الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس المهم أن تكون قويا لكن تقيا
يربي بعض الناس صغاره على شيء من الصغار؛ حين يزرع فيه "قوة الشخصية" على حد زعمه؛ فيؤكد هذا "الكبير" للصغير بأن يأخذ حقه من أي شخص كان، وأن لا يكون ضعيفا، ومن يتعدى عليه فعليه أن يكيل له الصاع صاعين-بحسب هذه النصيحة الفاشلة، الجائرة عن حدود الأدب والأخلاق والحياء-أما أخلاق المجاملة بين الناس، وأما حدود الاحترام بين الناس، ولا سيما بين الكبير "سنا أو قدرا" والصغير، وأما مراعاة العلائق واحترام حقوق النسب والقرابة والتحمل في سبيلها، فإن كل ذلك مضروب به عرض الحائط عند صاحب هذه النصيحة، الذي ربما أصبح لا فرق بينه وبين الحائط!.
وإنه-والله-لأمر جلل، ومصاب عظيم، أن تنتكس الفطرة وتنحرف الأخلاق عند بعض الناس إلى هذا الحد؛ فيتحولون-ويحولون صغارهم-من بني آدم إلى حيوانات مفترسة، يأكل فيها القوي الضعيف، وأحيانا: الفاضل يأكله السخيف!.
فلا مكان حينئذ للأخلاق الفاضلة، ولكن للأخلاق الراذلة؛ فيضيع الحق أو الحقوق، ويصبح الميزان هو القوة، لا الحق، وكأننا في معركة مع الأعداء، والمبدأ فيها هو ما أمرنا الله به تجاه العدو الكافر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} "1".
وإذا كان هذا هو المبدأ، فإن معناه أنه لم يعد للحياة مبدأ.
وإذا كان هذا هو المبدأ، فإن معناه أن الحق ليس ثابتا، وإنما يميل بحسب اختلاف نسب القوة بين الناس!.
وإذا كان هذا هو المبدأ، فإن معناه أنه ما من قوي يأخذ حقه بذراعه مرة إلا وفي الناس من هو أقوى منه فيقلب الميزان؛ فيصبح الحق له!.
وهذه ليست إلا شريعة الغاب!.
وما هذا إلا مبدأ الكلاب التي يأكل بعضها بعضا في كثير من الأحيان، على الرغم من أنه لا حاجة بها إلى أن يفترس بعضها بعضا؛ لأن الرزق، أو القوت، يتسع للجميع؛ لكن الكلاب لا تفهم هذا!.
بل حتى لو أخذ الناس فيما بينهم بمبدأ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، وهو المبدأ الذي أمر الله به تجاه العدو الكافر؛ فإن الله جعل في الأمر مع العدو الكافر فسحة، حيث جعل مجالا للسلم؛ فقال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2"!!.
فهل من مجال للسلم-لدى أصحاب هذا الاتجاه من الناس-مع أخيهم المسلم أو قريبهم أو الأكبر سنا، أو مع المخطيء، أو مع المصيب الذي
"1" 60: الأنفال: 8.
"2" 61-62: الأنفال: 8.
توهموه مخطئا، بمحض نفوسهم المريضة!.
ألم يعلم هذا الصنف من الناس-الذين لم يرضوا بانحراف أنفسهم حتى أخذوا في إفساد غيرهم بمثل هذه "النصائح" المنتكسة-أن أفضل طريق للحق هو أن تكون على الحق ومع الحق؟!.
ألم يعلم هذا الصنف من الناس أن أفضل طريق للحق هو أن يحترموا حقوق الآخرين ومشاعرهم.
ألم يعلم هذا الصنف من الناس أن أفضل طريق للحق هو أن يلزموا أنفسهم، ومن هو في نصحهم، بمحاسبة النفس -قبل الآخرين-على حقوق الناس الحسية والمعنوية ومشاعرهم والتلطف معهم، سواء أكانوا أقوياء أم ضعفاء، وسواء أكانوا أقارب أم أباعد، وسواء أكانوا فضلاء أم دون ذلك، وأن هذا هو أسلم الطرق لأخذ الحقوق-في الدنيا وفي الآخرة-!.
وأين هؤلاء الناصحون لأنفسهم بذلك المبدأ الجائر، مما دعا الله إليه عباده ومدحهم به وأخبر أنهم بسببه يكونون في مقام المحسنين الذين يحبهم الله، فقال سبحانه:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} "1".
"1" 133-136: آل عمران: 3.
نعم هكذا: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} !.
فهذه نصيحة الله لك، وهذه نصيحة من ينصحك؛ فأي نصيحة تقبل وأي النصيحتين ترفض؟!.
وكم هو الفرق بين أن تكون وحشا مفترسا- نظرا للاعتداء على حقوقك المزعومة-وبين أن تكون في مكان العافي عن الناس!.
وكم هو الفرق بين أن تكون من المفترسين، وبين أن تكون من المحسنين!.
وكم هو الفرق بين أن تذهب إلى النار وبين أن تذهب إلى الجنة، بل جنة عرضها السماوات والأرض!.
وكم هو الفرق بين أن يحبك الله وبين أن يبغضك!.
وكم هو الفرق بين أن تكون من المتقين وبين أن تكون من المنتصرين لأنفسهم بما فيه شقاء أنفسهم!.
وكم هو الفرق بين أن تكون حليما وبين أن تكون-باسم قوة الشخصية-لئيما!.
ثم ما قوة الشخصية هذه؟!.
أتعلم أن إبليس قوي الشخصية أيضا! ولكن في ماذا؟!. أفي طاعة الله تعالى؟!. كلا، والله، بل في سخط الله وفي عذاب الله!.
ليست العبرة بالقوة، لكن إنما الشأن في مجال استخدام القوة!.
ليس الشأن في أن تكون قويا، إنما الشأن في أن تكون تقيا!.
وأي مدح أو فضيلة في قوة تستخدم ضد الحق والفضائل، أو لا تستخدم في سبيل الحق والفضائل، لا سيما الحق الذي عليك!.
وأي خير في قوة يتعدى بها على القريب والبعيد، وعلى الضعيف والمسكين، وعلى الحقوق، وعلى العقوق!.
وقد قال صلى الله عليه وسلم محددا مفهوم القوة المحمودة: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب""1". أي ليس هو الذي يصرع الناس، وإنما هو الذي يملك نفسه؛ فينتصر عليها عند الغضب.
يا هذا أما علمت بطلا إلى النار؟!. فحذار حذار أن تكون مثله.
اللهم عفوا عفوا، وعذرا عذرا.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا أيها الإنسان إن باب التوبة مفتوح، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فهل تكون منهم؛ فتكون شجاعا على نفسك؛ فتردها إلى الصواب؛ فترفق بها وبمن معك؛ لتذهبوا جميعا إلى رضوان الله والجنة؟!.
أو ستبقون معا على ما أنتم عليه؛ لتصيروا معا إلى سخط الله وناره، ولا ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون؟!.
إن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأرجو أن تكون من أهلها.
والسلام على عباد الله الصالحين.
*عجبا لمن لسانه لا يكف، ليس عن ذكر الله، ولكن عن الثرثرة!.
"1" أخرجه البخاري، بر قم: 5763، ومسلم، في البر والصلة، برقم107، "ص2609".