الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التَّعْرِيفُ الخامس تَعْرِيفُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَمُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ]
(الْخَامِسُ: تَعْرِيفُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَمُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ)
التَّوَاتُرُ لُغَةً: تَتَابُعَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا بِمُهْلَةٍ، وَاصْطِلَاحًا: خَبَرُ عَدَدٍ يَمْتَنِعُ مَعَهُ لِكَثْرَتِهِ تَوَاطُؤٌ عَلَى كَذِبٍ عَنْ مَحْسُوسٍ أَوْ عَنْ عَدَدٍ، كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مَحْسُوسٍ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ. فَقَوْلُهُ خَبَرٌ جِنْسٌ يَشْمَلُ الْمُتَوَاتِرَ وَغَيْرَهُ، وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى عَدَدٍ يَخْرُجُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَبِقَوْلِهِ يَمْتَنِعُ مَعَهُ. . . إِلَخْ، يَخْرُجُ بِهِ خَبَرُ عَدَدٍ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَحْسُوسِ مَا كَانَ عَنْ مَعْلُومٍ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، كَإِخْبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ دَهْرِيًّا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ لِتَجْوِيزِ غَلَطِهِمْ فِي الِاعْتِقَادِ. وَهَذَا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِنَفْسِهِ، فَقَيَّدَ بِنَفْسِهِ لِإِخْرَاجِ الْخَبَرِ الَّذِي صَدَّقَ الْمُخْبِرِينَ بِهِ، بِسَبَبِ الْقَرَائِنِ الْمُحْتَفَّةِ بِهِ.
وَالْحَاصِلُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالْأَكْثَرُ إِذْ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَافْتَقَرَ إِلَى تَوَسُّطِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَلَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَسَاغَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَقْلًا كَسَائِرِ النَّظَرِيَّاتِ، فَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ مَا اضْطَرَّ الْعَقْلُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ. وَهَذَا كَذَلِكَ (وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ وَجَمْعٌ) : إِنَّهُ نَظَرِيٌّ، إِذْ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا افْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُمَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْأَخْبَارِ وَامْتِنَاعُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَصُورَةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنَةٌ. وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ ضَرُورِيٍّ، (وَقَالَ الطُّوفِيُّ فِي كُلِّ مُخْتَصَرِهِ) : الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، إِذْ مُرَادُ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورِيِّ مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَالثَّانِي الْبَدِيهِيُّ الْكَافِي فِي حُصُولِ الْجَزْمِ بِهِ تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ، وَالضَّرُورِيُّ يَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا، فَدَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ غَيْرُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَالْجَزْمُ حَاصِلٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ، بَلْ يَقَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهُ بِفِعْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَخَالَفَ قَوْمٌ، وَهُوَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بِمَنْزِلَةِ إِجْرَاءِ الْعَادَةِ بِخَلْقِ الْوَلَدِ مِنَ الْمَنِيِّ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالتَّوَلُّدِ.
وَالتَّوَاتُرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ، كَحَدِيثِ " «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ". فَقَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَيِّفٌ
وَسِتُّونَ صَحَابِيًّا، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ. وَالتَّوَاتُرُ يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ كَالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَاخْتُلِفَ فِي الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، هَلْ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ أَوْ لَا؟ وَالْحَقُّ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَالْمُتَوَاتِرُ فِيهِ كَثِيرٌ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْمُتَوَاتِرُ فِيهَا قَلِيلٌ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ نَفَى الْمُتَوَاتِرَ اللَّفْظِيَّ مِنَ السُّنَّةِ إِلَّا حَدِيثَ " «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا» "، وَزَادَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الْحَوْضِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَكَذَا حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: بَلَغَ التَّوَاتُرَ، وَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رَوَاهُ نَحْوُ أَرْبَعِينَ صَحَابِيًّا، وَاسْتَفَاضَ وَتَوَاتَرَ. (وَأَمَّا التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ) مِنَ السُّنَّةِ بِأَنْ يَتَوَاتَرَ مَعْنًى فِي ضِمْنِ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مُتَّحِدَةِ الْمَعْنَى فَكَثِيرٌ، فَالْمُتَوَاتِرُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ تَغَايُرُ الْأَلْفَاظِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ وَلَوْ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ، كَحَدِيثِ الْحَوْضِ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَثُرَتِ الْأَخْبَارُ فِي الْوَاقِعِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا لَكِنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَهَا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ، فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ مَثَلًا الشَّجَاعَةُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه وَالسَّخَاءُ لِحَاتِمٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ انْحِصَارِ التَّوَاتُرِ فِي عَدَدٍ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُصُولُ الْعَدَدِ إِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرَ إِذْ حُصُولُ الْعِلْمِ مَعْلُولُ الْأَخْبَارِ وَدَلِيلُهُ، كَالشِّبَعِ وَالرَّيِّ مَعْلُولُ الْمُشَبَّعِ وَالْمَرْوِيِّ وَدَلِيلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَدْرَ الْكَافِيَ مِنْهُمَا. وَيَخْتَلِفُ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالتَّوَاتُرِ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ، كَالْهَيْئَاتِ الْمُقَارِنَةِ لِلْخَبَرِ الْمُوجِبَةِ لِتَعْرِيفِ مُتَعَلِّقِهِ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ فِي اطِّلَاعِهِمْ عَلَى قَرَائِنِ التَّعْرِيفِ، وَاخْتِلَافِ إِدْرَاكِ الْمُسْتَمِعِينَ لِتَفَاوُتِ الْأَذْهَانِ وَالْقَرَائِحِ، وَاخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ عَلَى عِظَمِهَا وَحَقَارَتِهَا. وَالْمُعْتَمَدُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ، فَيَتَّفِقُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْعِلْمِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ الْمَعْلُومُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَالْمُحَقِّقِينَ، مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ لَا، قَالَ (الْمُحَقِّقُ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ) : الْأَصَحُّ التَّفَاوُتُ، فَإِنَّا نَجِدُ بِالضَّرُورَةِ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ، وَبَيْنَ مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ مَعَ كَوْنِ الْيَقِينِ حَاصِلًا فِيهِمَا، وَكَمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ
الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ. وَلَا يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ فِي التَّوَاتُرِ، وَلَا عَدَالَتُهُمْ خِلَافًا لِقَوْمٍ اعْتَبَرُوهُمَا، قَالُوا: لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ عُرْضَةٌ لِلْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، وَلِأَنَّ النَّصَارَى نَقَلُوا أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا الْمَسِيحَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وَبِالْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا نَمْنَعُ حُصُولَ شَرْطِ التَّوَاتُرِ لِلِاخْتِلَالِ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِ الْإِمَامِيَّةِ بِالنَّصِّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا يَحْوِيهِمْ بَلَدٌ، وَلَا يُحْصِيهِمْ عَدَدٌ، خِلَافًا لِطَوَائِفَ مِنَ الْفُقَهَاءِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ سُقُوطِ الْمُؤَذِّنِ عَنِ الْمَنَارَةِ، وَالْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ، لَكَانَ إِخْبَارُهُمْ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ.
وَأَمَّا الْآحَادُ فَهُوَ مَا عَدَا الْمُتَوَاتِرَ، فَدَخْلٌ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ مَا زَادَ نَقَلَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ عُدُولٍ. وَعَزِيزٌ وَهُوَ مَا (لَا) تَنْقُصُ نَقَلَتُهُ عَنْ عَدْلَيْنِ. وَخَبَرُ الْآحَادِ إِنْ كَانَ مُسْتَفِيضًا مَشْهُورًا، أَفَادَ عِلْمًا نَظَرِيًّا، كَمَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَابْنِ فُورَكٍ، وَقِيلَ: يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَغَيْرُ الْمُسْتَفِيضِ مِنْ سَائِرِ أَخْبَارِ الْآحَادِ يُفِيدُ الظَّنَّ فَقَطْ، وَلَوْ مَعَ قَرِينَةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ لِاحْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا دُونَ عَدَدِ رُوَاةِ الْمُسْتَفِيضِ لِقُرْبِ احْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ عَلَى عَدَدِهِمُ الْقَلِيلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ وَابْنُ حَمْدَانَ وَالطُّوفِيُّ وَجَمْعٌ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْقَرَائِنِ، قَالَ الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَرْدَاوِيُّ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَصَحُّ، وَالْقَرَائِنُ وَإِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِعَادَةٍ، فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: بَلْ يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِمَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ، كَسُكُونِهَا إِلَى الْمُتَوَاتِرِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا احْتِمَالٌ عِنْدَهُ أَلْبَتَّةَ. إِلَّا إِذَا نَقَلَهُ؛ أَيْ: نَقَلَ خَبَرَ الْآحَادِ غَيْرَ الْمُسْتَفِيضِ آحَادُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى إِمَامَتِهِمْ وَجَلَالَتِهِمْ وَضَبْطِهِمْ مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَيُفِيدُ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هَذَا الْمَذْهَبُ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ، وَالْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَقَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا وَعِلْمًا بِهِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، إِلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً تَبِعُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو الطَّيِّبِ، وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالسَّرْخَسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفُ، وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمُ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ - الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ النَّظَرِيَّ - وَاقِعٌ لَهُ، خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ، قَالَ: وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى هَذَا وَأَحْسَبُهُ قَوِيًّا، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ ظَنَّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ لَا يُخْطِئُ، وَالْأُمَّةُ فِي إِجْمَاعِهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ. وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: خَالَفَ ابْنَ الصَّلَاحِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ، وَقَالُوا: يُفِيدُ الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرِ. انْتَهَى.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَالْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ، وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَا نَقَلَهُ آحَادُ الْأُمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: يُفِيدُهُ عَمَلًا لَا قَوْلًا. انْتَهَى. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَا نَشْهَدُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ. وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَوْ مَعَ قَرِينَةٍ. وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: أَخْبَارُ الرُّؤْيَةِ حَقٌّ، نَقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا. وَقَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: هُنَا إِنْسَانٌ يَقُولُ: الْخَبَرُ يُوجِبُ عَمَلًا لَا عِلْمًا. فَعَابَهُ وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هَذَا. وَفِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْفَارِسِيِّ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: لَا نَشْهَدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ فِي النَّارِ لِذَنْبٍ عَمِلَهُ، وَلَا لِكَبِيرَةِ أَتَاهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ كَمَا جَاءَ، نُصَدِّقُهُ وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا جَاءَ. قَالَ الْقَاضِي: ذَهَبَ إِلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُفِيدُ.