الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ غِنَاهُ عَنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ رَحْمَةً مِنْهُ، وَجُودًا وَكَرَمًا لَا لِمُعَارَضَةٍ وَلَا لِاسْتِجْلَابِ مَنْفَعَةٍ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، فَأَيُّ الْمَسْلَكَيْنِ سَلَكَهُ الْعَبْدُ أَوْقَعَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ، وَأَطَالَ جِدًّا، فَلَخَّصَ مِنْهُ هَذَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: يَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ - تَعَالَى - وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ الْجَازِمَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِهِمَا، وَيَلْزَمُ بِهِ الطَّاعَةُ، وَالْخُضُوعُ، وَالْإِخْلَاصُ فِي الْكُلِّ.
قَالَ: وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مَعْنًى، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مَعْنًى، إِنْ كَانَ ضِدُّهُ وَاحِدًا، أَوْ أَحَدَهَا إِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقَانِ لِلْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ الْمُمْكِنِ شَرْعًا، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَحَالِّهِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ.
[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ]
((فَصْلٌ)) فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ:
((وَكُلُّ مَا قَدَّرَ أَوْ قَضَاهُ
…
فَوَاقِعٌ حَتْمًا كَمَا قَضَاهُ))
((وَلَيْسَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا
…
بِكُلِّ مَقْضِيٍّ وَلَكِنْ بِالْقَضَا))
((لِأَنَّهُ مَنْ فِعْلِهِ - تَعَالَى
-
وَذَاكَ مِنْ فِعْلِ الَّذِي تَقَالَى))
((وَكُلُّ مَا)) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ ((قَدَّرَ)) اللَّهُ سبحانه وتعالى ((أَوْ قَضَاهُ)) مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ قَرِيبًا ((فَـ)) هُوَ ((وَاقِعٌ حَتْمًا)) لَازِمًا ((كَمَا قَضَاهُ)) أَيْ كَمَا حَكَمَ بِهِ وَقَدَّرَهُ حَسَبَ مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، وَجَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ وَالْخَلَائِقَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْقَدَرِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ. وَقَالَ فِي الْقَضَاءِ إِنَّهُ الْفَصْلُ وَالْحُكْمُ. وَقَالَ: وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْقَضَاءِ، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْفَصْلُ، يُقَالُ: قَضَى يَقْضِي قَضَاءً فَهُوَ قَاضٍ، إِذَا حَكَمَ وَفَصَلَ، وَقَضَاءُ الشَّيْءِ إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهٍ، مَرْجِعُهَا انْقِطَاعُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ، وَكُلَّمَا أَحْكَمَ عَمَلَهُ، أَوْ أَتَمَّ، أَوْ خَتَمَ، أَوْ أَدَّى، أَوْ أَوْجَبَ، أَوْ أَعْلَمَ، أَوْ أَنْفَذَ أَوْ
أَمْضَى " قَالَ: وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي الْأَحَادِيثِ، وَمِنْهُ الْقَضَاءُ الْمَقْرُونُ بِالْقَدَرِ، فَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاسِ، وَهُوَ الْقَدَرُ، وَالْآخِرُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ، فَمَنْ رَامَ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ رَامَ هَدْمَ الْبِنَاءِ وَنَقْضَهُ، وَتَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ النَّيْسَابُورِيَّ قَدِ اسْتَوْعَبَ الْأَوْجُهَ فِي الْقَضَاءِ فِي كِتَابِهِ (الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ) فَقَالَ: لَفْظَةُ " قَضَى " فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ جَاءَتْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا: الْفَرَاغِ {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] ، وَالْأَمْرِ {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47] ، وَالْأَجَلِ {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] ، وَالْفَصْلِ {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] ، وَالْمُضِيِّ {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] ، وَالْهَلَاكِ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] ، وَالْوُجُوبِ {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم: 22] ، وَالْإِبْرَامِ {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] ، وَالْإِعْلَامِ {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ} [الإسراء: 4] ، وَالْوَصِيَّةِ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، وَالْمَوْتِ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ، وَالنُّزُولِ {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14] ، وَالْخَلْقِ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ، وَالْفِعْلِ {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] يَعْنِي حَقًّا لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ، وَالْعَهْدِ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 44] . وَذَكَرَ غَيْرُهُ الْقَدَرَ الْمَكْتُوبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21] ، وَالْفِعْلَ {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] أَيْ: وَجَبَ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَالْوَفَاءِ بِغَايَةِ الْعِبَادَةِ، وَالْكِفَايَةِ " وَلَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ ". وَبَعْضُ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَدَاخِلٌ، وَيَرِدُ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وَبِمَعْنَى الْإِتْمَامِ {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] وَبِمَعْنَى " كَتَبَ " {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47] وَبِمَعْنَى الْأَدَاءِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ، وَمِنْهُ " قَضَى دَيْنَهُ "، وَتَفْسِيرُهُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا} [الإسراء: 23] بِمَعْنَى " وَصَّى " مَنْقُولٌ مِنْ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، قَالَ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ " وَوَصَّى " وَمِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَقَضَى} [الإسراء: 23] قَالَ: وَأَوْصَى، وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَرَأَ: وَوَصَّى، وَقَالَ: لَصِقَتِ الْوَاوُ بِالصَّادِ فَصَارَتْ قَافًا، فَقُرِئَتْ: وَقَضَى. كَذَا قَالَ، وَاسْتَنْكَرُوا مِنْهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. فَقَوْلُهُ فِي النَّظْمِ: " فَوَاقِعٌ حَتْمًا كَمَا قَضَاهُ " إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ فِي
الْأَزَلِ، وَعَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهَا سَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَهِيَ تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ. وَقَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُنْكِرَةِ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُقَدِّرِ الْأُمُورَ أَزَلًا، وَلَمْ يَكْتُبْهَا، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ عِلْمٌ بِهَا، وَإِنَّمَا يَأْتَنِفُهَا عِلْمًا حَالَ وُقُوعِهَا، وَهَؤُلَاءِ انْقَرَضُوا كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِسَبْقِ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ، إِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، وَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ، لَا إِذْنَ وَلَا صُنْعَ لِلْبَارِّي فِي ذَلِكَ كَمَا مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ، فَرَاجِعْهُ إِنْ شِئْتَ
((وَلَيْسَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ))
الْمُكَلَّفِ ((الرِّضَا)) وَهُوَ سُكُونُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتُهُ إِلَى قِدَمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ فَيَرْضَى بِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الرِّضَا صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إِلَى الرِّضَا. وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُفَارِقَانِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا فِي الْبَرْزَخِ، بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا، لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ، بَلْ رَجَاءٌ وَاثِقٌ بِوَعْدٍ صَادِقٍ مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ، فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ، وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ رحمه الله مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ فِي مَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي قَبِلْتُ، وَإِنْ مَنَعْتَنِي رَضِيتُ، وَإِنْ تَرَكْتَنِي عَبَدْتُ، وَإِنْ دَعَوْتَنِي أَجَبْتُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الرِّضَا بِاللَّهِ أَعْلَى مِنَ الرِّضَا بِمَا مَنَّ اللَّهُ، قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَنْ لَا يَحِسَّ بِالْأَلَمِ، وَالْمَكَارِهِ، بَلْ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطُهُ ; وَلِهَذَا أُشْكِلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ وَطَعَنُوا فِيهِ، وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْمَعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةَ، وَهُمَا ضِدَّانِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةَ النَّفْسِ لَهُ لَا يُنَافِي الرِّضَا؛ كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحُرِّ بِمَا يَنَالُهُ مَنْ أَلَمِ الظَّمَأِ، وَالْجُوعِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا،
وَقَالَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّضَا مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَحْكِيهِمَا قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَكَانَ - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ - يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَجِئِ الْأَمْرُ بِهِ كَمَا جَاءَ بِالصَّبْرِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحُهُمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنَ الْأَثَرِ: «مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي» . فَهَذَا أَثَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ لَيْسَ يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً، وَأَنَّهُ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَيْسَ مَقْدُورًا، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ: فَالْخُرَاسَانِيُّونَ قَالُوا: الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ، وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ، فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْعَبْدُ بِالِاكْتِسَابِ، وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ، بِلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ.
وَحَكَمَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، مِنْهُمُ الْقُشَيْرِيُّ، فَقَالُوا: بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ. وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ، فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ وَنِهَايَةُ حَالٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ، وَالْأَحْوَالَ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَوَاهِبِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: هُنَا ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الرِّضَا بِاللَّهِ، وَالرِّضَا عَنِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ. فَالرِّضَا بِاللَّهِ فَرْضٌ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْأُمُورِ وَأَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ الْعُمُومَ لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ، وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَوْجَبَتْهُ طَائِفَةٌ كَمَا أَوْجَبُوا الرِّضَا بِهِ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ فَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا يُجِبِ الرِّضَا ((بِكُلِّ مَقْضِيٍّ)) بَلْ حُكْمُ الْمَقْضِيِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْضِيًّا دِينِيًّا شَرْعِيًّا، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَلَّا يَخْتَارَ فِي هَذَا النَّوْعِ غَيْرَ مَا اخْتَارَهُ لَهُ رَبُّهُ وَسَيِّدُهُ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَافٍ لِإِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ وَرِضَاهُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، وَهَذَا مِنْهُ مَا لَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ، كَالْمَصَائِبِ الَّتِي يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِهَا، فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ فِرَارُهُ مِنْهَا إِلَى الْقَدَرِ الَّذِي يَرْفَعُهَا عَنْهُ وَيَكْشِفُهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُنَازَعَةٌ
لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلْقَدَرِ بِالْقَدَرِ، فَهَذَا تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا، فَالْمَقْضِيُّ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَلَا يَرْضَاهُ مِثْلَ الْمَعَايِبِ وَالذُّنُوبِ، فَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِسُخْطِهِ، وَمَنْهِيٌّ عَنِ الرِّضَا بِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّفْصِيلُ الْوَاجِبُ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:((وَلَكِنْ)) يَجِبُ الرِّضَا ((بِالْقَضَاءِ)) فَإِنَّ لَفْظَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ لَفْظٌ مَحْمُودٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ، فَصَارَ لَهُ حُرْمَةٌ أَوْجَبَتْ لِطَائِفَةٍ قَبُولَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَقْضِيًّا لِلرَّبِّ - تَعَالَى - مَخْلُوقًا لَهُ يَنْبَغِي الرِّضَا بِهِ، ثُمَّ انْقَسَمُوا فَرِيقَيْنِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالرِّضَا مُتَلَازِمَيْنِ فَمَعْلُومٌ أَنَّا مَأْمُورُونَ بِتَغْيِيرِ الْمَعَاصِي، وَالْكُفْرِ، وَالظُّلْمِ، فَلَا تَكُونُ مَقْضِيَّةً مُقَدَّرَةً - وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: قَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَنَحْنُ نَرْضَى بِهَا؛ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى سَبِيلِ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ عَنْ نَهْجِ الْحَقِّ وَطَرِيقِ الصَّوَابِ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، فَنَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ الَّذِي أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ، وَلَا نَرْضَى مِنْ ذَلِكَ بِالْمَقْضِيِّ، مِمَّا نَهَانَا عَنِ الرِّضَا بِهِ، فَنَرْضَى بِالْقَضَاءِ وَنَسْخَطُ مِنَ الْمَقْضِيِّ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَيَرْضَاهُ ; وَلِهَذَا قَالَ:((لِأَنَّهُ)) أَيِ الْقَضَاءُ ((مِنْ فِعْلِهِ)) أَيْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَ ((تَعَالَى)) - وَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَنَرْضَى بِفِعْلِهِ - تَعَالَى - دُونَ الْمَعْصِيَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْعَبْدِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى أُصُولِ مَنْ يَجْعَلُ مَحَبَّةَ الرَّبِّ وَرِضَاهُ وَمَشِيئَتَهُ وَاحِدَةً، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا شَاءَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ؛ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ وَلَا عِنْدَهُ هَذَا التَّفْصِيلُ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَيْضًا هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْقَضَاءَ غَيْرَ الْمَقْضِيِّ، وَالْفِعْلَ غَيْرَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عِنْدَهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: إِنَّمَا نَشَأَ الْإِشْكَالُ مِنْ جَعْلِهِمُ الْمَشِيئَةَ نَفْسَ الْمَحَبَّةِ، ثُمَّ زَادَ بِجَعْلِهِمُ الْفِعْلَ نَفْسَ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ عَيْنَ الْمَقْضِيِّ، فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ إِلْزَامُهُمْ بِكَوْنِهِ - تَعَالَى - رَاضِيًا مُحِبًّا لِذَلِكَ، وَالْتِزَامُ رِضَاهُمْ بِهِ، وَالَّذِي يَكْشِفُ هَذِهِ الْغُمَّةَ وَيُنْجِي مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَالْمَحَبَّةُ، فَلَيْسَا وَاحِدًا وَلَا هُمَا مُتَلَازِمَانِ، بَلْ قَدْ يَشَاءُ مَا لَا يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ مَا لَا يَشَاءُ كَوْنَهُ،
فَالْأَوَّلُ كَمَشِيئَتِهِ وُجُودَ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَمَشِيئَةُ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مَعَ بُغْضِهِ لِبَعْضِهِ، وَالثَّانِي كَمَحَبَّةِ إِيمَانِ الْكُفَّارِ وَطَاعَاتِ الْفُجَّارِ وَعَدْلِ الظَّالِمِينَ وَتَوْبَةِ الْفَاسِقِينَ، وَلَوْ شَاءَ ذَلِكَ لَوُجِدَ كُلُّهُ، فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْأَصْلُ أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ وَشَاءَهُ، وَقَدْ زَالَتِ الشُّبَهَاتُ وَانْحَلَّتِ الْإِشْكَالَاتُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ وَلَا اعْتِرَاضٍ، قَالَ - تَعَالَى -:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فَأَقْسَمَ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَيَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، وَمَتَى خَالَطَتِ الْقَلْبَ بِشَاشَةُ الْإِيمَانِ وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيِيَ بِرُوحِ الْوَحْيِ، وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ وَانْقَلَبَتِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادَعَةً، وَتَلَقَّى الْإِسْلَامَ بِصَدْرٍ مُنْشَرِحٍ، فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ((وَذَاكَ)) أَيِ الْمَقْضِيُّ الْمَبْغُوضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَالظُّلْمِ، وَالْعُدْوَانِ وَنَحْوِهَا لَا يَرْضَى بِهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ ((مِنْ فِعْلِ)) الشَّخْصِ ((الَّذِي تَقَالَى)) تَفَاعَلَ، مِنْ قَلَاهُ كَرَمَاهُ، رَفَضَهُ وَأَبْغَضَهُ، أَيْ مِنْ فِعْلِ الَّذِي أَتَى بِمَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ بِإِتْيَانِهِ بِهِ وَمُلَابَسَتِهِ لَهُ، وَفِعْلُهُ الَّذِي فَعَلَهُ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالْمَعَاصِي، وَالْأَشْيَاءِ الْمَبْغُوضَةِ لِلْبَارِي سبحانه وتعالى، فَأَتَى بِمَا يُوجِبُ بُغْضَهُ، وَيُكَرِّهُهُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ، فَهَذَا لَا يَسُوغُ الرِّضَا بِهِ، وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الَّذِي إِلَى الرَّبِّ مِنْهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ الْمَسْخُوطُ مَا لِلْعَبْدِ مِنْهَا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقَضَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهُمَا: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَهَذَا الرِّضَا بِهِ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي: الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي، فَهَذَا الرِّضَا بِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالثَّالِثُ: الْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ، فَهَذَا الرِّضَا بِهَا وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ الرِّضَا بِهِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ، فَالرِّضَا بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. انْتَهَى. وَمَقْصُودُهُ: وَلَا جَائِزٍ. وَفِي تَائِيَّةِ
شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ:
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ
…
وَلَا نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ لِأَقْبَحِ خِلْقَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ
…
إِلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنَلْقَى بِسُخْطَةِ
فَنَرْضَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلَقَهُ
…
وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابٍ بِحِيلَةِ
قَالَ الطَّوْفِيُّ فِي شَرْحِ التَّائِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ: الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ قَالَ نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ تَقْدِيرُهُ، وَلَا نَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ أَفْعَالُنَا الْقَبِيحَةُ، قَالَ: وَبِهَذَا أَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ الْكُفْرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَوَجَبَ الرِّضَا بِهِ ; لَأَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، فَلَا يَكُونُ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَأَجَابَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَقْضِيِّ. قَالَ: الرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَلْقُ اللَّهِ وَمُرَادُهُ، وَنَسْخَطُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكْتَسَبٌ لَنَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ إِلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا، قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْجَبْرُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صَاحِبُهُ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذَا الْمَقَامِ الضَّيِّقِ، وَالْقَدَرِيُّ أَقْرَبُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْجَبْرِيِّ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ هُمْ أَسْعَدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ عز وجل، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سُخْطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّهِ» " فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَالسُّخْطُ عَلَى الْقَضَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ أُمَّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ الرَّاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي مَا قَضَى اللَّهُ لَهُمْ رَضُوا بِهِ، لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَنَازِلُ يَغْبِطُهُمْ بِهَا الشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَقَدْ رَآهُ كَئِيبًا حَزِينًا لِقَتْلِ ابْنَيْهِ وَفَقْءِ عَيْنِهِ:" يَا عُدَيُّ مَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللَّهِ حَبِطَ عَمَلُهُ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.