقن أنه في القيامة سيسأل؛ وكان الشيخ أبو عبد الله سخيا بوقته كله، وبجهده كله، وذلك طوال حياته كلها، فقد قضى تسعة وثمانين عاما، فبذلها كلها للناس، لم يقتطع منها وقتا إلا وقتا قصيرا يرتاح فيه ليعود للبذل والعطاء والتضحية، ولم يدخر منها إلا جهدا يسيرا؛ ليرتاح أيضا فيعود الشيخ لسيرته الدؤوبة في البذل كله:

- بذل العلم والهداية.

- وبذل المال.

- وبذل الوقت.

- وبذل الجهد.

- وبذل الجاه.

- وبذل العواطف الإنسانية والأبوية الرحيمة!.

وكان الشيخ-رحمه الله تعالى-سخيا بجاهه بصورة ملفتة للنظر، وهذا من مظاهر الكرم عنده، التي لم تقتصر على بذل ما يملكه من المال فقط.

فتراه دائم السعي في الشفاعات الحسنة-التي نسأل الله تعالى أن يجعل له نصيبا منها-.

فيسعى دائما لدى مختلف الناس، لقضاء حوائج الناس ومطالبهم

الدينية والدنيوية.

وكم له من نصيحة خفية لولاة الأمر، كلها لصالح المسلمين والعطف عليهم،

ص: 104

والرحمة بهم، وهذا بخلاف من حرم هذه الصفات التي حباها الله للشيخ.

حقا لقد بذل الشيخ ماء وجهه عند الناس، وجاد بماء وجهه لوجه الله تعالى؛ فمرة يكتب خطابا للشفاعة، أو لطلب قضاء الحاجة لمحتاج، ومرة يرسل سواه لذلك، ومرة يذهب بنفسه، رحمه الله.

فأدرك الناس أن هذا الرجل أبوهم العطوف!.

والعجيب أن الشيخ أبا عبد الله قد حاز على هذا اللقب -وهو: "سماحة الوالد"-ليس بقرار رسمي، ولكن باقتناع شعبي عن رضا نفسي!.

فالناس، كل الناس، اتفقوا على مخاطبته بهذا اللقب طوال حياته؛ لأنهم وجدوه كذلك.

والعجيب أن اللقب قد انطبق عليه تماما؛ حتى كلمة: "سماحة" انطبقت عليه؛ إذ كانت السماحة السمة البارزة في سيرته، سواء في أقواله وأفعاله، مع الناس ومع ولاة الأمر.

وأما وصف " الوالد" فقد استحقه بدرجة تجاوز فيها صفة كثير من الآباء؛ إذ لم يعمل جل الآباء؛ ما عمله وقدمه هذا الوالد لأبنائه!.

فاللهم اجزه عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرا.

اللهم سامح سماحته، واجزه عنا أبوته!.

اللهم إنك تعلم أن سماحته لم تكن كأي سماحة، وأن أبوته لم تكن كأي أبوة، ولا نزكي على الله أحدا.

ص: 105

العالم الرباني:

ومما يشرف به "سماحة الوالد" أنه: "عالم رباني".

ومما يشرف به هذا "العالم الرباني"، أنه:"الوالد الحاني".

ومجمل المسوغات لذكره في العلماء الربانيين تتلخص في ثلاث صفات، هي:

الأولى: توجهه بعلمه إلى الله والدار الآخرة.

الثانية: تخلقه بأخلاق الإسلام وأخلاق العلم وآدابه.

الثالثة: سداد منهجه في العلم.

وتفصيل هذه الصفات الثلاث يطول؛ لأن ذلك إنما هو الحديث المفصل عن حياة الشيخ كلها، نعم إنه حديث عن حياة الشيخ كلها، وعندها يعلم من لم يكن يعلم أن حياة الشيخ الجليل، بتفاصيلها، إنما هي دليل صادق، لا مرية فيه، أنه كان عالما ربانيا، وأنه توجه بعلمه إلى الله والدار الآخرة، وأنه قد سدد الله له منهج العلم؛ فسلم من مزالق المناهج وانحرافاتها أو أخطائها، وأنه قد تخلق بأخلاق العلم وآدابه؛ فزكت أخلاقه، وسمت آدابه.

ولنقف وقفات قصيرة عند كل من هذه الصفات الثلاث.

توجهه بعلمه إلى الله والدار الآخرة:

وأما توجهه بعلمه إلى الله والدار الآخرة، فهذا هو الأساس الأول الذي كان من وراء الخير كله في حياة الشيخ.

فما كان الشيخ يريد بعلمه صيدا سوى رضوان الله والدار الآخرة.

إنه لم يكن طالبا بعلمه الدنيا أو جاهها.

ص: 106

وكيف يكون الشيخ طالبا بعلمه الدنيا أو جاهها، وهو الذي يعطي الناس ما في وسعه من الدنيا؛ فلا يستأثر منها بشيء، وهو الذي بذل أيضا جاهه للناس وقضاء حاجاتهم!.

لقد نجح الشيخ، رحمه الله تعالى، في الاختبار بالدرهم والدينار، وذلك حين رفضها، وعليها استعلى، ابتغاء وجه ربه الأعلى!.

ومن الأمثلة في حياته، أنه كان دائم الترداد على الملك فيصل، رحمه الله تعالى، دائم النصح له، دائم الرفع لحاجات الناس إليه؛ فيذكر أن الملك فيصل أراد أن يختبر الشيخ: هل هو طالب دنيا أو طالب آخرة؟. فكتب له بمنحه عمارة كبيرة ذات ثمن عال تقع في الرياض في دخنة، وهي مقر الرئاسة العامة لدار الإفتاء والدعوة والإرشاد؛ فكتب الشيخ شاكرا معتذرا بأنه ليس بحاجة إليها، ولكن تبقى لصالح الرئاسة العامة لدار الإفتاء

ومثل هذا ما يذكر عن موقفه لما منح بيتا كبيرا في المدينة ليسكن فيه، حينما كان رئيسا للجامعة الإسلامية؛ فاعتذر الشيخ بأنه ليس في حاجة، ولكن يبقى البيت لمن يكون رئيسا للجامعة، وهذا هو الذي حصل بالفعل؛ فأصبح من يأتي لرئاسة الجامعة يسكن في هذا البيت. ولو أن الشيخ أخذه لما كان الأمر هكذا!.

والخلاصة أن الشيخ ترك الدنيا والتعلق بها للمحتاج ولمن يريدها، بل إنه ساهم بما يستطيع في حاجات المحتاجين؛ فكان يطلب، ولكن ليس لنفسه، وإنما لسواه، أما هو فيعطي مما أعطاه الله سبحانه.

وكان من ثمرات هذا أن أحبه الناس لما ترك لهم الدنيا وعف عن

ص: 107

أموالهم، بل أعطاهم. والحقيقة أن نظافة الجيب من ثمرات الإيمان بالغيب!.

*ومما كان عليه الشيخ من خلق يدل على وجهته هذه ما هو معلوم مشهور عنه من تورعه عن الغيبة والنميمة، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يرضى أن يتكلم في حضرته في أعراضهم.

وأنا أسمع للشيخ، بقصد أو عرضا، مذ كنت في دراسة المرحلة المتوسطة إلى أن توفي؛ فلم أسمع، والله، إلا خيرا، ولم أسمع منه غيبة في يوم من الأيام، ولم أسمعه يذكر أحدا بسوء؛ فأي سمو هذا، وانتصار على النفس، ونجاح في تربيتها، وترفع عن الاشتغال بأعراض الناس وبما يضر ولا ينفع من هذا القبيل وسواه.

ولا تعجب-بعد هذا-أن لا ترى أحدا يتكلم في الشيخ، لقد عف عن أعراضهم؛ فوفروا عرضه، حيا وميتا، ولم يجدوا عندهم تجاه الرجل الطيب إلا الثناء العاطر، والحب الزاخر، والدعاء الصادق. فاللهم ارحمه، واجزه عنا وعن الإسلام والمسلمين خيرا.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من كثرة ذكره لربه سبحانه، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان لا يدع فرصة تمر إلا ويذكر فيها ربه عز وجل أو يصلي فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من أثر التقوى في كلامه وتصرفاته ومشاعره وعواطفه وغضبه ورضاه؛ فسلم المسلمون من لسانه ويده؛ وشهدوا له بأنه ذو قلب نظيف ولسان عفيف؛ فما أجمل هذا الخلق اللطيف!. وكم حث الشيخ الناس-خاصة وعامة-على التقوى، وأوضح لهم ما وجده مكتوبا في كتاب الله وفي سنة

ص: 108

رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجده من نفسه عمليا أن تقوى الله خير ذخر للمرء في دنياه وفي أخراه، وأن عاقبتها أحسن العواقب!.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من نصحه لكل مسلم، وحبه الخير لكل مسلم.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من بذل المعروف والإحسان والصدقات سرا وجهرا.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من اجتهاده في طلب العلم وتعليمه بمختلف الطرق والأساليب؛ فهو دائم القراءة والمراجعة، يشهد بهذا الناس الذين يقرءون له، وهم على علم بمقدار ما قرأه الشيخ-أي قريء عليه-وهذا مع مشاغله التي لا تنقطع، ولا يطيقها كثير من أقوياء الرجال، وهذا مع كونه مكفوف البصر، لكنه نافذ البصيرة. ودروسه ومحاضراته وخطاباته التوجيهية والتعليمية لا تحصى.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من اجتهاد في الدعوة إلى الله تعالى بمختلف الطرق والأساليب الناجحة أيضا.

*ومما كان عليه الشيخ من أخلاق العالم الرباني، ما هو معلوم مشهور عنه من حكمة في المنهج والأساليب التي يدعو بها الناس إلى الله تعالى، وفي تعامله مع الناس كذلك.

ومن ذلك أنه كان شجاعا في قول الحق، لكن شجاعته ارتبطت بحكمته؛ فأتت ثمارهما يانعة رائعة. والأمثلة على هذا كثيرة، وتحتاج إلى متسع من الوقت لإفرادها بمؤلف خاص.

ص: 109

أخلاقه وآدابه:

أما أخلاقه وآدابه، فإن من يتتبع أخبار الشيخ وتفاصيل حياته -رحمه الله تعالى- يدرك إلى أي مدى كان الشيخ حريصا على وراثته لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكتمل له صواب الوجهة؛ لأنه لا يستقيم للإنسان الإرث من العلم النبوي حتى يضم إلى ذلك إرثه من الخلق النبوي، وكلما تمكن الإنسان من هذه الأخلاق، كان دليلا على تمكنه في الإرث من تلك العلوم.

وإذا أنت جمعت أخلاق الشيخ عبد العزيز ابن باز، رحمه الله تعالى، وفضائله، اتضحت لك هذه الحقيقة، وهي أن الشيخ وارث بنصيب وافر من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ما كان وارثا من علم النبي ورسالته صلى الله عليه وسلم، بل إن وراثته للسيرة والأخلاق ثمرة شاهدة لوراثته للعلم والفقه.

وما أجمل أن يكون العالم حائزا على الفضيلتين، آخذا بنصيب وافر من الإرثين. وحينئذ تجتمع القلوب على محبته، والتأسي بسيرته، والاعتراف بفضله ومكانته. وحينئذ، أيضا، تختفي من حياة العالم الازدواجية بين القول والعمل، أو المضادة بين علمه وعمله وسيرته.

وهذا هو السر الذي رأينا به الشيخ أبا عبد الله على ما يسر؛ فتوافقت أقواله وأفعاله، وعلمه وسيرته على الصفاء والصدق والاقتداء بخاتم الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم.

لقد كانت أحوال الرجل مؤيدة لأقواله، كما أن أقواله وعلمه كانا مؤيدين لأحواله وصفاته.

نعم، والله، ما كان أبو عبد الله دارسا ومدرسا لعلوم الشريعة وهو مقيم

ص: 110

على شيء من الأمور الشنيعة.

ويصعب حصر خصال الشيخ وفضائله التي كان فيها قدوة، وكانت سببا في وصوله إلى قلوبنا؛ فتمكن منها؛ فلما رحل عنا ترك مكانه في قلوبنا فارغا.

لقد كان في وفاة الشيخ مصابا عاما للمسلمين، ليس كأي مصاب؛ فالموت مصيبة، وأعظم ذلك موت الوالد-وقد مات والدنا في هذا العصر! -وأعظم ما يكون الموت مصيبة حينما يموت العالم الرباني-وقد مات عالمنا الرباني الذي ليس له فينا ثان! -. فإنا لله، وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونسأله تعالى أن يعوضنا خيرا.

ذكريات طيبة تجاه الشيخ:

*من الذكريات الطيبة مع سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز ذكرى لم يعلم بها رحمه الله، وهي تتعلق بترشيحه لجائزة الملك فيصل، رحمه الله، وقد كنت يومها مديرا للمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجاءتنا في المعهد الدعوة التي توجهها عادة مؤسسة الملك فيصل الخيرية للدعوة للترشيح للجائزة؛ فرشحنا سماحة الشيخ عبد العزيز لجائزة خدمة الإسلام -كما يرشح الابن أباه- وكتبت مسوغات الترشيح، وقد رشحت جهات أخرى الشيخ أيضا للجائزة، فكم كنت سعيدا حينما قرئ اسم الشيخ في المرشحين، وقرئت مسوغات الترشيح فكانت هي المسوغات التي كتبتها. هذا على الرغم من أنني لا أظن أن الرجل يعرفني معرفة شخصية، لكن الرجل الكبير، إن لم يعرف كل الناس، فقد يعرفه

الناس كلهم!.

ص: 111

*ومن الذكريات الطيبة ما أتذكره ولا أنساه، وهو ما شهدته من حلقات كانت للشيخ في المسجد النبوي، وذلك حينما كنت في أول عمري، وكان يلفت نظري العدد الكبير من الناس الذين يجتمعون لدرس الشيخ، ولا أنسى حلاوة كلماته الإيمانية وصداها في أذني، على الرغم من أنني لا أتذكر موضوعاتها الآن.

*ولا أنسى يوما زرت فيه الرياض، أيام كنت مديرا للمعهد العالي للدعوة الإسلامية، فاشتقت للقاء الشيخ، فذهبت إليه في الرئاسة العامة لدار الإفتاء والدعوة والإرشاد في ذلك الوقت، فرجعت وقد أسر الشيخ قلبي مما رأيته عليه من جد وجلد في الخير وأداء الأعمال المتكاثرة التي لا تنقطع، فعدت باللوم والإزراء الشديد على النفس التي لم تقم بالواجبات.

سداد منهجه في العلم:

- وفق الله تعالى الشيخ عبد العزيز ابن باز إلى تحصيل العلم على منهج سديد؛ فنفعه الله بعلمه، ونفع به الناس؛ ولولا سداد المنهج في تحصيل العلم؛ لكان العلم مضرا، لا نافعا، ومضلا، لا هاديا.

وثمت صفات كانت مما وفق الله إليه الشيخ في منهج التعلم والتعليم، ومن أهمها ما يلي:

- إخلاص النية لله في طلبه العلم، وصحة القصد.

- العناية بتحصيل الفقه، لا مجرد الاطلاع على النصوص وحفظها؛ فانتفع بما علمه وما حفظه من النصوص، فلم يأت في علمه ظاهريا ولا متأولا متكلفا.

ص: 112

- التزامه بمنهج أهل السنة والجماعة، فاستقام منهجه في الأصول والفروع، فحفظه الله من الزلل والخطل في المنهج: عقيدة، وشريعة، وعبادة، وخلقا.

- جمعه للعناية بالعلوم الشريعة الأساسية، لا سيما: العقيدة والحديث والفقه. إضافة إلى عنايته باللغة العربية الظاهر في حديثه وكتاباته، فلا تعد عليه لحنا أو خطأ في ذلك.

- تعبده لله بالعلم، وهذا واضح جدا من حياة الرجل، وهو ثمرة طبيعية من ثمرات الإخلاص.

- الوسطية والاعتدال في منهج الفهم، بحيث تراه يلتمس الابتعاد عن الغلو والتقصير.

- السماحة في الفهم، فلا يتكلف ولا يذهب في فهمه بعيدا، والسماحة في التعامل فلا يشتط في تعامله مع الناس، ولا يحتد، ولا يتجاوز الحد.

- التثبت في علمه وأحكامه؛ فمن منهجه التثبت من صحة الروايات؛ فلا يبني الأحكام على ما لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ ثم هو بعد ثبوت الرواية يتثبت من فهمها فهما صحيحا؛ وبهذا جاء علمه مليحا.

وهو يتثبت أيضا من صحة الأخبار ونسبة الأقوال والأفعال إلى الناس؛ فلا يقبل الأخبار على عواهنها، ولا يستعجل مع المستعجلين؛ كما أنه لا يقعد مع القاعدين!.

- الحكمة في أقواله وأفعاله، وبسبب هذا أصلح الله به كثيرا من الخلافات، وانجلت على يديه المشكلات أو خففها، كل ذلك بفضل

ص: 113

الله ثم كلمات الشيخ الحكيمة وتصرفاته الموافقة للصواب والحكمة معا. على أنه رحمه الله ليس معصوما من الخطأ، لكن سداد المنهج يقلل من الخطأ بصورة عجيبة، لا سيما مع المجاهدة للنفس والشجاعة والصدق والإخلاص.

- التواضع، وهو خلق في الشيخ قد شهد له به القريب والبعيد، ولم يكن تواضعه مقتصرا على اللقاءات، وإنما تجاوز ذلك إلى التواضع في إبداء الرأي، وفي الإدلاء بالعلم، وإلى المشاورة في المسائل العلمية والدعوية برغبة صادقة في البحث عن الحق والصواب.

وتمثل هذا التواضع في سيرة الشيخ في رجوعه إلى الرأي المخالف له متى ما تبين له الصواب بالدليل والنظر، ولهذا فكثيرا ما يتغير رأي الشيخ تبعا للدليل وتطلبا للصواب.

ويكثر في كلامه -بناء على هذا- أن يقول: "فيما أعلم"، "والله أعلم"، "لا أعلم في هذا دليلا صحيحا"، أو "حديثا صحيحا".

- الحرص على استثمار الوقت، وعدم تضييعه في غير ما يفيد. ولا سيما استثماره في البحث والقراءة والتعلم والتعليم، لا يصرفه عن ذلك كثرة المشاغل ولا علو المنصب.

سداد منهجه في الدعوة إلى الله:

تبعا لسداد منهج الشيخ في منهج التعلم والتعليم، كان الشيخ العالم الإمام داعية، وهذه من ثمرات العلم الضرورية اللازمة لكل عالم رباني. ثم قد جاء

ص: 114

منهجه في الدعوة إلى الله تعالى سديدا، منهجا ممحصا مدققا، بعيدا عن كل من الغلو والتقصير.

وقد جاءت جهود الشيخ في الدعوة، وأساليبه وطرقه فيها ثمرة من ثمرات تلك الأخلاق والصفات المنهجية والنفسية التي تحلى بها في منهجه العلمي.

فكان منهجه الدعوي منهجا صالحا مصلحا، ملتزما بالقرآن والسنة، مهتديا بهداياتهما، متجها نحو تحقيق مقاصدهما.

وبهذا كان منهج ابن باز رحمه الله منهجا مصلحا لا يرافقه إفساد أو خلل في جانب ما.

وبهذا أيضا جاء منهجه شاملا متوازنا.

وبهذا أيضا جمع الله به القلوب، وتلقاه الناس في بلاد الشيخ وفي سواها بالقبول، لا سيما أنهم قد رأوا الداعية قدوة حسنة في الخير وحبه والبعد عن الشر والخطل!.

من مظاهر سماحة الشيخ في الدعوة:

من مظاهر سماحة الشيخ في تعامله مع الناس ودعوته إياهم إلى الله تعالى ما يلي:

- البعد عن التعصب.

- سلامة الصدر وعفة اللسان عن الغيبة والنميمة والطعن في الناس.

- الحرص على جمع كلمة المسلمين على الخير، والبعد عن التفريق وأسبابه.

ولهذا كان الشيخ، رحمه الله تعالى، يصبر على جهل الجاهل، ويرشد

ص: 115

المخطيء بعبارات تقربه ولا تبعده، وتهديه ولا تضله، ولا يميل مع أحد الفريقين المختلفين، وإنما يميل مع الحق والصواب ويلتمسه حيث كان، دون أن يسفه المخالف، ودون أن ينسى النصيحة المناسبة الهادية للخير بالتي هي أحسن.

وبهذا المنهج أثر في الناس تأثيرا حسنا بالغا، على اختلاف طبقاتهم، وعلى اختلاف مذاهبهم، وعلى اختلاف مشاربهم؛ فانتفع به وبأسلوبه السمح الحكيم القاصي والداني، والعالم والمتعلم، والداعية والمدعو.

قبل أيام دخل شخص عند حلاق في مدينة ينبع فعجب الحلاق من مبادرة هذا الشخص له بالثناء على الشيخ ابن باز ومدحه، ويقول: هذا الرجل ما فيه مثله رحمه الله. وبالسؤال تبين أنه كانت له مشكلة أقلقته، وهي ظروف اضطرته إلى طلاق زوجته، ويقول بأنه ذهب إلى الشيخ في الرياض وكلمه، فحان موعد الصلاة، فأخذه الشيخ معه في سيارته، وكان هذا الرجل منشغل البال إلى درجة أنه كان مشعل السجارة وهو مع الشيخ في سيارته، دون أن يشعر، ولم يكلمه الشيخ في ذلك، لكنه في النهاية نصحه عن التدخين بأسلوب لطيف، ودعاه للغداء معه، وبعد الغداء، سأل الشيخ عن الرجل قائلا: أين الذي من ينبع، ولم يقل: أين المدخن أو صاحب السجارة!. فجاءه ووجهه في مشكلته، وانصرف!.

هذا موقف واحد مع رجل عادي غريب لا يعرفه الشيخ، لكن بمعاملته له بهذه السماحة والنصح، نفعه الله به.

ومن الأمثلة الدالة على منهجية الشيخ في الدعوة الشاهدة بسماحته

ص: 116

ونزاهته وبعده عن التعصب، موقفه من المختلفين في المناهج الدعوية، حيث كان الخلاف بين أولئك المختلفين على أشده، وصعد بعضهم هذا الخلاف، وحرص كل طرف على كسب الشيخ لصفه، لكن الشيخ رحمه الله كان في الوسط، وأبعد ما يكون عن الغلط، ويدعو إلى الحق والصواب، وإلى نبذ الخلاف والفرقة، ويدعو إلى الأخوة الإيمانية، وإلى المنهج السديد.

ولقد كان يتصرف تصرف الداعية الصادق الفقيه والعالم الرباني، ويتصرف تصرف من يجمع ولا يفرق؛ فكانت كلماته وتصرفاته حانية هادئة هادية.

ولم يجلس يوما للناس ليقول: فلان فيه، وفلان فيه. ولكن كان يجلس ليقول للناس. قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولقد تساءل بعض الناس عن سبب اجتماع القلوب على محبة الشيخ عبد العزيز، على اختلاف مذاهبها واختلاف مشاربها.

وكان جواب بعضهم أن السبب هو: توفيق الله، والإخلاص. وهذا حق، لكنه شطر الحقيقة، وأما الحقيقة كاملة فهي أن سبب اجتماع قلوب الناس على محبته كان بتوفيق الله ثم بسبب الإخلاص وبسبب منهج الدعوة الذي انتهجه الشيخ، ومن ذلك البعد عن الطعن في الناس والكلام في أعراضهم وأغراضهم، والبعد عن الغيبة والنميمة، وعن التباغض والتحاسد، فلم يعامل الناس -الموافقين والمخالفين- إلا بكلمة طيبة، وسلامة صدر، وحب للخير لهم، وتودد إليهم، وبذل النصيحة لهم بآدابها ومقاصدها الشرعية.

ولهذا، فإن من حق الله علينا، أولا، ثم من حق الشيخ علينا، ثانيا، أن لا

ص: 117

نحور كلامه، ولا نضعه في غير مواضعه، وأن لا نجره -بعد وفاته- إلى أي سبيل من سبل التعصب، أو البعد عن الحكمة والسماحة التي كان عليها الشيخ، رحمه الله.

دروس من حياته:

نستخلص فيما يلي بعض الدروس والعظات في حياة شيخنا ووفاته:

لاشك في أن التسعة والثمانين عاما -التي قضاها هذا العالم الداعية المجاهد- مليئة بكثير من الدروس والعظات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما من كان غائبا، فلا عليه أن يغيب عن الدروس أو تغيب الدروس عنه!.

فمن الدروس المستخلصة ما يلي:

*- اتضح أن العلم يتخذه طالبه للتزكية أو للتذكية؛ وذلك أن العلم إذا لم ينفعك ضرك، وذلك بحسب النية، وبحسب منهج الفهم أيضا؛ فمن طلبه على نية طيبة صالحة، وعلى منهج سديد في الفهم، نفعه العلم وزكاه. ومن فاته أحد هذين الأمرين أو كلاهما أضر به العلم وذكاه. وقد قال الله تعالى عن القرآن الكريم أنه يهتدي به أقوام، ويضل به آخرون؛ فقال سبحانه:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} "1". وقال سبحانه: {

وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ

"1" 44: فصلت: 41.

ص: 118

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً

} "1". وقال سبحانه: {

وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} "2".

وفي حياة الطالبين للعلم-على مر التاريخ-أمثلة ونماذج لكل من الصنفين، ودروس وعظة وعبرة!.

بل إن ذلك كله يتجلى أيضا في حياة أصناف الطالبين للعلم وفي مناهج طلبهم؛ فكم طائفة انحرفت بسبب انحراف القصد، وكم طائفة ضلت بسبب اختلال منهج الفهم!.

*- ومن الفوائد والدروس، أيضا: إنه اتضح جليا أن العمل بالعلم من أهم ثمار التزكية به، والاهتداء به عمليا؛ وبهذا يسعد بالعلم طالبه في حياته الدنيا وفي الآخرة.

وأما من لم يتلق العلم للعمل به، فإنه يشقى به في دنياه بتعبه في تحصيله، وبمذمته بمخالفته له، كما يشقى به في آخرته بمحاسبته عليه وعلى مسؤوليته التي لم يقم بها.

*- ومن الفوائد والدروس، أيضا: أنه يتضح لنا جليا أن العلم الشرعي علم هاد إلى الله تعالى، ومقرب منه سبحانه وتعالى، فمن لم يقربه علمه من ربه، فقد أبعده عن الله تعالى، عياذا به سبحانه من ذلك.

وفي حياة الطالبين للعلم أمثلة ونماذج لهذه لحقيقة، فهذا قريب من الله تعالى، يحبه ويذكره ويشكره على الدوام، مخبت لله. وهذا بعكسه، فعلى

"1" 65: المائدة: 5.

"2" 68: المائدة: 5.

ص: 119

الرغم من تحصيله للمعلومات، إلا أنه ميت من الأموات، إذ لم يحي بالعلم، فلم يذكر ولم يشكر ولم يخبت؛ فالفرق بين الاثنين كالفرق بين الحي والميت، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "1".

*- ومن الفوائد والدروس، أيضا: ما قد تبين لنا من اختلاف موقف الإنسان الذي ينبغي أن يكون عليه في شأن العلم، وموقفه مع المال، وذلك لأن المال يكون في حكم الإنسان؛ فيتصرف فيه الإنسان.

أما العلم فعلى عكس ذلك، إذ الواجب على الإنسان أن يحكم نفسه بالعلم، ويضع نفسه في موضع المتصرف فيه العلم، لا المتصرف هو.

*- ومن الفوائد والدروس، أيضا: أنه قد تبين لنا أن من دلائل استفادة الإنسان بالعلم أن يكون خاضعا للعلم، ومخضعا حياته له، وأما إذا أخضع الإنسان علمه بالشريعة لنفسه وأهوائها ورغباتها فهذا من علامات شقائه بالعلم.

*- ويتضح لنا جليا أن العبرة إنما هي بهمم الرجال وإرادة الرجال، لا بما يبدو للناس دائما من قدرات جسمية؛ فهذا الشيخ عبد العزيز، قد عاش حياته مكفوف البصر؛ لكنه لم يقعد في بيته وينتظر من الناس أن يصرفوا عليه ويخدموه؛ وإنما انطلق هو وواصل ليله بنهاره؛ ليحسن إلى الناس:

- فواصل الليل بالنهار لخدمة الناس وقضاء حاجاتهم.

- وواصل الليل بالنهار؛ ليدل الناس على الطريق -وهو الكفيف، وهم

"1" 122: الأنعام: 6

ص: 120

المبصرون- يدلهم على الطريق الصحيح والمنهج السديد للوصول إلى رضوان الله تعالى وجناته!.

- وواصل الليل بالنهار ليصرف على الناس المحتاجين.

- وواصل الليل بالنهار؛ ليدعو إلى الله تعالى بمختلف الطرق

والأساليب الناجحة.

- وواصل الليل بالنهار؛ ليعلم الناس الدين والعلم والأخلاق.

- وواصل الليل بالنهار؛ ليبني المساجد، ويساعد المراكز والهيئات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.

- وهذا هو الشيخ عبد العزيز، أيضا، يطلب العلم ويتدرج في مراحله حتى يصبح عالم الأمة؛ فكم فرج الله به من غمة، وكم هدى الله به من العباد-مع أنه رجل كفيف، وغيره مبصر-لكن الشيخ أراد أن يبصر؛ فأبصر، بإذن الله تعالى، أبصر ببصيرته التي نورها الله له بالعلم والهداية، وأمده الله بنور عيون إخوانه وأحبابه من المؤمنين؛ فقرءوا له، وكتبوا له ما أملاه عليهم.

أما كثير من المبصرين، فلم يستفيدوا من ضياء أعينهم التي أعطاهم الله إياها، فلم يستثمروها في طاعة ربهم، ولم يقرءوا بها الآيات والأحاديث والفقه والعلم؛ فما أعظم خسارتهم، وما أعظم غبنهم، سواء شعروا بذلك أو لم يشعروا، وسواء أدركوا ذلك في الدنيا أو في الآخرة!.

- تبين لنا من حياة الشيخ أهمية الأمور الآتي ذكرها، وحسن عاقبتها في الدنيا والآخرة، وهي أمور كان الشيخ ملتزما بها حتى أصبحت كأنها جزء

ص: 121

منه، رحمه الله، فمن ذلك:

- التقوى.

- الإخلاص والصدق.

- الفقه وسداد المنهج.

- المحافظة على الأوقات، واستثمارها في العلم والهداية.

- حسن الخلق، ومعاملة الناس بالتي هي أحسن.

- الحياة في ظل القرآن والسنة، والاحتكام إليهما بسماحة وعلى بصيرة.

- السلامة من الغل والحقد والحسد والغش، وسائر أمراض القلوب.

- الكرم والجود.

- السماحة في التعامل مع الناس، بمختلف صورها.

- حب الخير للناس، والسعي في إيصاله لهم بكل سبيل.

- النصح للناس جميعا حاكما ومحكوما، وكبيرا وصغيرا، وقريبا وبعيدا، وعالما ومتعلما، وطائعا وعاصيا، وموافقا ومخالفا!.

- الابتعاد عن ثلب الناس وتجريحهم.

- التواضع الجم في كل مواطنه، وبمختلف مظاهره.

- الاشتغال بالعلم بكل ما أوتي من الجهد والوقت.

- التوازن والشمول في العناية بمختلف أوجه الخير، والحرص على الخير في مختلف الميادين والأنشطة والطرق والأساليب.

- ملازمة ذكر الله تعالى سرا وجهرا.

- الالتزام ببرنامج ثابت في نوافل العبادات من صلاة وقراءة للقرآن

ص: 122

الكريم، ونحو ذلك.

وهكذا، فإن الأمر كما قال الله تعالى:{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} "1". والحمد لله رب العالمين.

مقترحات، ومقترحات على المقترحات:

بعد هذه الوقفات عند سيرة هذا الشيخ "عبد العزيز"، الذي مات،

ولكنه ما مات! ربما كان من المناسب أن نقف قليلا عند بعض المقترحات، وذلك فيما يلي:

أولا: ينبغي أن لا يغيب عن بال الإنسان ملحوظة مهمة في هذا الباب، وهي: أن العبرة ليست بالمدح والثناء على مثل هذا الإمام، وإنما العبرة بقبول ذلك عند الله تعالى، ولا يقبل الله إلا ما كان خالصا لوجهه، سبحانه، وكان صوابا؛ فينبغي للإنسان قبل أن يمدح الشيخ ويثني عليه أن يتحقق من نفسه مدى توافر هذين الشرطين في كلامه وعمله؛ لكي يؤجر.

ومما يزيد هذا الأمر أهمية، واقع الناس في هذا؛ فإنه-كما ذكر بعض السلف-على الرغم من أن شأن الجنائز من أمور الآخرة؛ إلا أن كثيرا من الناس يسعون فيها للدنيا والمجاملات. وهذا من الغفلة عن الله والدار الآخرة وعن المصيبة التي حلت بموت الميت!.

والعبرة بصدق العبارة وصدق العبرة.

ولهذا كان الحسن البصري-رحمه الله-يقول: "إذا أظهر الناس العلم،

"1" 132: طه: 20.

ص: 123

وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا في الأرحام، لعنهم الله جل ثناؤه، فأصمهم وأعمى أبصارهم".

ثانيا: الشيخ عبد العزيز ابن باز، رحمه الله، يستحق كل ثناء صادق مأذون فيه شرعا. ويستحق كل رد للمعروف ينفعه عند ربه سبحانه. وهذا هو واجب المحب الصادق.

ثالثا: من الواجب على المسلم مراعاة الضوابط الشرعية في مثل هذه المواقف، ومن ذلك النهي عن الغلو والإطراء الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تفعله معه عليه الصلاة والسلام. وهذا لا يتعارض-إطلاقا-مع أداء الواجب والاعتراف بالجميل والمكافأة الواجبة والمستحبة. أقول هذا في الوقت الذي أرى أنه لا خير فينا إذا نسينا مثل هذا الشيخ.

رابعا: لست، في الرأي، مع الإخوة الفضلاء الذين اقترحوا عدة مقترحات لتبجيل الشيخ ابن باز، رحمه الله تعالى، تبجيلا في نظري أنه لا ينفعه عند ربه، ومن تلك المقترحات-للتمثيل لا الحصر-:

1 -

اقتراح من اقترح أن يغير اسم الجامعة الإسلامية بالمدينة، بحيث يصبح اسمها: جامعة الشيخ عبد العزيز ابن باز الإسلامية بالمدينة. وقد ورد هذا الاقتراح في محاضرة ألقيت عن الشيخ عبد العزيز بن باز"1".

2 -

اقتراح من اقترح أن يلقب الشيخ عبد العزيز بشيخ الإسلام.

ولا داعي-في رأيي- لهذين الاقتراحين؛ والجامعة الإسلامية بالمدينة جامعة

"1" في الجامعة الإسلامية بالمدينة، يوم الخميس الموافق 5/2/1420هـ.

ص: 124

قائمة، وقد استقر اسمها منذ حوالي أربعين سنة، وهذا التغيير لا ينفع ابن باز، رحمه الله، وهو تغيير يتطلب تكاليف وجهودا لا طائل من ورائها، ثم إنه لو فتح هذا الباب لاتسع، كما لا يخفى. وأما اللقب فأمره واضح أنه لا يفيد، وأننا لم نصنع شيئا لو فعلنا ذلك، بل ربما أشعرنا الآخرين أننا نسعى وراء مثل هذه الألقاب، وربما فسر ذلك تفسيرات غير مناسبة.

فالذي أراه، وأقترحه، أن يصرف النظر عن مثل هذه المقترحات؛ وذلك لأمرين:

الأول: لأن هذه المقترحات ليس فيها جدوى، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ فقد مضى الشيخ إلى ما قدم من الخير، إن شاء الله تعالى، وهو لا يدري عن مثل هذه الألقاب والمقترحات، ولا تزيده ولا تنقصه شيئا، ولا تنفعه عند ربه، سبحانه.

الثاني: لأن العبرة ليست بالألقاب، وإنما هي بالثواب. ونحن المسلمين ينبغي لنا-لاسيما علماءنا الأحياء، وفقهم الله-أن تكون نظراتنا ومنطلقاتنا دائما شرعية إيمانية ترنوا إلى الله والدار الآخرة.

خامسا: أقترح على ولاة الأمر في بلادنا وعلى القادرين والمحبين للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز-رحمه الله تعالى، ووفقهم جميعا- أن يأخذوا بالأجدى والأولى، وهو المنتظر منهم، بأن يسعوا في رد شيء من معروف الشيخ علينا وعليهم وعلى هذه البلاد المباركة وعلى المسلمين عامة؛ ومن ذلك ما يلي:

أ- أن يقوموا ببعض الأعمال والمشروعات الخيرة الباقية النافعة للإسلام والمسلمين في الدنيا وفي الآخرة، التي يعود ثوابها للشيخ ولمن يقوم بها، وبهذا تلتقي جهودهم بعد وفاته كما التقت أيام حياته، ومن ذلك:

ص: 125

1-

الاستمرار في ما كان قائما من أعمال ومشروعات أقامها أو بدأها الشيخ، سواء المشروعات العلمية، أو الخيرية أو الدعوية.

2-

إقامة بعض الأوقاف، من مراكز أو مدارس، أو جمعيات، أو مساجد أو صدقات، باسم الشيخ، في الداخل وفي الخارج. ويعود ثوابها على الشيخ وعلى القائمين بها.

ب- نشر علم الشيخ ودعوته، بالحكمة والاعتدال، والجد المتواصل، مترسمين في ذلك همة الشيخ، رحمه الله، ونشاطه، ومن هذا:

1-

الحفاظ على منهج الشيخ ومدرسته الدعوية؛ فقد كان صاحب منهج متكامل في العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب والدعوة؛ ولهذه المدرسة سمات ينبغي المحافظة عليها، وينبغي مراعاتها عندما ينشر علمه ودعوته؛ فيراعى في ذلك الحكمة التي كان يستمسك بها، وكذلك الاعتدال، وسمو الأخلاق، والكرم، والرحمة، والتقى، ورعاية الغايات والمقاصد، والشمولية والتوازن

إلى آخر ما هنالك.

2-

ومن هذا أن يراعى فيما ينشر من أقواله وفتاويه مسألة الخصوصيات واختلاف الظروف.

3-

ومن هذا، أيضا، مراعاة تغير الاجتهاد؛ فلا يصح لنا أن ننشر عنه رأيا قد رجع عنه على أنه رأي له، ولا أن نقيم معارضة بين فتاويه المختلفة التي تغير فيها رأيه، كما أن من انتقل من رأي إلى سواه لا يصح أن يناقش ويناظر في ذلك الرأي الذي انتقل عنه، ومن تاب من أمر، أيضا، فإنه لا يصح أن يؤاخذ به -مع الفارق-.

ص: 126

4-

إصدار مجموعة كاملة بأعمال الشيخ العلمية. على أن يراعى في ذلك ما ذكرته من أمور في هذه المقترحات.

5-

إصدار ترجمة للشيخ، وافية متأنية موثقة، على أن يراعى فيها ما ذكرته من أمور في هذه المقترحات، أيضا.

وبمثل هذه المقترحات التي ذكرتها آنفا، نقوم ببعض المكافأة للشيخ عبد العزيز؛ فننفعه وننفع أنفسنا بما نحن في أشد الحاجة إليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وإنني على ثقة بأن مثل هذه المقترحات لن تضيع سدى عند ولاة الأمر في بلادنا، وعند أهل الخير القادرين، وعند العلماء، وعند المحبين-جزاهم الله خيرا-وإنني أرجو من ورائها أجرا عند ربي أجده يوم أوارى عن الورى، حين يضمني الثرى؛ فلا أحد يسمع ولا أحد يرى، وأن يكون شريكا كل من يسهم في هذا المجال بقليل أو كثير. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو العلي العظيم.

وفي الختام ندعو لشيخنا، فنقول:

اللهم إن شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز كان رحيما فارحمه.

اللهم إنه كان كريما فأكرمه.

اللهم إنه كان سمحا فسامحه.

اللهم إنه كان محسنا فأحسن إليه.

اللهم إنه كان مفرجا لكربات المسلمين ففرج عنه كربات يوم القيامة.

اللهم إنه كان قاضيا لحاجات عبادك فاقض حاجته.

ص: 127

اللهم إنه كان ودودا لطيفا فالطف به.

اللهم إنه كان صادقا ومصدقا بوعدك فأنجزه وعدك.

اللهم إنه كان معظما لك ولرسولك صلى الله عليه وسلم ولكتابك ولسنة نبيك؛ فارفع درجته.

اللهم إنه كان يحبك ويحب رسولك فأحبه.

اللهم إنه كان يخشاك فأمنه.

اللهم إنه كان بعيدا عن حرماتك؛ فأبعده من عذابك ونارك.

اللهم إنه كان قريبا منك ومن طاعتك فقربه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين.

الخميس 5/2/1420هـ

*قال أحدهم وهو يتحدث عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي، رحمه الله، وذلك قبل وفاته بسنوات: ذاك عالم رباني!.

فقلت: ليته رباني!.

ثم تحدثت عنه وعن فضله وبعض صفاته، وأنه ناقشني في رسالة الماجستير ورسالة الدكتوراه.

فقال بعض الحاضرين: إذن هو قد رباك فلم تقول ما قلت؟!.

ص: 128