الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِظْهَارِ الدَّجَّالِ هَذِهِ الْخَوَارِقَ الْعَظِيمَةَ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ اللَّهُ؟ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا اللَّهُ، وَقَدِ اعْتُقِدَ ذَلِكَ فِي مَنْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مِثْلُ خَوَارِقِهِ مِنَ الْكَذَّابِينَ، وَفِي مَنْ لَمْ يَقُلْ أَنَا اللَّهُ كَالْمَسِيحِ، وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[ذكر نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا]
((وَ)) مِنْ ((صِفَةِ النُّزُولِ)) أَيْ مَا يُثْبِتُهُ السَّلَفُ وَلَا يَتَأَوَّلُونَهُ صِفَةَ نُزُولِ الْبَارِي، جَلَّ وَعَلَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ بَنِي كَلْبٍ» ".
وَلِحَدِيثِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ فَنَادَى هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ، هَلْ مِنْ دَاعٍ - حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ - «يَنْزِلُ رَبُّنَا عز وجل إِلَى السَّمَاءِ» - وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَدِيثِ رَفَاعَةَ بْنِ غُرَابَةَ الْجُهَنِيِّ، وَمِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَمِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهَ، عَنْ جَدِّهِ، وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -.
وَذَكَرَ أَحَادِيثَ هَؤُلَاءِ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ - لَهُ بِأَسَانِيدِهِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِهِ (فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) قَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى النُّزُولِ عَلَى أَقْوَالٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ صِحَّةَ الْأَحَادِيثِ وَهُمُ الْخَوَارِجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ مُؤْمِنًا بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ مُنَزِّهًا لِلَّهِ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ وَهُمْ جُمْهُورُ السَّلَفِ.
وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْحَمَّادَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْرَطَ فِي التَّأْوِيلِ حَتَّى كَادَ يَخْرُجُ إِلَى نَوْعِ التَّحْرِيفِ، قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَسْلَمُهَا الْإِيمَانُ بِلَا كَيْفٍ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْمُرَادِ إِلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ عَنِ الصَّادِقِ، فَيُصَارُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْمُعَيَّنَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَحِينَئِذٍ التَّفْوِيضُ
أَسْلَمُ، انْتَهَى.
وَقَالَ الْعَلَامَةَ الطَّوْفِيُّ فِي (قَوَاعِدِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْتِدَالِ) : الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّهُمْ لَا يَتَأَوَّلُونَ الصِّفَاتَ الَّتِي مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ، كَالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَالْهُبُوطِ وَالدُّنُوِّ وَالتَّدَلِّي، كَمَا لَا يَتَأَوَّلُونَ غَيْرَهَا مُتَابَعَةً لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَقَالَ: وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: يَدْنُو مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.
وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ عِيَاضٍ إِذَا قَالَ لَكَ الْجَهْمِيُّ أَنَا أَكْفُرُ بِرَبٍّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ، فَقُلْ أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: حَضَرْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ حَدِيثِ " «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» " وَقَالَ لَهُ: فَالنُّزُولُ كَيْفَ يَكُونُ؟ يَبْقَى فَوْقَهُ عُلُوٌّ؟ ! فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ: النُّزُولُ مَعْقُولٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. فَقَدْ قَالَ فِي النُّزُولِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الِاسْتِوَاءِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَحَضَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ قُوَّادِ الْأَمِيرِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ، أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: وَكَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: أَثْبِتِ الْحَدِيثَ حَتَّى أَصِفَ لَكَ النُّزُولَ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَثْبَتُهُ. فَقَالَ إِسْحَاقُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، فَقَالَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ، هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ إِسْحَاقُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ؟ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ قَالَ: قَالَ لِيَ الْأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تَرْوُونَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» " كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، لَا يُقَالُ لِأَمْرِ الرَّبِّ كَيْفَ يَنْزِلُ؟ إِنَّمَا يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي أَمْرِ اللَّهِ كَمَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى اللَّهِ بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ يَفْهَمُ مَا يَجُوزُ التَّفَكُّرُ وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِ الْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالنُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِذَا مَضَى ثُلُثُهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ، وَلَا يُسْأَلُ كَيْفَ نُزُولُهُ لِأَنَّ الْخَالِقَ يَصْنَعُ مَا يَشَاءُ كَمَا شَاءَ.
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ (فِي شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيَّةِ) عَنِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنِ النُّزُولِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ: يَا ضَعِيفُ، لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَحْدَهَا؟ يَنْزِلُ اللَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ أَلَيْسَ يَخْلُو ذَلِكَ الْمَكَانُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمَّا صَحَّ خَبَرُ النُّزُولِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَقَبِلُوا الْحَدِيثَ، وَأَثْبَتُوا النُّزُولَ عَلَى مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَعْتَقِدُوا تَشْبِيهًا بِنُزُولِ خَلْقِهِ، وَعَلِمُوا، وَعَرَفُوا وَاعْتَقَدُوا، وَتَحَقَّقُوا أَنَّ صِفَاتَ الرَّبِّ لَا تُشْبِهُ صِفَاتَ الْخَلْقِ، كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُشْبِهُ ذَوَاتَ الْخَلْقِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُعَطِّلَةُ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: جَمَعَنِي وَهَذَا الْمُبْتَدَعَ - يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ صَالِحٍ - مَجْلِسُ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، فَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَنْ أَخْبَارِ النُّزُولِ فَثَبَتُّهَا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ: كَفَرْتُ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. فَرَضِيَ عَبْدُ اللَّهِ كَلَامِي وَأَنْكَرَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ الْمُلَقَّبُ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ: وَيُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ نُزُولَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَهُ بِنُزُولِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ، بَلْ يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَنْتَهُونَ فِيهِ إِلَيْهِ، وَيُمِرُّونَ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ الْوَارِدَ بِذِكْرِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكِلُونَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلِ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَقَوْلَهُ عز وجل {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] .
وَقَالَ الْإِمَامُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّرَامِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ (بِنَقْضِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَلَى الْمِرِّيسِيِّ الْجَهْمِيِّ الْعَنِيدِ، فِيمَا افْتَرَى عَلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ) مَا لَفْظُهُ: وَادَّعَى الْمُعَارِضُ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَمْضِي مِنَ اللَّيْلِ الثُّلُثُ؟ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ، هَلْ مِنْ دَاعٍ» .
قَالَ فَادَّعَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِلُ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَكُلُّ مَكَانٍ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ، لِأَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَالْقَيُّومُ بِزَعْمِهِ مَنْ لَا يَزُولُ،
قَالَ فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُعَارِضِ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُجَجِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ بَيَانٌ، وَلَا لِمَذْهَبِهِ بُرْهَانٌ، لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ تَنْزِلُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَوَقْتٍ وَأَوَانٍ، فَمَا بَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحِدُّ لِنُزُولِهِ اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ، وَيُوَقِّتُ مِنَ اللَّيْلِ شَطْرَهُ أَوِ الْأَسْحَارَ، أَفَأَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ يَدْعُوَانِ الْعِبَادَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ، أَوْ يَقْدِرُ الْأَمْرُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ يَتَكَلَّمَا دُونَهُ فَيَقُولَا: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟
فَإِنْ قَرَّرْتَ مَذْهَبَكَ لَزِمَكَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْأَمْرَ هُمَا اللَّذَانِ يَدْعُوَانِ إِلَى الْإِجَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِكَلَامِهِمَا دُونَ اللَّهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَكَيْفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، قَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ وَلَكِنْ تُكَابِرُونَ، وَمَا بَالُ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ يَنْزِلَانِ مِنْ عِنْدِهِ اللَّيْلَ ثُمَّ يَمْكُثَانِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ثُمَّ يُرْفَعَانِ، لِأَنَّ رِفَاعَةَ يَرْوِيهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَبْطَلُ بَاطِلٍ، وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا كُلُّ جَاهِلٍ - إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ أَجْمَلَ الْمَعَارِضُ جَمِيعَ مَا أَنْكَرَهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسَمَّاةِ فِي كِتَابِهِ وَآثَارِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَعَدَّ مِنْهَا بِضْعَةً وَعِشْرِينَ صِفَةً نَفَسًا وَاحِدًا، يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا وَيُفَسِّرُهَا بِمَا حَكَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمِرِّيسِيُّ، وَفَسَّرَهَا وَتَأَوَّلَهَا حَرْفًا حَرْفًا، خِلَافَ مَا عَنَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ (وَخِلَافَ مَا تَأَوَّلَهَا الْفُقَهَاءُ وَالصَّالِحُونَ لَا يَعْتَمِدُ فِي أَكْثَرِهَا
إِلَّا عَلَى الْمِرِّيسِيِّ) فَبَدَأَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ، ثُمَّ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَالْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَالْفَرَحِ وَالْكُرْهِ، وَالضَّحِكِ وَالْعَجَبِ وَالسُّخْطِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، وَالْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَالْيَدِ وَالْيَمِينِ وَالْعَيْنِ، وَالْإِتْيَانِ، وَالْمَجِيءِ، وَالنَّفْسِ وَالتَّكْلِيمِ.
قَالَ: عَمَدَ الْمُخَالِفُ إِلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَنَسَّقَهَا، وَنَظَّمَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ قَرَّرَهَا أَبْوَابًا فِي كِتَابِهِ، وَتَلَطَّفَ بِرَدِّهَا بِالتَّأْوِيلِ كَتَلَطُّفِ الْجَهْمِيَّةِ، مُعْتَمِدًا فِيهَا عَلَى الْمِرِّيسِيِّ، وَيُدَلِّسُ عِنْدَ الْجُهَّالِ بِالتَّشْنِيعِ بِهَا عَلَى قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَيُصَدِّقُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهَا بِغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فَزَعَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا يُكَيِّفُونَهَا وَيُشْبِهُونَهَا بِذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا بِزَعْمِهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا اجْتِهَادَ رَأْيٍ، لِيُدْرَكَ كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ أَوْ يُشَبَّهَ شَيْءٌ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ فِي الْخَلْقِ، قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ لَيْسَ كَصِفَاتِهِ شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: فَقُلْنَا لِلْمُعَارِضِ الْمُدَلِّسِ بِالتَّشْنِيعِ أَنَّ قَوْلَهُ كَيْفِيَّةُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَشْبِيهُهَا بِمَا هُوَ فِي الْخَلْقِ خَطَأٌ، فَإِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا قُلْتَ، فَنَحْنُ لَا نُكَيِّفُهَا، وَلَا نُشَبِّهُهَا وَلَا نَكْفُرُ بِهَا، وَلَا نُكَذِّبُهَا، وَلَا نُبْطِلُهَا بِتَأْوِيلِ الضَّلَالِ كَمَا أَبْطَلَهَا الْمِرِّيسِيُّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي تَكْيِيفِ صِفَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّا لَا نُجِيزُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا، وَنَسْمَعُهَا بِآذَانِنَا، فَكَيْفَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَمْ تَرَهَا الْعُيُونُ، وَقَصُرَتْ عَنْهَا الظُّنُونُ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَقُولَ فِيهَا كَمَا قَالَ الْمِرِّيسِيُّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتَ كُلَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ السَّمْعُ مِنْهُ غَيْرَ الْبَصَرِ وَأَنَّ الرَّحْمَنَ، بِزَعْمِكُمْ لَيْسَ يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ سَمْعًا مِنْ بَصَرٍ، وَلَا بَصَرًا مِنْ سَمْعٍ، وَلَا وَجْهًا مِنْ يَدَيْنِ، وَلَا يَدَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ كُلُّهُ - بِزَعْمِكُمْ - سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَوَجْهٌ وَيَدٌ وَنَفْسٌ وَعِلْمٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ، وَقَالَ {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] ، وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] وَلَمْ يَقُلْ يَسْمَعُ اللَّهُ فَلَمْ يَذْكُرِ الرُّؤْيَةَ فِيمَا يَسْمَعُ، وَلَا السَّمْعَ فِيمَا يَرَى - إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ الَّذِي رَدَّ بِهِ عَلَى الْمِرِّيسِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ: بَابُ ذِكْرِ أَخْبَارٍ ثَابِتَةِ السَّنَدِ صَحِيحَةِ الْقِوَامِ، رَوَاهَا عُلَمَاءُ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ