المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أفعال الباري لا تعلل] - لوامع الأنوار البهية - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌[خطبة المؤلف]

- ‌[الْمُقَدِّمَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عِدَّةِ تَعْرِيفَاتٍ]

- ‌[التَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ في تقسيم الملة المحمدية إلى اعتقاديات وعمليات]

- ‌[التَّعْرِيفُ الثاني تنازع الصحابة في كثير من الأحكام ولم يتنازعوا في مسائل الصفات]

- ‌[التَّعْرِيفُ الثالث في الرأي والتأويل وسبب انتشار البدع]

- ‌[التَّعْرِيفُ الْرابع الخبر صدق أو كذب]

- ‌[التَّعْرِيفُ الخامس تَعْرِيفُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَمُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ]

- ‌[التَّعْرِيفُ السَّادِسُ الأخذ بالآحاد في العقائد]

- ‌[التَّعْرِيفُ السَّابع بيان المراد بمذهب السلف]

- ‌[التَّعْرِيفُ الثامن أول ظهور البدع]

- ‌[التَّعْرِيفُ التاسع مَذْهَبُ السَّلَفِ هُوَ الْمَذْهَبُ الحق]

- ‌[التَّعْرِيفُ العاشر اعتماد المؤلف على الِاسْتِدْلَالُ بِالْكِتَابِ والسنة]

- ‌[تفسير بسملة المتن]

- ‌[تفسير البسملة]

- ‌[فوائد تتعلق بالبسملة]

- ‌[الفائدة الأولى في بدأ الكتاب بالبسملة]

- ‌[الفائدة الثانية هل يبدأ بالبسملة في كتاب كله شعرا]

- ‌[الفائدة الثالثة الخلاف في البسملة أوائل السور أمن كل سورة هي أم لا]

- ‌[الفائدة الرابعة في بعض فضائل البسملة]

- ‌[الفائدة الخامسة الاسم الأعظم أهو البسملة أم غيره]

- ‌[معنى الحمد والشكر والنسبة بينهما]

- ‌[القديم والبقاء من صفاته تعالى]

- ‌[تفسير حي عليم موجود قادر]

- ‌[وجود الخلق دليل وجود الخالق]

- ‌الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌[الصلاة على النبي وبيان معناها وما اشتهر من تفسيرها]

- ‌[مراتب الصحابة]

- ‌[تنبيهات تتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[التنبيه الأول الجمع بين الآل والصحب]

- ‌[التنبيه الثاني عدد الصحابة]

- ‌[التنبيه الثالث حكم الصلاة على غير الأنبياء]

- ‌[الكلام على بعد وأما بعد]

- ‌[معنى لفظ التوحيد]

- ‌[الواجب والمحال والجائز]

- ‌[التعريف بأرجوزة المتن]

- ‌[الإمام أحمد نسبه وبيان مكانته]

- ‌[مذهب الإمام أحمد هو مذهب السلف]

- ‌[وفاة الإمام أحمد]

- ‌[فوائد لنيل هذه المطالب على بصيرة]

- ‌[الفائدة الأولى مبادىء هذا العلم]

- ‌[الفائدة الثانية المقصود من ترتيب القواعد]

- ‌[الفائدة الثالثة لمعة عن أول البدع ظهورا]

- ‌[الفائدة الرابعة التعريف بأهل السنة]

- ‌[الْمُقَدَّمَةُ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِ السَّلَفِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ]

- ‌[افتراق الأمة على بضع وسبعين فرقة]

- ‌[تنبيهات خاصة بالفرق]

- ‌[التنبيه الأول تعداد الفرق]

- ‌[فرقة المعتزلة]

- ‌[فرقة الشيعة]

- ‌[فرقة الخوارج]

- ‌[فرقة المرجئة]

- ‌[فرقة الجبرية]

- ‌[فرقة المشبهة]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّانِي رواية كلها في الجنة إلا واحدة]

- ‌[قول أهل السنة في النصوص]

- ‌[تأويل الصفات]

- ‌[حال المؤولين]

- ‌[تَنْبِيهَاتٌ خاصة بتأويل الصفات]

- ‌[التنبيه الأول الاختلاف في فهم الكمال]

- ‌[التنبيه الثاني مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ]

- ‌[التنبيه الثالث ذم الخوض في الكلام]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وتَعْدَادِ الصِّفَاتِ]

- ‌[أول الواجبات معرفة الله]

- ‌[صفاته تعالى ومن أطلق أنها قديمة ومن فصل]

- ‌[طوائف المنحرفيين وأنهم أهل تخييل وتجهيل]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَحْثِ أَسْمَائِهِ جَلَّ وَعَلَا]

- ‌[الْمُعْتَزِلَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى الْأَسْمَاءَ دُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الصِّفَاتِ]

- ‌[تَنْبِيهَاتٌ]

- ‌[التنبيه الأول ما يوصف به الرب أو يخبر به عنه أقسام]

- ‌[التنبيه الثاني ما يدخل في الإخبار عنه أوسع من الأسماء والصفات]

- ‌[التنبيه الثالث الأسماء الحسنى أعلام وأوصاف]

- ‌[أسماؤه تعالى توقيفية]

- ‌[تنبيهات]

- ‌[التنبيه الأول إذا كانت الصفة منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه تعالى]

- ‌[التنبيه الثاني إطلاق الاسم يجيز إطلاق المصدر والفعل]

- ‌[التنبيه الثالث إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل العلم]

- ‌[التنبيه الرابع أسماؤه تعالى كلها حسنى وأفعاله كلها خير]

- ‌[التنبيه الخامس ترتيب الأسماء والدعاء بها]

- ‌[التنبيه السادس الإلحاد في أسمائه تعالى]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَحْثِ صِفَاتِ مَوْلَانَا عز وجل]

- ‌[أقسام التوحيد]

- ‌[الصفات الثبوتية]

- ‌[صفة الحياة]

- ‌[صفة الكلام]

- ‌[صفة البصر والسمع]

- ‌[صفة الإرادة]

- ‌[صفة العلم]

- ‌[صفة القدرة]

- ‌[متعلقات الصفات الثبوتية]

- ‌[متعلق القدرة]

- ‌[متعلق الإرادة]

- ‌[متعلق العلم والكلام]

- ‌[متعلق السمع والبصر]

- ‌[فَصْلٌ في مبحث القرآن]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَبْحَثِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ الْقَدِيمِ]

- ‌[موافقة الأشعرية للمعتزلة]

- ‌[إعجاز القرآن]

- ‌[فَوَائِدُ الأولى معنى التحدي]

- ‌[الفائدة الثانية القول بالصرفة]

- ‌[الفائدة الثالثة القرآن معجز من عدة أوجه]

- ‌[الفائدة الرابعة القرآن المعجزة العظمى]

- ‌[الفائدة الخامسة مناسبة المعجزة للعصر الذي وقعت فيه]

- ‌[الفائدة السادسة هل في بعض آية إعجاز]

- ‌[فَصْلٌ في ذِكْرِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُثْبِتُهَا السلفيون ويجحدها غيرهم]

- ‌[وجوب التحرز عن إطلاق ما لم يطلقه الشرع إثباتا ونفيا]

- ‌[استواء الرب على عرشه وعلوه على خلقه وذكر الآيات المثبتة لذلك]

- ‌[نفي استلزام القول بالاستواء والعلو للتجسيم وبعض ما نقل عن السلف في الاستواء]

- ‌[تنبيهات]

- ‌[التنبيه الأول خطأ الناس من جهة التأويل والقياس]

- ‌[التنبيه الثاني عبارة للدواني في شأن الجهة]

- ‌[التنبيه الثالث عبارة لعماد الدين الواسطي في تقريب الجملة]

- ‌[علم الخلق قاصر عن الإحاطة بالله تعالى]

- ‌[إثبات الصفات والرد على النفاة]

- ‌[تعداد الصفات]

- ‌[صفة الرحمة]

- ‌[صفات المحبة والرضا والغضب]

- ‌[ذكر وجه الله تبارك وتعالى]

- ‌[ذكر اليدين والأصابع]

- ‌[إثبات الصورة والعين]

- ‌[ذكر نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا]

- ‌[تَنْبِيهَاتٌ]

- ‌[التنبيه الأول التأويل الذي يحيل هذه النصوص بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصلاة]

- ‌[التنبيه الثاني قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ ورد كلامهم]

- ‌[التنبيه الثالث نصوص لمشايخ الحنابلة تتعلق بالنزول]

- ‌[صفة الخلق أي التكوين]

- ‌[قوله إن صفات الله تعالى قديمة وما أورد عليه]

- ‌[الأوصاف المستحيلة في حق الله تعالى]

- ‌[فصل في إيمان المقلد]

- ‌[ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ]

- ‌[تَنْبِيهَاتٌ]

- ‌[التنبيه الأول في التقليد ثلاثة أقوال أو أربعة]

- ‌[التنبيه الثاني التقليد الصحيح محصل للعلم]

- ‌[التنبيه الثالث ما نقل عن أبو الحسن الأشعري في إيمان المقلد]

- ‌[التنبيه الرابع اختلاف القائلين بعدم صحة إيمان المقلد]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ]

- ‌[كل شيء غير ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته مخلوق]

- ‌[الكلام في الحكمة والتعليل]

- ‌[أفعال العباد]

- ‌[أفعال العباد خلق لله وكسب لهم]

- ‌[تنبيهات]

- ‌[التنبيه الأول أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ]

- ‌[التنبيه الثاني الْقَدَرِيَّةُ فِرْقَتَانِ غلاة ودونهم]

- ‌[التنبيه الثالث بَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ]

- ‌[أَفْعَالَ الْبَارِي لَا تُعَلَّلُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرِّزْقِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْكَلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ]

- ‌[علة التكليف]

- ‌[وجوب عبادة الله تعالى]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الذُّنُوبِ وَمُتَعَلِّقَاتِهَا]

- ‌[الخلاف في مرتكب الكبيرة]

- ‌[تنبيهات]

- ‌[التنبيه الأول تكفير الحسنات للسيئات]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّانِي هل تجب التوبة من الصغائر]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّالث هل يبلغ العبد حالة لا تقبل توبته فيها]

- ‌[التَّنْبِيهُ الرابع تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر]

- ‌[التَّنْبِيهُ الخامس التوبة من مظالم العباد]

- ‌[حال من مات ولم يتب]

- ‌[فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَنْ قِيلَ بِعَدَمِ قَبُولِ إِسْلَامِهِ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَتَحْقِيقِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[الاختلاف في حقيقة الإيمان وقول السَّلَفِ أنه قول وعمل]

- ‌[الإيمان يزيد وينقص]

- ‌[أوجه زيادة الإيمان]

- ‌[مذهب السلف الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ]

- ‌[تنبيهات]

- ‌[التنبيه الأول تعريفات بعض الفرق للإيمان]

- ‌[التنبيه الثاني الإيمان والإسلام شيء واحد أم شيئان]

- ‌[التنبيه الثالث التصديق يحتمل الزيادة والنقص]

- ‌[الاستثناء في الإيمان]

- ‌[الإسلام يزيد وينقص ويدخله الاستثناء]

- ‌[لا يقال الإيمان مخلوق ولا غير مخلوق]

- ‌[الكرام الكاتبين]

الفصل: ‌[أفعال الباري لا تعلل]

[أَفْعَالَ الْبَارِي لَا تُعَلَّلُ]

ثُمَّ أَشَارَ فِي النَّظْمِ إِلَى مَسْأَلَةٍ عَظِيمَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْبَارِي لَا تُعَلَّلُ، فَقَالَ:

((وَجَازَ لِلْمَوْلَى يُعَذِّبُ الْوَرَى

مِنْ غَيْرِمَا ذَنْبٍ وَلَا جُرْمٍ جَرَى))

((فَكُلُّ مَا مِنْهُ - تَعَالَى - يَجْمُلُ

لِأَنَّهُ عَنْ فِعْلِهِ لَا يُسْأَلُ

))

ص: 320

NzNzZ

فَإِنْ يُثِبْ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

وَإِنْ يُعَذِّبْ فَبِمَحْضِ عَدْلِهِ))

((فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَصْلَحِ

وَلَا الصَّلَاحُ وَيْحَ مَنْ لَمْ يُفْلِحِ))

((فَكُلُّ مَنْ شَاءَ هُدَاهُ يَهْتَدِي

وَإِنْ يُرِدْ ضَلَالَ عَبْدٍ يَعْتَدِ))

ص: 321

((وَجَازَ لِلْمَوْلَى)) جَلَّ وَعَلَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمَوْلَى اسْمٌ يَقَعُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ، فَهُوَ الرَّبُّ، وَالْمَالِكُ، وَالسَّيِّدُ، وَالْمُنْعِمُ، وَالْمُعْتِقُ، وَالنَّاصِرُ، وَالْمُحِبُّ، وَالتَّابِعُ

ص: 322

وَالْجَارُ، وَابْنُ الْعَمِّ، وَالْحَلِيفُ، وَالْعَقِيدُ، وَالصِّهْرُ، وَالْعَبْدُ، وَالْمُعْتِقُ، وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُهَا قَدْ جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ، فَيُضَافُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا اخْتِيرَ هُنَا الْمَوْلَى دُونَ غَيْرِهِ مِنْ

ص: 323

سَائِرِ الْأَسْمَاءِ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ ((يُعَذِّبُ الْوَرَى)) كَفَتَى، الْخَلْقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ذَوُو الْعُقُولِ ((أَوِ)) الْحَيَوَانُ مِنْ كُلِّ جِسْمٍ نَامٍ مُتَحَرِّكٍ بِالْإِرَادَةِ، أَوْ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِرَادَةُ الْأَوَّلِ أَوْلَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:((مِنْ غَيْرِمَا)) زَائِدَةٌ لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ،

ص: 324

أَيْ مِنْ غَيْرِ ((ذَنْبٍ)) أَيْ إِثْمٍ ((وَلَا جُرْمٍ)) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْجُرْمُ الذَّنْبُ، وَقَدْ جَرَمَ وَاجْتَرَمَ وَتَجَرَّمَ انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجُرْمُ بِالضَّمِّ الذَّنْبُ كَالْجَرِيمَةِ، وَالْجَمْعُ جِرَامٌ وَجُرُومٌ، وَإِنَّمَا حَسُنَ عَطْفُهُ عَلَيْهِ

ص: 325

فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِقَصْدِ الْبَيَانِ، وَالْإِيضَاحِ، وَالتَّعْرِيفِ لِشِبْهِهِ بِالْخَطَابَةِ ((جَرَى)) مِنَ الْعَبْدِ وَلَا صَدَرَ عَنْهُ، وَلَا تَمَادَى عَلَيْهِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - عَقْلًا أَنْ يُثِيبَ الْعَاصِيَ، وَأَنْ يُعَاقِبَ الطَّائِعَ لَوْلَا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ إِثَابَةِ الْمُطِيعِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ ((فَكُلُّ مَا)) أَيْ شَيْءٍ ((مِنْهُ - تَعَالَى -)) مِنْ إِثَابَةٍ وَعُقُوبَةٍ وَخَلْقِ خَيْرٍ وَشَرٍّ ((يَجْمُلُ)) أَيْ يَحْسُنُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجَمَالُ الْحُسْنُ فِي الْخَلْقِ، وَالْخَلْقُ يُقَالُ جَمُلَ كَكَرُمَ، فَهُوَ جَمِيلٌ كَأَمِيرٍ وَغُرَابٍ

ص: 326

وَرُمَّانٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَمَالُ يَقَعُ عَلَى الصُّوَرِ، وَالْمَعَانِي، وَمِنْهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، أَيْ حَسَنُ الْأَفْعَالِ كَامِلُ الْأَوْصَافِ. فَكُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْبَارِي - جَلَّ شَأْنُهُ - مِنَ الْأَمْرِ، وَالْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - حَسَنٌ جَمِيلٌ، حَتَّى إِثَابَةُ الْعَاصِي وَعُقُوبَةُ الْمُطِيعِ ((لِأَنَّهُ)) - تَعَالَى - ((عَنْ فِعْلِهِ)) الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ ((لَا يُسْأَلُ)) كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]((فَإِنْ يُثِبْ)) عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ وَخَلْقَهُ الْمُتَّقِينَ، وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ التَّيِّهَانِ ( «أَثِيبُوا أَخَاكُمْ» ) أَيْ جَازُوهُ عَلَى صَنِيعِهِ، يُقَالُ أَثَابَهُ يُثِيبُهُ إِثَابَةً، وَالِاسْمُ الثَّوَابُ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْخَيْرِ أَخَصُّ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا ((فَإِنَّهُ)) أَيْ إِثَابَتُهُ بِالْخَيْرِ وَالْجَزَاءِ الْحَسَنِ ((مِنْ فَضْلِهِ)) - تَعَالَى - الزَّائِدِ وَكَرَمِهِ الْجَزِيلِ ; لِأَنَّ أَتْقَى النَّاسِ وَأَعْبَدَهُمْ، لَا تُعَادِلُ عِبَادَتُهُ وَتَقْوَاهُ نِعْمَةَ إِيجَادِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَى عَبْدِهِ مِنَ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْفَضْلُ الْعَطَاءُ عَنِ اخْتِيَارٍ، لَا عَنْ إِيجَابٍ كَمَا تَزْعُمُهُ الْحُكَمَاءُ، وَلَا عَنْ وُجُوبٍ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، ((وَإِنْ يُعَذِّبْ)) عِبَادَهُ وَلَوِ الْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ ((فَبِمَحْضِ)) أَيْ خَالِصِ ((عَدْلِهِ)) - تَعَالَى، وَالْمَحْضُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، فِي اللُّغَةِ: اللَّبَنُ الْخَالِصُ غَيْرُ مَشُوبٍ بِشَيْءٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ " «بَارَكَ لَهُمْ فِي مَحْضِهَا وَمَخْضِهَا» " أَيِ الْخَالِصِ، وَالْمَمْخُوضِ - يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ عَذَّبَهُمْ لَعَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ الْخَالِصِ مِنْ شَائِبَةِ الظُّلْمِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ. وَالْعَدْلُ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَى الْفَاعِلِ، عَكْسُ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مَعَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْفَاعِلِ، فَطَاعَاتُ الْعَبْدِ وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تَفِي بِشُكْرِ بَعْضِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا بِنِعْمَةِ الْإِقْدَارِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْفِيقِ لَهَا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُهُ عِوَضًا عَلَيْهَا؟ وَاسْتُدِلَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] يَعْنِي لَمْ تَتَصَرَّفْ فِي غَيْرِ مِلْكِكَ، بَلْ إِنْ عَذَّبْتَ عَذَّبْتَ مَنْ تَمْلِكُ، وَبِقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ» ". وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَاءِ الْهَمِّ، وَالْحُزْنِ:" «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» ". وَبِمَا رُوِيَ عَنْ إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: مَا نَاظَرْتُ بِعَقْلِي كُلِّهِ

ص: 327

أَحَدًا إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ، قُلْتُ لَهُمْ: مَا الظُّلْمُ؟ قَالُوا: أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَكَ، وَأَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَا لَيْسَ لَكَ. قُلْتُ: فَلِلَّهِ كُلُّ شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَكِنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ سُدًى فَلْيُرَاجَعْ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ وَجَمْعٍ - لَمْ يَرْتَضُوا بِهَذَا، وَنَقَّبُوا عَلَيْهِ وَبَرْهَنُوا وَأَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْعِلَّةَ فِي أَفْعَالِهِ - تَعَالَى - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْبَارِي - تَعَالَى - لَيْسَ مُعَلَّلَةً بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ وَالْغَرَضِ، مَا لِأَجْلِهِ يَصْدُرُ الْفِعْلُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَفْعَلُ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُقَارِنَةِ لَهَا، وَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَيَجْعَلُونَ اللَّامَ فِي أَفْعَالِهِ لَامَ الْعَاقِبَةِ، لَا لَامَ التَّعْلِيلِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُحَرَّرٌ. وَمَذْهَبُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ امْتِنَاعُ خُلُوِّ فِعْلِهِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ.

قَالَ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ أَنَّ تَعْلِيلَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ لَا سِيَّمَا الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ - ظَاهِرٌ. وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا حَكَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الْأَصْفَهَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ الْجَامِعُ لِلْحَقِّ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ. وَعَلَيْهِ أَشْهَرُ الطَّوَائِفِ انْتِسَابًا إِلَى السُّنَّةِ هُمْ مُثْبِتَةُ الْقَدَرِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَيُثْبِتُونَ لِلَّهِ - تَعَالَى - حِكْمَةً يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا قَائِمَةً بِهِ - تَعَالَى - لَا مُنْفَصِلَةً عَنْهُ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ رَحْمَةً وَمَحَبَّةً وَرِضًا وَسُخْطًا، وَيُثْبِتُونَ لِلْحَوَادِثِ أَسْبَابًا تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ، وَيُثْبِتُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَالْمَوَانِعِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ مَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الصَّوَابِ، وَيَجْتَنِبُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَطَأِ، قَالَ: فَهَذِهِ طَرِيقَةُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، وَهِيَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الْحَقَّ وَأَدِلَّتَهُ بِمَا ضَرَبَهُ فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ وَسَنَّهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ. انْتَهَى.

قَالَ بَعْضُ مُتَكَلِّمِي الْأَشَاعِرَةِ: إِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَقُولُونَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَبَثَ فِي أَفْعَالِهِ - تَعَالَى - كَمَا يَمْنَعُونَ الْغَرَضَ ; وَلِذَلِكَ كَانَ التَّعَبُّدِيُّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَا يُطَّلَعُ عَلَى حِكْمَتِهِ، لَا مَا لَا حِكْمَةَ لَهُ، عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنِ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْنَعُونَ وُجُوبَ التَّعْلِيلِ لَا أَنَّهُمْ يُحِيلُونَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 328

فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ وَفَهِمْتَهُ ((فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ)) سبحانه وتعالى ((فِعْلُ الْأَصْلَحِ)) أَيِ الْأَنْفَعِ ((وَلَا)) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ ((الصَّلَاحِ)) لِعِبَادِهِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، فَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ قَالُوا بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ، وَقَالُوا: تَرْكُهُ بُخْلٌ وَسَفَهٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ الْبَارِي عَنْهُ، وَمِنْهُمُ الْجُبَّائِيُّ، وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ بَغْدَادَ إِلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، لَكِنْ بِمَعْنَى الْأَوْفَقِ فِي الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُتَرْجَمَةٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ بِمَسْأَلَةِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا بِوُجُوبِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ - تَعَالَى. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا بَعْدَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ - تَعَالَى - وَعَلَى وُجُوبِ الْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ وَأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِمَّا يُؤْمِنُ عِنْدَهُ الْكَافِرُ وَيُطِيعُ الْعَاصِي، وَأَنَّهُ - تَعَالَى - فَعَلَ بِكُلِّ أَحَدٍ غَايَةَ مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَصْلَحِ، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِهِ - تَعَالَى - عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لُطْفٌ لَوْ فَعَلَ بِالْكُفَّارِ لَآمَنُوا جَمِيعًا، وَإِلَّا لَكَانَ تَرْكُهُ بُخْلًا وَسَفَهًا.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَوِ الدِّينِ فَقَطْ عَلَى مَا مَرَّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْأَصْلَحِ هَلْ هُوَ الْأَوْفَقُ فِي الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ، أَوْ هُوَ الْأَنْفَعُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ مُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ الْأَنْفَعَ فِي عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى. فَأَوْجَبَ مَا عَلِمَ اللَّهُ نَفْعِيَّتَهُ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْجُبَّائِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ، فَزَعَمَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الْكُفْرَ عَلَى تَقْدِيرِ تَكْلِيفِهِ إِيَّاهُ يَجِبُ تَعْرِيضُهُ لِلثَّوَابِ بِأَنْ يُبْقِيَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ. وَالْبَغْدَادِيَّةُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ فِيهَا شَيْءٌ، لَكِنَّ الْإِلْزَامَ عَلَيْهِمْ فِي تَخْلِيدِ الْفُسَّاقِ فِي النَّارِ أَشَدُّ قُبْحًا وَشَنَاعَةً، وَتَمَسَّكُوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا أَمَرَ بِطَاعَتِهِ أَحَدًا، وَقَدَرَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمَأْمُورَ مَا يَصِلُ بِهِ إِلَى الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ تَضَرُّرٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ؛ كَانَ مَذْمُومًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، مَعْدُودًا فِي زُمْرَةِ الْبُخَلَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا عَدُوَّهُ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمُصَافَاةِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَامِلَهُ مِنَ الْغِلَظِ وَاللِّينِ إِلَّا بِمَا هُوَ أَنْجَعُ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ وَأَدْعَى إِلَى تَرْكِ الْعِنَادِ.

قَالُوا: وَأَيْضًا مَنِ اتَّخَذَ ضِيَافَةً لِرَجُلٍ وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى الْحُضُورِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ تَلَقَّاهُ بِبِشْرٍ وَطَلَاقَةِ وَجْهٍ لَدَخَلَ وَأَكَلَ، وَإِلَّا لَمْ يَدْخُلْ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ الْبِشْرُ، وَالطَّلَاقَةُ، وَالْمُلَاطَفَةُ، لَا أَضْدَادُهَا. وَأَجْلَبُوا وَأَجْنَبُوا مِنْ هَذَا التَّمْوِيهِ الَّذِي لَا يَصْدُرُ

ص: 329

إِلَّا مِنْ ضَالٍّ سَفِيهٍ، وَلِهَذَا قَالَ:((وَيْحَ)) هَذِهِ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ، تُقَالُ لِمَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ لَا يَسْتَحِقُّهَا، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَدْ تُرْفَعُ وَتُضَافُ كَمَا هُنَا، وَضِدُّهُ " وَيْلٌ " فَإِنَّهَا تُقَالُ لِلْحُزْنِ، وَالْهَلَاكِ، وَالْمَشَقَّةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ، وَقِيلَ:" وَيْ " كَلِمَةٌ مُفْرَدَةٌ، وَلَامُهُ مُفْرَدَةٌ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَفَجُّعٍ وَتَعَجُّبٍ، فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ الْمُنَاسِبُ هُنَا الْإِتْيَانَ بِكَلِمَةِ " وَيْلٌ " لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ؛ قُلْتُ: بَلِ الْأَنْسَبُ كَلِمَةُ " وَيْحَ " ; لِأَنَّهُ يَتَوَجَّعُ وَيَتَرَحَّمُ لِإِخْوَانِهِ مِنَ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَيْفَ اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ وَتَلَاعَبَ بِهِمْ تَلَاعُبَ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ وَالصَّوْلَجَانِ، مَعَ ظُهُورِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَعَلَى عُقُولِهِمُ الدَّمَارُ، وَعَلَى فُهُومِهِمُ الْبَوَارُ ((مَنْ)) أَيْ شَخْصٌ بَالِغٌ عَاقِلٌ ((لَمْ يُفْلِحْ)) أَيْ لَمْ يَفُزْ بِمُتَابَعَةِ الْحَقِّ، وَمُوَافَقَةِ الشِّرْعَةِ، وَرَفْضِ الْبَاطِلِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ، وَالْفَلَاحُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْجَوَامِعِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: بَقَاءٌ بِلَا فَنَاءٍ، وَغِنًى بِلَا فَقْرٍ، وَعِزٌّ بِلَا ذُلٍّ، وَعِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ، قَالُوا: فَلَا كَلِمَةَ فِي اللُّغَةِ أَجْمَعَ لِلْخَيْرَاتِ مِنْهَا.

وَلِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ لَوَازِمُ فَاسِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، مِنْهَا أَنَّ الْقُرُبَاتِ مِنَ النَّوَافِلِ صَلَاحٌ، فَلَوْ كَانَ الصَّلَاحُ وَاجِبًا وَجَبَتْ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ. وَمِنْهَا أَنَّ خُلُودَ أَهْلِ النَّارِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَلَاحًا لَهُمْ دُونَ أَنْ يُرَدُّوا فَيَعْتِبُوا رَبَّهُمْ وَيَتُوبُوا إِلَيْهِ، وَلَا يَنْفَعُكُمُ اعْتِذَارُكُمْ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا، فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَوْ أَمَاتَهُمْ وَأَعْدَمَهُمْ فَقَطَعَ عِتَابَهُمْ كَانَ أَصْلَحَ لَهُمْ، وَلَوْ غَفَرَ لَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ النَّارِ كَانَ أَصْلَحَ مِنْ إِمَاتَتِهِمْ وَإِعْدَامِهِمْ، وَلَمْ يَتَضَرَّرْ - سُبْحَانَهُ - بِذَلِكَ.

وَمِنْهَا أَنَّ عَدَمَ خَلْقِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ أَصْلَحُ لِلْخَلْقِ وَأَنْفَعُ، وَقَدْ خَلَقَهُ الْبَارِي - جَلَّ شَأْنُهُ. وَأَيْضًا إِنْظَارُهُ وَتَمْكِينُهُ وَتَمْكِينُ جُنُوَدِهِ وَجَرَيَانُهُمْ مِنَ الْآدَمِيِّ مَجْرَى الدَّمِ فِي أَبْشَارِهِمْ - يُنَافِي مَذْهَبَهُمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ. وَمِنْهَا مَا أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسْنِ الْأَشْعَرِيُّ لِلْجُبَّائِيِّ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ، أَمَاتَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ صَغِيرًا، وَأَحْيَا الْآخَرَيْنِ، فَاخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْإِيمَانَ، وَالْآخِرُ الْكُفْرَ، فَرَفَعَ اللَّهُ دَرَجَةَ الْمُؤْمِنِ الْبَالِغِ عَنْ أَخِيهِ الصَّغِيرِ فِي الْجَنَّةِ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ أَخُوهُ الصَّغِيرُ: يَا رَبِّ لِمَ لَا بَلَّغْتَنِي مَنْزِلَةَ أَخِي؟ فَقَالَ: إِنَّهُ عَاشَ وَعَمِلَ عَمَلًا اسْتَحَقَّ بِهِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ فَهَلَّا أَحْيَيْتَنِي حَتَّى أَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَأَبْلُغَ مَنْزِلَتَهُ؟ فَقَالَ: كَانَ الْأَصْلَحُ لَكَ أَنْ تَوَفَّيْتُكَ صَغِيرًا لِأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِنْ

ص: 330

بَلَغْتَ اخْتَرْتَ الْكُفْرَ، فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَكَ فِي حَقِّكَ أَنْ أَمَتُّكَ صَغِيرًا. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: فَإِنْ قَالَ الثَّانِي: يَا رَبِّ لِمَ لَمْ تُمِتْنِي صَغِيرًا لِئَلَّا أَعْصِيَ فَلَا أَدْخُلَ النَّارَ، مَاذَا يَقُولُ الرَّبُّ؟ فَبُهِتَ الْجُبَّائِيُّ، وَكَانَ الْأَشْعَرِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، فَتَرَكَ مَذْهَبَهُ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا مُعْتَزِلِيًّا، ثُمَّ تَابَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْعَدْلِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَقَى كُرْسِيًّا، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسِي، أَنَا فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ، كُنْتُ أَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يُرَى بِالْأَبْصَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْبَشَرِ أَنَا أَفْعَلُهَا، وَأَنَا تَائِبٌ مُقْلِعٌ مُعْتَقِدٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ مُخْرِجٌ لِفَضَائِحِهِمْ وَمَعَايِبِهِمْ.

قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: مَوْلِدُ الْأَشْعَرِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَقِيلَ: سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بَيْنَ الْكَرْخِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَوِ اخْتَرَمَ الْعَبْدَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ لَكَانَ نَاجِيًا، وَلَوْ أَمْهَلَهُ وَسَهَّلَ عَلَيْهِ النَّظَرَ لَعَنَدَ وَكَفَرَ وَجَحَدَ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّ الْأَصْلَحَ فِي حَقِّهِ إِبْقَاؤُهُ حَتَّى يُبْلُغَ، قَالَ: وَالْمَقْصُودُ عِنْدَكُمْ - يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ الْقَائِلِينَ بِالْأَصْلَحِ - بِالتَّكْلِيفِ الِاسْتِصْلَاحُ، وَالتَّفْوِيضُ بِأَسْنَى الدَّرَجَاتِ الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْأَعْمَالِ.

وَأَيْضًا قَالَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ: الرَّبُّ - تَعَالَى - قَادِرٌ عَلَى التَّفَضُّلِ بِمِثْلِ الثَّوَابِ ابْتِدَاءً بِلَا وَاسِطَةِ عَمَلٍ، فَأَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي تَعْرِيضِ الْعِبَادِ لِلْبَلْوَى، وَالْمَشَاقِّ؟ وَكَوْنُهُ - تَعَالَى - قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ حَقٌّ، ثُمَّ كَذَّبُوا وَافْتَرَوْا فَقَالُوا: الْغَرَضُ فِي التَّكْلِيفِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ أَهْنَأُ وَأَلَذُّ مِنْ قَبُولِ التَّفَضُّلِ وَاحْتِمَالِ الْمِنَّةِ.

وَهَذَا كَلَامُ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِالرَّبِّ - تَعَالَى - وَبِحَقِّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَمُسَاوَاةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آحَادِ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ التَّشْبِيهِ وَأَخْبَثِهِ، تَعَالَى عَنْ ضَلَالِهِمْ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَأَيْضًا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ أَنْ يُوجِبُوا عَلَى اللَّهِ عز وجل أَنْ يُمِيتَ كُلَّ مَنْ عَلِمَ مِنَ الْأَطْفَالِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَكَفَرَ وَعَانَدَ، فَإِنَّ اخْتِرَامَهُ هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ بِلَا رَيْبٍ، أَوْ أَنْ يَجْحَدُوا عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا سَيَكُونُ قَبْلَ كَوْنِهِ الْتَزَمَهُ سَلَفُهُمُ الْخَبِيثُ الَّذِينَ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَلَا خَلَاصَ لَهُمْ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْإِلْزَامَيْنِ إِلَّا بِالْتِزَامِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ شَرَائِعِ عُقُولِهِمُ الْقَاصِرَةِ، وَلَا تُقَاسُ بِأَفْعَالِهِمُ الْخَاسِرَةِ، بَلْ

ص: 331

أَفْعَالُهُ - تَعَالَى - لَا تُشْبِهُ أَفْعَالَ خَلْقِهِ، وَلَا صِفَاتُهُ صِفَاتِهِمْ، وَلَا ذَاتُهُ ذَوَاتِهِمْ، إِذْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . وَأَيْضًا يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِذَا بَلَغَ مِنَ الْأَطْفَالِ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ - أَنْ لَا يُمِيتَهُ طِفْلًا، فَإِنَّ الْأَصْلَحَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُحْيِيَهُ حَتَّى يَبْلُغَ وَيُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا، فَيَنَالَ بِذَلِكُمُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ، وَأَيْضًا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ اللَّهِ - تَعَالَى - لُطْفٌ لَوْ فَعَلَهُ - تَعَالَى - بِالْكُفَّارِ لَآمَنُوا، وَقَدِ الْتَزَمَهُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ، وَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَفْعَلَ فِي حَقِّ كُلِّ عَبْدٍ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ، فَلَوْ كَانَ فِي مَقْدُورِهِ مَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ عِنْدَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ، وَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ وَيُكَذِّبُهُ وَيُخْبِرُ سبحانه وتعالى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَوْ شَاءَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.

وَأَيْضًا يَلْزَمُهُمْ - وَقَدِ الْتَزَمُوهُ - أَنَّ لُطْفَهُ - تَعَالَى - وَنِعْمَتَهُ وَتَوْفِيقَهُ بِالْمُؤْمِنِ كَلُطْفِهِ بِالْكَافِرِ، وَأَنَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ، لَمْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنَ بِفَضْلٍ عَنِ الْكَافِرِ، وَكَفَى بِالْوَحْيِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَفِطْرَةِ اللَّهِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ رَدًّا لِهَذَا الْقَوْلِ وَتَكْذِيبًا لَهُ. وَأَيْضًا مَا مِنْ أَصْلَحَ إِلَّا وَفَوْقَهُ مَا هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّلَاحِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ يَجِبُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ إِذْ لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَا يُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ رِعَايَتُهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُ الْقَائِلِينَ بِالصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا بِالْأَسْقَامِ، وَالْآلَامِ، وَالْمِحَنِ، وَالْآفَاتِ مَعَ الْكُفْرِ، وَالْهَفَوَاتِ، وَكَيْفَ يَنْهَضُ لَهُمْ دَلِيلٌ وَخُلُودُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ لَيْسَ بِأَصْلَحَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

تَنْبِيهٌ:

مَذْهَبُ الْقَوْلِ بِالصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ مَبْنِيٌّ فِيمَا قَالَهُ مُتَكَلِّمُو الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: تَحْسِينُ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. الثَّانِيَةُ: اسْتِلْزَامُ الْأَمْرِ لِلْإِرَادَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ أَسْلَفْتَ عَنْ أَسْلَافِكَ مِثْلَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَتِلْمِيذِهِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَغَيْرِهِمَا - الْمَيْلَ، وَالِاسْتِدْلَالَ لِإِثْبَاتِ التَّعْلِيلِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْقَوْلِ بِالصَّلَاحِ

ص: 332

وَالْأَصْلَحِ، ثُمَّ هُنَا أَبْطَلْتَ هَذَا الْقَوْلَ وَذَكَرْتَ مِنْ لَوَازِمِهِ مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ، فَمَا تَصْنَعُ فِي هَذِهِ اللَّوَازِمِ الَّتِي أُلْزِمَتْ بِهَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَمَا الْجَوَابُ عَنْهَا إِذَا وُجِّهَتْ إِلَيْكُمْ؟ قُلْتُ: لَا رَيْبَ أَنَّنَا نُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَشَهِدَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ وَالْعُقُولُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، فَكُلُّ مَا خَلَقَ وَأَمَرَ بِهِ فَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَآيَةٌ قَاهِرَةٌ، لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ إِنَّ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ كُلِّهِ حِكْمَةً لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِلْمَخْلُوقِ، وَلَا مُشَابِهَةً لَهُ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحِكْمَتَيْنِ، كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، وَكَالْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَالذَّاتَيْنِ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي وَصْفِهِ، وَلَا فِي فِعْلِهِ، وَلَا فِي حِكْمَةٍ مَطْلُوبَةٍ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، بَلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْظَمُ فَرْقٍ وَأَبْيَنُهُ وَأَوْضَحُهُ عِنْدَ الْعُقُولِ، وَالْفِطَرِ، وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ مَا أُلْزِمَتْ بِهِ الْفِرْقَةُ الْقَائِلَةُ بِالصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، بَلْ وَأَضْعَافُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِلْزَامَاتِ لِلَّهِ فِيهِ حِكْمَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا، لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلِأَجْلِهَا حَسُنَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَقَبُحَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ فِي حَقِّهِمْ، وَهَذَا كَمَا يَحْسُنُ مِنْهُ - تَعَالَى - مَدْحُ نَفْسِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَبُحَ مَنْ أَكْثَرِ خَلْقِهِ ذَلِكَ، وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ الْكِبْرِيَاءُ وَالْعَظَمَةُ، وَيَقْبُحُ مِنْ خَلْقِهِ تَعَاطِيهِمَا كَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَكَى عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ:" «الْكِبْرِيَاءُ إِزَارِي، وَالْعَظْمَةُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدَةً مِنْهَا عَذَّبْتُهُ» " وَكَمَا يَحْسُنُ مِنْهُ إِمَاتَةُ خَلْقِهِ وَابْتِلَاؤُهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمِحَنِ، وَيَقْبُحُ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ أَمْثِلَتُهُ، فَلَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ جَامِعٌ يُوجِبُ أَنْ يَحْسُنَ مِنْهُ مَا حَسُنَ مِنْهُمْ، وَيَقْبُحَ مِنْهُ مَا قَبُحَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ تِلْكَ الْإِلْزَامَاتُ عَلَى مَنْ قَاسَ أَفْعَالَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ، دُونَ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ حِكْمَةً يَخْتَصُّ بِهَا وَلَا تُشْبِهُ مَا لِلْمَخْلُوقِينَ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهُوَ عَنْ تِلْكَ الْإِلْزَامَاتِ بِمَعْزِلٍ، وَمَنْزِلُهُ مِنْهَا أَبْعَدُ مَنْزِلٍ، وَنُكْتَةُ الْفَرْقِ أَنَّ بُطْلَانَ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْحِكْمَةِ، وَالتَّعْلِيلِ، كَمَا أَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي نُثْبِتُهُ غَيْرُ الَّذِي تُثْبِتُهُ الْمُعْتَزِلَةُ، كَمَا مَرَّ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ شَرِيعَةً عَقْلِيَّةً، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ فِيهَا وَحَرَّمُوا بِمُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، فَالْمُعْتَزِلَةُ يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَيُحَرِّمُونَ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ وَأَبْطَلِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ. وَأَمَّا زَعْمُ الْمُعْتَزِلَةِ اسْتِلْزَامُ الْأَمْرِ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ فَبَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

ص: 333

((فَكُلُّ مَنْ)) أَيْ: أَيُّ آدَمِيٍّ مِنْ خَلْقِهِ ((شَاءَ)) أَيِ اللَّهِ - تَعَالَى - ((هَدَاهُ)) الْمُرَادُ بِالْهُدَى هُنَا التَّوْفِيقُ، وَالْإِلْهَامُ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» "، وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فَنَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ، وَأَثْبَتَ لَهُ هِدَايَةَ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، وَالْمَشِيئَةُ تُرَادِفُ الْإِرَادَةَ، فَكُلُّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - هِدَايَتَهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ ((يَهْتَدِي)) الْهِدَايَةَ الْمَطْلُوبَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7] مِنَ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الَّتِي لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ مَوْجُودٍ خَلْقَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَا خَلَقَهُ لَهُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ تَعُمُّ هِدَايَةَ الْحَيَوَانِ الْمُتَحَرِّكِ بِإِرَادَتِهِ إِلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَهِدَايَةَ الْجَمَادِ الْمُسَخَّرِ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَلَهُ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ كَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ هِدَايَةً تَلِيقُ بِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَضُرُوبُهَا، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ عُضْوٍ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، فَالرِّجْلَانِ لِلْمَشْيِ، وَالْيَدَانِ لِلْبَطْشِ وَالْعَمَلِ، وَاللِّسَانُ لِلْكَلَامِ، وَالْأُذُنُ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْعَيْنُ لِكَشْفِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَكُلُّ عُضْوٍ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَهَدَى الزَّوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ لِلِازْدِوَاجِ وَالتَّنَاسُلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَهَدَى الْوَلَدَ إِلَى الْتِقَامِ الثَّدْيِ عِنْدَ وَضْعِهِ وَطَلَبِهِ. وَمَرَاتِبُ هِدَايَتِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ هَدَى النَّحْلَ إِلَى أَنْ تَتَّخِذَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا، وَمِنَ الشَّجَرِ، وَمِنَ الْأَبْنِيَةِ، ثُمَّ تَسْلُكُ سُبُلَ رَبِّهَا مُذَلَّلَةً لَهَا لَا تَسْتَعْصِي عَلَيْهَا، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى بُيُوتِهَا، وَهَدَاهَا إِلَى طَاعَةِ يَعْسُوبِهَا، ثُمَّ هَدَاهَا إِلَى بِنَاءِ الْبُيُوتِ الْعَجِيبَةِ الصِّفَةِ الْمُحْكَمَةِ الْبِنَاءِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بَعْضَ هِدَايَتِهِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْعَالِمِ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

ص: 334

النَّوْعُ الثَّانِي: هِدَايَةُ الْبَيَانِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالتَّعْرِيفِ لِنَجِدَيِ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ، وَطَرِيقَيِ الْهَلَاكِ، وَالنَّجَاةِ، وَهَذِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْهُدَى التَّامَّ، فَإِنَّهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ لَا مُوجِبٌ ; وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْهُدَى مَعَهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أَيْ: بَيَّنَّا لَهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ وَدَلَلْنَاهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] الثَّالِثُ: هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ، الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا. الرَّابِعُ: غَايَةُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالنَّارِ إِذَا سِيقَ أَهْلُهُمَا إِلَيْهِمَا، قَالَ - تَعَالَى -:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] وَقَالَ - تَعَالَى - عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23] وَتَفَاصِيلُ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ، وَقَدْ لَخَّصْتُ لَكَ مِنْهُ مَا لَعَلَّهُ يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ:

الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ - أَنَّ الْهِدَايَةَ هِيَ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ فَلَيْسَتْ بِهِدَايَةٍ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْهِدَايَةَ مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ عَلَى طَرِيقٍ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، سَوَاءٌ حَصَلَ الْوُصُولُ، وَالِاهْتِدَاءُ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ((وَإِنْ يُرِدِ)) اللَّهُ سبحانه وتعالى ((ضَلَالَ عَبْدٍ)) مِنْ خَلْقِهِ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ ((يَعْتَدِي)) بِارْتِكَابِ ذَلِكَ وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَاقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ، وَالضَّلَالُ ضِدُّ الْهُدَى، يُقَالُ عَدَا عَدْوًا وَعَدَوَانًا مُحَرَّكَةٌ، وَتَعَدَّى وَأَعْدَى، أَحْضَرَ وَعَدَا عَلَيْهِ عُدْوَانًا بِالظُّلْمِ، ظَلَمَهُ كَعَدَى وَاعْتَدَى. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: إِنَّ الْعُدْوَانَ أَنْ يَعْتَدِيَ مَا أُبِيحَ مِنْهُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُحَرَّمِ، كَالِاعْتِدَاءِ فِي أَخْذِ الْحَقِّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى مَالِهِ، أَوْ بَدَنِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، فَإِذَا أَتْلَفَ إِنْسَانٌ عَلَيْهِ شَيْئًا أَتْلَفَ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ، وَإِذَا قَالَ فِيهِ كَلِمَةً، قَالَ فِيهِ أَضْعَافَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ عُدْوَانٌ وَتَعَدٍّ لِلْعَدْلِ. قَالَ: وَهُوَ نَوْعَانِ: عُدْوَانٌ فِي

ص: 335

حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَعُدْوَانٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالَّذِي فِي حَقِّ اللَّهِ كَمَا إِذَا تَعَدَّى مَا أَبَاحَ لَهُ مِنَ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْمَمْلُوكَاتِ، إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْ سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَدَّى مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ إِلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ مِنْهَا، كَوَطْئِهَا فِي حَيْضِهَا، أَوْ نِفَاسِهَا، أَوْ فِي إِحْرَامِ أَحَدِهِمَا، أَوْ صِيَامِهِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا كُلُّ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ قَدْرٌ مُعَيَّنٌ، فَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَكَذَلِكَ الْعُدْوَانُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ تَجَاوُزُ الْقَدْرِ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ، فَمَتَى تَجَاوَزَ الْقَدْرَ الْمَحْدُودَ كَانَ مُعْتَدِيًا وَبَاغِيًا وَظَالِمًا، فَارْتِكَابُ الْإِثْمِ، وَالْعُدْوَانِ، وَالْفَحْشَاءِ، وَالْمُنْكَرِ، وَالْخَطَايَا، وَالذُّنُوبِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، فَهُوَ أَشَدُّ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا ; وَلِهَذَا ذُكِرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ، وَمِنْ مَرَاتِبِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَالْأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] الْآيَاتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا شَاءَ هِدَايَةَ عَبْدِهِ يَهْتَدِي، وَإِذَا أَرَادَ ضَلَالَهُ وَهَلَاكَهُ يَعْتَدِي، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - الْمُوَفِّقُ لِمَنْ أَرَادَ لَهُ السَّعَادَةَ، وَالْخَاذِلُ مَنْ شَاءَ إِبْعَادَهُ، فَالتَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ مِنَ الْحَكِيمِ الْمَنَّانِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: قَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخِذْلَانُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، فَالْعِبَادُ مُتَقَلِّبُونَ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، بَلِ الْعَبْدُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ يَنَالُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَيُطِيعُهُ وَيُرْضِيهِ وَيَذْكُرُهُ وَيَشْكُرُهُ بِتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَغْفُلُ عَنْهُ بِخِذْلَانِهِ لَهُ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، فَإِنْ وَفَّقَهُ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ خَذَلَهُ فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - الْمَحْمُودُ فِي هَذَا وَهَذَا، لَهُ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَبْدَ شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَنْعَهُ مَا هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُهُ وَأَيْنَ يَجْعَلُهُ. فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ هَذَا الْمَقَامَ وَشَهِدَهُ وَأَعْطَاهُ حَقَّهُ؛ عَلِمَ ضَرُورَتَهُ، وَفَاقَتَهُ إِلَى التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَلَحْظَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَعَلِمَ أَنَّ تَوْحِيدَهُ وَإِيمَانَهُ مُمْسَكٌ

ص: 336

بِيَدِ غَيْرِهِ لَوْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَثُلَّ عَرْشُهُ، وَلَخَرَّتْ سَمَاءُ إِيمَانِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمُمْسِكَ لَهُ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَدَأَبُ هَذَا الْمُشَاهِدِ لِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلِّبِي إِلَى طَاعَتِكَ، وَدَعْوَاهُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ.

ثُمَّ قَالَ: وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ، مُرِيدًا لَهُ، مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضُ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلٍ، وَالْعَبْدُ مَحَلٌّ لَهُ، قَالَ - تَعَالَى -:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ - فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8] فَهُوَ سبحانه وتعالى عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ، وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ. وَلَمْ يَرْتَضِ بِتَفْسِيرِ التَّوْفِيقِ بِأَنَّهُ خَلْقُ الطَّاعَةِ، وَالْخِذْلَانَ خَلْقُ الْمَعْصِيَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ، وَإِنْكَارِ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَقَابَلَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ فَفَسَّرُوا التَّوْفِيقَ بِالْبَيَانِ الْعَامِّ، وَالْهُدَى الْعَامِّ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَيْهَا وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهَا، وَهَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ كَافِرٍ وَمُشْرِكٍ بَلَغُتْهُ الْحُجَّةُ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُفَّارِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، إِذِ الْإِقْدَارُ، وَالتَّمْكِينُ، وَالدَّلَالَةُ، وَالْبَيَانُ قَدْ عَمَّ بِهِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْ أَفْرَدَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَهُمْ بِتَوْفِيقٍ وَقَعَ بِهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، وَالْكَفَّارَ بِخِذْلَانٍ امْتَنَعَ بِهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، لَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُحَابَاةً وَظُلْمًا، وَالْتَزَمُوا لِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمَ قَامَتْ بِهَا عَلَيْهِمْ سُوقُ الشَّنَاعَةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنِ الْتِزَامِهَا، فَظَهَرَ فَسَادُ مَذْهَبِهِمْ وَتَنَاقُضُهُ لِمَنْ أَحَاطَ بِهِ عِلْمًا، وَتَصَوَّرَهُ حَقَّ تَصَوُّرِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَرْدَأِ مَذْهَبٍ فِي الدُّنْيَا وَأَبْطَلِهِ، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] ، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] ، فَأَثْبَتُوا الْقَضَاءَ، وَالْقَدَرَ وَعُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ لِلْكَائِنَاتِ، وَأَثْبَتُوا الْأَسْبَابَ، وَالْحِكَمَ، وَالْغَايَاتِ، وَالْمَصَالِحَ، كَمَا مَرَّ، وَنَزَّهُوا اللَّهَ عز وجل أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَأَنْ يُقْدِرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَاقِعًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَبِدُونِ مَشِيئَتِهِ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ

ص: 337

فَلَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ كَمَالَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالتَّوْفِيقُ فِي اللُّغَةِ التَّأْلِيفُ وَجَعْلُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَافِقَةً، وَنَقَلَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْعِصْمَةَ هِيَ التَّوْفِيقُ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ عَمَّتْ كَانَ تَوْفِيقًا عَامًّا، وَإِنْ خَصَّتْ كَانَ تَوْفِيقًا خَاصًّا، وَأَنَّ اللُّطْفَ هُوَ التَّوْفِيقُ أَيْضًا، وَأَنَّ الْمُوَفَّقَ لَا يَعْصِي، إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَخْذُولَ لَا يُطِيعُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ إِرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُ الْعَبْدَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ - تَعَالَى - الْهَادِي، وَهُوَ الَّذِي بَصَّرَ عِبَادَهُ وَعَرَّفَهُمْ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ حَتَّى أَقَرُّوا بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَهَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي بَقَائِهِ وَدَوَامِ وُجُوبِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

تَنْبِيهٌ:

فُهِمَ مِنَ النَّظْمِ أَنَّ الْبَارِيَ - جَلَّ وَعَلَا - يُرِيدُ مِنَ الْعَبِيدِ مَا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَإِنَّ الْإِرَادَةَ، وَالْمَشِيئَةَ مُتَرَادِفَتَانِ، وَهِيَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ، وَالرِّضَا، وَالْمَحَبَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِهَا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - إِرَادَةُ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ، وَقَالُوا: يُرِيدُ مَا لَا يَقَعُ وَيَقَعُ مَا لَا يُرِيدُ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ - تَعَالَى - أَرَادَ مِنَ الْكَافِرِ الْإِيمَانَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، لَا الْكُفْرَ وَإِنْ وَقَعَ، وَكَذَا أَرَادَ مِنَ الْفَاسِقِ الطَّاعَةَ لَا الْفِسْقَ، حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ مِنْ عِبَادِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَزَعَمُوا أَنَّ إِرَادَةَ الْقَبِيحِ قَبِيحَةٌ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَا يَقْبُحُ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا وَجْهُ حُسْنِهِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي قَوْلِهِ:

وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ

مِنْ طَاعَةٍ أَوْ ضِدَّهَا مُرَادُ

الْأَبْيَاتَ الْمَارَّةَ آنِفًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي غَيْرِهِ، فَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]- {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي نَعْنِيهَا هِيَ الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ، وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الدِّينِيَّةُ فَهِيَ تُرَادِفُ الرِّضَا، وَالْمَحَبَّةَ. وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي نَعْنِيهِ أَوْ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ - الْأَمْرُ الدِّينِيُّ. وَأَمَّا

ص: 338

الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ فَهُوَ يُرَادِفُ الْإِرَادَةَ كَمَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ قُرْآنِيَّةٍ، عَلَى أَنَّ أَظْهَرَ تَفَاسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِطَاعَتِنَا، وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِنَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِنَا، فَفَسَقُوا بِمُخَالَفَةِ رُسُلِنَا. وَمِمَّا يُحْكَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ الْهَمَذَانِيَّ الْمُعْتَزِلِيَّ دَخَلَ عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادٍ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيًّا أَيْضًا، وَكَانَ عِنْدَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمُحَقِّقِي الْأَشَاعِرَةِ، فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى الْفَوْرِ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فَوْرًا: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَفَهِمَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مُرَادَهُ: أَيُرِيدُ رَبُّنَا يُعْصَى؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى، أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ لَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ كَانَ مَنَعَكَ مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا لَعَلَّهُ يَشْفِي وَيَكْفِي، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُرِيدُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَمْرًا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، وَكَيْفَ يَشَاؤُهُ وَيُكَوِّنُهُ، وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ إِرَادَتُهُ لَهُ وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ؟ فَالْجَوَابُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ أَصْلُ الِافْتِرَاقِ وَالضَّلَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَفِرَقِ الْمُوَحِّدِينَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ نَوْعَانِ: مُرَادٌ لِنَفْسِهِ، وَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ، فَالْمُرَادُ لِنَفْسِهِ مَطْلُوبٌ مَحْبُوبٌ لِذَاتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ مُرَادُ إِرَادَةِ الْغَايَاتِ وَالْمَقَاصِدِ، وَالْمُرَادُ لِغَيْرِهِ قَدْ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مَقْصُودًا لِلْمُرِيدِ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى مَقْصُودِهِ وَمُرَادِهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ، مُرَادٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إِفْضَاؤُهُ وَإِيصَالُهُ - إِلَى مُرَادِهِ، فَيَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ، بُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَنَافٍ، لِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِمَا، كَالدَّوَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْكَرَاهَةِ، إِذَا عَلِمَ مُتَنَاوِلُهُ أَنَّ فِيهِ شِفَاءَهُ، وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِي قَطْعِهِ بَقَاءَ جَسَدِهِ، وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاقَّةِ جِدًّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا تُوصِلُ إِلَى مُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ، بَلِ الْعَاقِلُ يَكْتَفِي فِي إِيثَارِ هَذَا الْمَكْرُوهِ وَإِرَادَتِهِ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَنْهُ عَاقِبَتُهُ، وَطُوِيَتْ عَنْهُ مَغَبَّتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْعَوَاقِبُ؟ فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يَكْرَهُ الشَّيْءَ وَيَبْغَضُهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِرَادَتَهُ لِغَيْرِهِ وَكَوْنَهُ سَبَبًا لِأَمْرٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ فَوْتِهِ،

ص: 339

مِنْ ذَلِكَ خَلْقُ إِبْلِيسَ الَّذِي هُوَ مَادَّةٌ لِفَسَادِ الْأَدْيَانِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَالْإِرَادَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ شَقَاءِ الْعَبِيدِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا يُغْضِبُ الرَّبَّ الْمُرِيدَ، وَهُوَ السَّاعِي فِي وُقُوعِ مَسَاخِطِ اللَّهِ وَمَنَاهِيهِ بِكُلِّ طَرِيقَةٍ وَحِيلَةٍ، فَهُوَ مَسْخُوطٌ لِلْبَارِي مَبْغُوضٌ، قَدْ لَعَنَهُ وَأَبْعَدَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَطَرَدَهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى مَحَابَّ كَثِيرَةٍ لِلْبَارِي - جَلَّ وَعَلَا - تَرَتَّبَ وُجُودُهَا عَلَى خَلْقِهِ وَإِيجَادِهِ، وَوُجُودُهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَدَمِهَا ; لِحِكْمَةٍ جَرَتْ مِنْهُ فِي عِبَادِهِ عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ. مِنْهَا إِظْهَارُ الْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّاتِ الْمُتَقَابِلَاتِ، كَخَلْقِ هَذِهِ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ أَخْبَثُ الذَّوَاتِ وَشَرُّهَا، وَهِيَ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ فِي مُقَابَلَةِ ذَاتِ جِبْرِيلَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَشْرَفِ الذَّوَاتِ وَأَطْهَرِهَا وَأَزْكَاهَا، وَهِيَ مَادَّةُ كُلِّ خَيْرٍ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ خَالِقُ الْأَضْدَادِ، وَكَمَا ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ التَّامَّةُ فِي خَلْقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ، وَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَالْمَاءِ وَالنَّارِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَنَظَائِرُهُ مِنْ دَلَائِلِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ، فَإِنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الْمُتَضَادَّاتِ وَقَابَلَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَسَلَّطَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَهَا مَحَالَّ تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ. وَمِنْهَا ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْقَهْرِيَّةِ كَالْقَهَّارِ، وَالْمُنْتَقِمِ، وَالْعَدْلِ، وَالضَّارِّ وَنَحْوِهَا، وَظُهُورُ آثَارِ أَسْمَائِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسَتْرِهِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ حَقِّهِ وَعِتْقِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ، فَلَوْلَا خَلْقُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى ظُهُورِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ; لَتَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْحِكَمُ وَالْفَوَائِدُ، وَفِي الْحَدِيثِ " «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» ".

وَمِنْهَا ظُهُورُ آثَارِ أَسْمَاءِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ، فَإِنَّهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا، فَلَا يَضَعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا يُنْزِلُهُ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا كَمَالُ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَخِبْرَتِهِ مِنَ الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَنَحْوِهَا.

وَمِنْهَا: حُصُولُ الْعُبُودِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الَّتِي لَوْلَا خَلْقُ إِبْلِيسَ لَمَا حَصَلَتْ، وَلَكَانَ الْحَاصِلُ بَعْضُهَا لَا كُلُّهَا، فَعُبُودِيَّةُ الْجِهَادِ سَبَّبَهَا الْكُفْرُ، وَالْعِنَادُ النَّاشِئُ عَنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ، وَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ الْمَحْبُوبَةُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -، وَعُبُودِيَّةُ مُخَالَفَةِ أَعْدَائِهِ وَمُرَاغَمَتِهِمْ،

ص: 340

وَمِنْهَا: عُبُودِيَّةَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَنَفْسُ اتِّخَاذِ إِبْلِيسَ عَدُوًّا مِنْ أَكْبَرِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ وَأَجَلِّهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي أَبْدَاهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، فَلَخَّصْتُ مِنْهَا مَا لَعَلَّهُ يَدُلُّ الْفَطِنَ عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ، فَإِنَّ وُجُودَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ إِبْلِيسَ تَرْتِيبَ وُجُودِ الْمُسَبَّبِ عَلَى سَبَبِهِ، وَالْمَلْزُومِ عَلَى لَازَمِهِ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ مُرَادَةً لِمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحِكَمِ، فَهَلْ تَكُونُ مَرْضِيَّةً مَحْبُوبَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، أَمْ هِيَ مَسْخُوطَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا السُّؤَالَ يَرِدُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَهَلْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهَا مِنْ جِهَةِ إِفْضَائِهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ يَبْغَضُهَا لِذَوَاتِهَا؟ وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَتَسَرَّعُ لَهُ الرِّضَا بِهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَيْضًا؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرَّ كُلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَدَمِ، أَعْنِي عَدَمَ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ شَرٌّ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ الْمَحْضِ فَلَا شَرَّ فِيهِ، مِثَالُهُ أَنَّ النُّفُوسَ الشِّرِّيرَةَ وَجُودُهَا خَيْرٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ، وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا الشَّرُّ بِقَطْعِ مَادَّةِ الْخَيْرِ عَنْهَا، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ مُتَحَرِّكَةً لَا تَسْكُنُ، فَإِنْ أُعِينَتْ بِالْعِلْمِ وَإِلْهَامِ الْخَيْرِ تَحَرَّكَتْ بِهِ، وَإِنْ تُرِكَتْ تَحَرَّكَتْ بِطَبْعِهَا إِلَى خِلَافِهِ، وَحَرَكَتُهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ - خَيْرٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا بِالْإِضَافَةِ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ حَرَكَةٌ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ ظُلْمٌ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَلَوْ وُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَعُلِمَ أَنَّ جِهَةَ الشَّرِّ فِيهِ نِسْبَةٌ إِضَافِيَّةٌ ; وَلِهَذَا كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ الْمَوْضُوعَةُ فِي مَحَالِّهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّتْ بِهِ ; لَمَا أَحْدَثَتْ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الَّذِي كَانَتِ الطَّبِيعَةُ قَابِلَةً لِضِدِّهِ مِنَ اللَّذَّةِ، مُسْتَعِدَّةً لَهُ، فَصَارَ ذَلِكَ الْأَلَمُ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، حَيْثُ وَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَا يَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، فَإِنَّ حِكْمَتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ شَرًّا وَمَفْسَدَةً بِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَفِي خَلْقِهِ مَصَالِحُ وَحِكَمٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ أَرْجَحَ مِنِ اعْتِبَارَاتِ مَفَاسِدِهِ، بَلِ الْوَاقِعُ مُنْحَصِرٌ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُمْكِنُ فِي جَنَابِ الْحَقِّ جل جلاله أَنْ يُرِيدَ شَيْئًا يَكُونُ فَسَادًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ، لَا مَصْلَحَةَ فِي خَلْقِهِ بِوَجْهٍ مَا، هَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْمُحَالِ، فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِيَدِهِ

ص: 341

الْخَيْرُ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا إِلَيْهِ فَخَيْرٌ، وَالشَّرُّ إِنَّمَا حَصَلَ لِعَدَمِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ شَرًّا، فَتَأَمَّلْهُ. فَانْقِطَاعُ نِسْبَتِهِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي صَيَّرَهُ شَرًّا.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ تَنْقَطِعُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ خَلْقًا وَمَشِيئَةً؟ قُلْتُ: هُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَيْسَ بِشَرٍّ، وَالشَّرُّ الَّذِي فِيهِ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ بِالْخَيْرِ وَأَسْبَابِهِ، وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يُنْسَبَ إِلَى مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ، فَإِنْ أَرَدْتَ مَزِيدًا مِنْ إِيضَاحِ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَسْبَابَ الْخَيْرِ ثَلَاثَةٌ: الْإِيجَادُ، وَالْإِعْدَادُ، وَالْإِمْدَادُ، فَهَذِهِ هِيَ الْخَيْرَاتُ وَأَسْبَابُهَا، فَإِيجَادُ هَذَا السَّبَبِ خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَى اللَّهِ، وَإِعْدَادُهُ خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَإِمْدَادُهُ خَيْرٌ، وَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضًا، فَإِذَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ إِعْدَادًا وَلَا إِمْدَادًا؛ حَصَلَ فِيهِ الشَّرُّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ إِلَى الْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا إِلَيْهِ ضِدُّهُ، فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّهُ إِذَا أَوْجَدَهُ؟ قُلْتُ: مَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَإِمْدَادَهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوجِدُهُ وَيَمُدُّهُ، وَمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَادَهُ وَتَرْكَ إِمْدَادِهِ؛ أَوْجَدَهُ بِحِكْمَتِهِ وَلَمْ يَمُدَّهُ بِحِكْمَتِهِ، فَإِيجَادُهُ خَيْرٌ، وَالشَّرُّ وَقَعَ مِنْ عَدَمِ إِمْدَادِهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا أَمَدَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا؟ فَالْجَوَابُ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، يَظُنُّ مُورِدُهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ أَبْلَغُ فِي الْحِكْمَةِ، وَهَذَا عَيْنُ الْجَهْلِ، بَلِ الْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ الْوَاقِعِ بَيْنَهَا، وَلَيْسَ فِي خَلْقِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا تَفَاوُتٌ، فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ تَفَاوُتٍ، وَالتَّفَاوُتُ إِنَّمَا وَقَعَ بِأُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْخَلْقُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَلْقِ مِنْ تَفَاوُتٍ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنِ اعْتَاصَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَلَمْ تَفْهَمْهُ حَقَّ الْفَهْمِ، فَرَاجِعْ قَوْلَ الْقَائِلِ: إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِمَفْعُولَاتِهِ كُلِّهَا، بَلْ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَنْ يُوَافِقَهُ عَبْدُهُ فِي رِضَاهُ وَسُخْطِهِ، فَيَرْضَى مِنْهَا بِمَا رَضِيَ وَيَسْخَطُ مِنْهَا مَا سَخِطَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: هُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عُقُوبَةَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْعَبْدَ أَنْ يَرْضَى بِعُقُوبَتِهِ لَهُ، فَالْجَوَابُ لَوْ وَافَقَهُ فِي رِضَاهُ بِعُقُوبَتِهِ لَانْقَلَبَتْ لَذَّةً وَسُرُورًا، وَلَكِنْ لَا يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِي مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ الَّتِي هِيَ سُرُورُ النَّفْسِ وَقُرَّةُ الْعَيْنِ وَحَيَاةُ الْقَلْبِ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي مَحَبَّةِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي هِيَ أَكْرَهُ شَيْءٍ

ص: 342