المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السعادة للدكتور: عادل العوا المرأة والرجل، في جميع الأقطار، وفي كافة الأوقات، - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌السعادة للدكتور: عادل العوا المرأة والرجل، في جميع الأقطار، وفي كافة الأوقات،

‌السعادة

للدكتور: عادل العوا

المرأة والرجل، في جميع الأقطار، وفي كافة الأوقات، ينشدان السعادة. والمرأة مثل الرجل، بل وأكثر منه، تأسف لاستحالة تحقق السعادة، حتى في النسيان، وفي الحب. فما هو هذا الآلهة العاصي، الحبيب الرهيب، آلهة السعادة؟ ليسمح لي القارئ الكريم أن أقوم وإياه بنزهة قصيرة في عالم الغرب أولاً.

حمامة وامرأة

ذهبت ذات يوم حمامة جميلة بيضاء، هي روح القدس المباركة، ورمز روح القدس، من منبر الكنيسة الكبرى حيث وضعتها يد الفنان القدير، وطارت خلال الأقواس والهياكل، حتى مرت بين قضبان نافذة قديمة، ووصلت إلى الفضاء الرحب، وحلقت فيه، وسارت في طريق لا تعلم نهايتها، هي طريق السعادة المبتغاة.

وكانت إحدى السيدات، وأسمها (ماري). زوج كاتب العدل في القرية، تسير في ذات الطريق التي لا تعلم نهايتها، وهي طريق السعادة. وكانت (ماري) تحدث نفسها قائلة: لقد مضى على زواجي خمس سنوات طوال، قضيتها مع قريني الضخم، أزرء بالعيش ليل نهار، لقد سئمت عشرته الليل كله، وثلاث مرات في كل نهار، في سائر أوقات الطعام. وكلما حانت ساعة الأكل، تكتل على الكرسي، ولم ينسى في الشارع أمعاءه الواسعة، وفتح جريدته اليومية، المملة، وفرك يديه بانتظار اللذة، لذة البطن والفم، من غير أن يلفظ حرفاً، أو يقول ابتسامة وسلاماً، وفي السرير، كان ينام ويغالي في النوم. لا ينشد إلا أصواتاً نكراء، حتى إذا استيقظ عاد إلى دفاتره وأرقامه، وإن شاء تبديلاً وتجدداً، نظر إلى موظفة البريد، وأبتسم لها بملء دماغه، وبادلها الفكاهة والتعريض، وهي تستدعيه نفسها على قبحه وجسامته انه ضخم، سمين، رهل، ممل، إلا مع موظفة البريد. وقد كرهت البقاء وإياه، ولذلك فأني أغادره وأسلك هذه الطريق التي لا تعرف نهايتها، طريق السعادة

دركي ونائب

وكان يسير خلف السيدة (ماري) في طريق السعادة، رجل من أفراد الدرك، وكان يفكر في نفسه، ويتكلم وحده، وقد سمعته يقول: إن الدركي موظف يجب أن يفرض احترامه على

ص: 1

الناس. غير أن شعب القرية بأسره يتهامس قصة الدركي الذي خانت امرأته العهد، وقطعت العفاف بالغدر. فليس الدركي أن يبقى في القرية حيث لا يحترمه الشعب، فلذلك يغادرها هائماً على وجهه، سالكاً الطريق التي لا تعرف نهايتها، طريق السعادة.

وكان على الطريق ظل خبيث، فارغ، غامض، كثيف، مخروطي، يتقدم ببطء وتأرجح. انه ظل النائب (جورج) الذي ارتدى أفخر ما لديه من ثياب، ووضع عويناته العريضة، فوق عينيه الصغيرتين، ونظم ذقنه الكثيفة، السمجة، ومشى يبحث عن السعادة في الطريق التي لا تعرف نهايتها. وكان لسانه صامتاً. غير أنه يقول: إن مهنة النائب أصبحت لا تطاق. عليه أن يكذب دوماً، مثل المحامين، وعلى سامعه أن يصدق دوماً، كما يصدق المريض الطبيب. غير ان ذكاء النائب، إن كان ذكياً، يأبى عليه المثابرة في الغش والخداع، ويحمله على الفرار من منطقته الانتخابية وإلا كان الفقر نصيبه بعد حين، إذا تجلى الموقف، وأبصر الناس، وعندها تذهب الدعوات والتكارم والبذخ عبثاً، وفوق ذلك، إنه سيصاب بتصلب الشرايين، لما يقضي من ساعات ودهور في الوقوف خطيباً، أو معارضاً، أو متزعماً!.

إن هذه المهنة قد انحطت، مثل سائر المهن السحرية، لقد كان النائب ينمق الخطب، ويتحدث عن الحرية والمساواة والاستقلال. كما كان رجال القرون الوسطى يتحدثون عن الكبريت الأحمر، أو الحجر النادر، الذي يقلب الحديد ذهباً، والظلام إلى نور، وكان المجال رحباً، وكانت الصور زاهية وضاءة، أما اليوم، وقد قيدت الحرية في العالم، وأصبحت تمشي على أربع، مثل حريات الأمم المتحدة، فهي حريات مضحكة، طليقة مقيدة، يضحك منها حق الاعتراض، أي حق النفع الشخصي في مجلس الأمن. . . وأظنه مجلس الخوف، خوف أعضائه فيما بينهم، وخوف الناس منهم، وعلى النائب أن يتحدث، رغم ذلك، عن العدالة والسلام، على مسمع القنابل الذرية، وضوء تجارب بيكيني، وأنشودة مؤتمر لندن ونيويورك وباريز. . كلا، إن مهنة النائب أصبحت لا تطاق، فليس فيها كرامة الجسد والنفع، وليس على النائب (جورج) إلا أن يعنى بالزراعة والتجارة ومعاطاة الصناعة والاقتصاد والسيارات. . . فهذه سبيل السعادة، سعادة النائب الذكي، المعاصرة الحديث. . .

القديس

ص: 2

وكان الأغراب من كل هذا حديث القديس (دنيس).

وهو أيضاً يسير في الطريق التي لا تعرف نهايتها، طريق السعادة، يحمل رأسه بين يديه، وليس في قولي هذا غلو أو خيال، فمن المعلوم أن الأساطير تروي سيرة هذا القديس المبارك، الذي بترت رأسه فالتقطها وبقي على قيد الحياة. وأقيمت لها التماثيل على هذا الشكل في الكنائس والبيع، وقد سمعته يتأوه مرتلا هذا القول: يا لها من كآبة. . . أنني لا أزال احمل رأسي فاسمع وأرى. . . وقد تعاقبت علي العصور والسنون، وبلغت من العمر جد عتياً. لقد سئمت أحاديث المتدينات الساذجات. وكل منهن تسر إلي أحلامها، وأمانيها، وتطلب مني الصحة والجمال أو زوجاً مخلصاً مع كثير من المال، لم تتبدل أقوالهن منذ مئات الأعوام. وهن يلمسن قدمي حتى ذابتا، ويرقن العبرات من عيون خلقت للجمال، وأنا لا أبصر غير شعرهن المخضب، وعنقهن من الخلف، وكلهن خاضع أمامي، راكع دوني، وفي قلوبهن المرارة أو الغيرة، وعلى شفاههن الابتسامة والصلاة، يسبحن مجد الآلهة الحنون.

لن أطيق بعد الآن صبراً، إن عملي أصعب من عمل قديس بسيط. . . أود أن أرى هذه الوجوه، وألمس هذه القلوب، فمن السعادة الإنسانية أبحث، والسعادة طريق لا تعرف نهايتها، ولكنها طريق محببة، حارة، تستهوي القديس. . .

رجوع إلى العقل

ثم ماذا حدث بعدئذ؟

ظلت السيدة (ماري) تتابع سيرها في طريق السعادة، فتعثر خطاها من حين إلى حين، ويصطدم حذاؤها العالي بالحصى والأحجار، وكان يسير خلفها الدركي التعيس، مكسور القلب، خائب الأمل، وكان يحمل نفسه على الشجاعة والإقدام، كلما سمع صوت نعيله الكبيرين يرفسان الأرض، كما تفعل الخيول من أفراد الحيوان، وأما النائب (جورج) فقط كان يرفع يده يمنة ويسرة، وكأنه يحيي الناس من غير تفكير ولا إرادة ولا عاطفة، بل بدافع العادة والتمرين. وكان القديس (دنيس) يعدو خلف الجميع لاهثاً، يقمع جسمه الرخامي البارد، ويحمل رأسه الذي يقطر دماً فيقع الدم على الأرض، ويرسم نجوماً وأزهاراً ووروداً.

ص: 3

غير ان الحمامة الصغيرة البيضاء، وهي تمثل روح القدس، هبطت بظلها إلى السعادة فأمست جبين السيدة (ماري) وأعادت إلى رأسها العقل، وما أصعب أن يعود العقل إلى رأس امرأة أحياناً. . .

عندما رجعت روح الرحمن المقدسة إلى زوجة كاتب العدل، تساءلت عن نهاية الطريق التي لا تعرف نهايتها، وعما ينتظرها إذا تابعت سيرها في طريق السعادة المجهولة قالت: اعتقد أن كل أنواع الحب تتشابه، وتؤول نهايتها إلى مثل حالي من الضجر والسآمة والملل. غير أني في الواقع لست تعيسة إلى حد كبير. لقد أعدت طراز حياة زوجي، كاتب العدل، وألفت عيناي رؤيته يتمطى ويتثاءب ويحمل أحشاءه من غرفة الطعام إلى السرير. أجل. أن له صوتاً نكراً، حين ينام، ولكن كثيراً مالا أنتبه إليه، وليست قراءة الجريدة اليومية التي تشغله عني ثلاث مرات كل نهار، تسؤوني إلى أقصى حد. فعندما يفتح جريدته أنظر إلى الصفحة الأخيرة منها وأرى نماذج الأزياء، وأخباراً منوعة عن حوادث الزواج والحفلات والسهرات والسرقات والإجرام. . . فما يكون نصيبي إذا تركت زوجي، كاتب العدل، وعثرت على رجل جديد لا أعرف عنه الشيء القليل قبل الشيء الكثير؟! انتهت المرأة الغربية إلى حكمة المرأة الشرقية فقالت: إن الوجه الذي تعرفه خير من وجه لا تتعرف إليه ثم عادت أدراجها في الطريق التي يعرف أولها، طريق السعادة. وعندما التفتت السيدة (ماري) إلى الوراء واصطدمت بالدركي الذي كان يسير خلفها في الطريق، فابتسمت له، واعتذرت منه، ووجدت فيه رجلاً قوي الجسم، عليه مسحة من جمال الخشونة، وفي خشونة بعض الرجال جمال.

قهقهة الدركي في نفسه، وقد سمعته يفكر قائلاً: إن الدركي يأمل ويثق بمئات النساء غيرها. فالدركي يولد دركياً، ولا يموت إلا دركياً. فلماذا يفتش عن غير ما خلق له. ويسعى في طريق السعادة التي يعرف أولها. وهاهي السيدة (ماري) زوج كاتب العدل، تعجب بي، تعجب بالدركي وباللباس الحربي، ولا ريب ان اللباس الحربي يشوق كثيراً من النساء، ولولا ذلك لما التفتت إلى الوراء، وابتسمت لي، واقتربت مني.

انتهى تفكير الدركي الغربي السخيف بما يماثل تفكير جميع زملائه في الشرق، وحسب أن اللباس العسكري وحده يشوف الفؤاد، ويخلق العاطفة والإعجاب، وعاد إلى القرية والأمل

ص: 4

يملأ صدره، والهوى يضل عقله وروحه.

تقدمت السيدة (ماري) يصحبها الدركي العاشق، عدة خطوات، فصادفا السيد (جورج) نائب المنطقة الانتخابية، وقد كانت علامات التعب بادية على وجهه، وكأن تصلب شرايينه أصبح جموداً بارداً في نظرته وابتسامته. وقد توقف ذراعاه عن حركة التحية ذات اليمين وذات اليسار. وكان يتمتم من غير أن يحرك لسانه وقد عرفت انه يقول: قسماً بالحريات المقيدة، وبميثاق استيلاء، القوي على الضعيف، إنني ثمل الآن، حقاً وصدقاً، لقد شربت كثيراً من الكحول في الدعوة التي أقمتها للناخبين، وان كانوا غير ثانويين، وقد فقدت ذكائي، وكيف يصح لي أن أترك النيابة وأذهب في طريق السعادة باحثاً عن التجارة والاقتصاد والنفع، فما قيمة نائب لا ينتخب، وما شأن تاجر تجعل منه الأمة نائباً يمثلها ويدافع عن حقوقها، ويعمل على التقدم بها في سبيل الكرامة والمجد!

قاتل الله الإكثار من البطن، أنها ذهبت بفطنة السيد (جورج) نائب المنطقة الانتخابية، وحمداً لله الذي أعاد عقل النائب إليه، وانتهى التفكير الذكي بالنائب الغربي إلى ما يماثل تفكير زملائه في الشرق، وعاد أدراجه مفصلاً النيابة على كل شيء، يسعى إليها السعي المستجد الحثيث، كأن النيابة غاية ليس وراءها قصد، وعمل ينال بخطاب بارع، طويل أو قصير. . .

أما القديس (دنيس) فقد دهش لرؤية السيدة (ماري) والدركي ونائب المنطقة الانتخابية يعودون في الطريق التي يعرف أولها، وهز كتفيه الرخاميين الناصعين، وبقيت رأسه بين يديه، بعيدة عن منكبيه، وقد ظننت أنه يقول: عفوك اللهم، أن هؤلاء البشر لا يعرفون ما يصنعون. وهبتهم العقل ولكنهم لا يعقلون. يبحثون عن السعادة في الطريق التي لا تعرف نهايتها ولا أكاد أتابعهم في ذلك حتى أجدهم على تراجع غريب. كلهم الآن يعود على قريته الصغيرة، ويقنع بما قسم له، السيدة (ماري) تعود إلى زوجها، وتأمل في ألا تكره وجهه وجثته ويديه. والدركي يعود إلى القرية يزهو بثوبه العسكري الفاتر، البعيد عن إبداع الزي الجديد وتطور الجمال والفن. والنائب الذي بذل ماله وصوته سخياً يعود إلى استثمار هذا المال في حانوت الوطنية، وسوقها، وأنا ليس لي إلا الرجوع إلى الله فراراً من هؤلاء البشر جميعاً، ما أجمل مقامي على مر العصور والأجيال في رخام التماثيل، تسجد أمامي

ص: 5

الكواعب من النساء، وتحدثني كل منهن عما تكتمه عن أبيها وأخيها وزوجها، أعاهدك اللهم إني أن أمل حديث النساء اللاتي حلقت وأحسنت، وأحمدك على هذه النعمة التي وهبتن فما هي قدسية القديس لولا المرأة، وما أعطيها من جمال وإغراء؟ سأعود إلى قرية البشر منذ الآن. واسلك الطريق التي يعرف أولها، طريق السعادة.

لم تنته هذه الصلاة حتى انتفضت الحمامة الجميلة البيضاء، وانتشرت روح القدس وهي من روح الله، والله يعلم أن نظام الأرض قد فسد اليوم في الشرق والغرب، الناس جميعهم أفراداً وشعوباً يتحرون السعادة ولكنهم يتقاتلون ويغلظون كأكثر ما تتقاتل الوحوش الضارية وأدهى. يظلم بعضهم بعضاً، ويتناهون إلى الكذب والكبرياء، وهذا الله العظيم يعلم إن السعادة لا تسود أرض الإنسان الآن، وهو يعلم إنها تحقق في نفوس الناس حين يرضى الناس العيش في قريتهم الأرضية بعد آلاف القرون، وحتى آلاف القرون، من الأعمار.

في الشرق

لنرجع الآن - يا قارئي العزيز - من الغرب إلى الشرق، ولنعد من الخيال إلى الواقع، ومن التصور إلى الثبوت، فأين نحن من السعادة في وطننا العربي الحبيب، وفي بلدتنا السورية الجميلة، وفي قريتنا الأرضية الرائعة، دمشق؟

ليست سعادتنا في مكان ما من هذا البلد، ولكنها في كل مكان، في المسجد والشارع والبيت والنادي والسراي ومجلس النواب. . .

المؤمن والمؤمنة

لا تزال الروح الدينية أساس فلسفة السعادة والوجود في الشرق، والجامع الأموي مثل البيع والكنائس، رمز في دمشق لنوع واسع من السعادة يمثل عقلية الناس عندنا، ويوحد عواطفهم وآمالهم وأحلامهم وهدفهم في الدارين على السواء. إن المؤمن يعشق خالقه الرؤوف الرحيم، ويجد فيه أمل السعادة كأنه يموت غداً. فمنه يطلب الشفاء إذا مرض، وبه يستعيض عن الطب والعلم والقنابل الذرية للقضاء على الأعداء. والمؤمنة ترى أن طفلها يعيش عمره المقدر له حتماً، فلا تكلف نفسها عناء حفظ صحته جسمياً وخلقياً، فما كتب على ابنها لا يتبدل، وهي قادرة على إنجاب ما استطاعت من الأطفال، البنت تنمو سريعاً ومن تلقاء ذاتها، والابن موفور الحظ، تربيه رياض الأزقة والشوارع، وفي كل هذا راحة

ص: 6

من التفكير بواجب التربية والمعرفة، وفي زوال التفكير شعور بالسعادة.

التاجر

نعم، إن الحياة الدينية مفعمة بالشعر والعاطفة، ولكنها في هذه المدينة صورة أولى واسعة نجد إلى جانبها إشكالاً أخرى من نماذج السعادة. فالتاجر - وان كان مؤمناً - له سعادة تجارية أيضاً يقيسها بالمال ويفصلها عن تعاليم الخير والدين، هذه السعادة التجارية غايتها الربح مهما كلف الأمر، على حساب الفقير قبل الغني، وشعار التاجر في ذلك انه يعيش أبداً، وليس من قيمة للعدل في تحديد الربح والسعر والاحتكار، لا في القانون ولا في الواقع. والسعي إلى السعادة التجارية هو طريق الحلال المباح، لا بأس إن أهمل التاجر في سبيله أمور الحياة الراقية الأخرى من ثقافة وفن ومعرفة واجتماع. . . سعادته تمثل في الراحة من كل مالاً يجلب الدينار، وكل ماعدا المال ترهات فارغة لا تقدر بالأسهم في الشركات.

الجمود

والسعادة في دمشق تبدو في حركة الناس الهادئة، المطمئنة، التقليدية، الصامتة. بلغ من خدرهم وجمودهم أن توفي عندهم الشعور بالصور المزعجة الأليمة التي تشوه الحياة في الشارع والدار. ما أبلغ التفاوت بين مظهر الناس عندنا وبين تفكيرهم وبؤسهم، وكم من طفل مزق التشرد قلبه ورأينا صدره الصغير خشناً عارياً كأخمص قدميه. وبات سروده البريء بطولة في إزعاج الناس، سيما المحسنين، وكم من تفاوت بين أحياء بلد ليس هو أكبر بلد في العالم الآن حتى يستحيل تدارك الأمر، فلا الآداب واحدة، ولا اللياقة تامة، ولا العطف على الشيوخ سائداً، ولا احترام النساء طبيعياً شاملاً.

ورغم ذلك كله. فالحياة العامة في دمشق لها سعادتها العجيبة، وهي سعادة على كل حال. تنقصها الموسيقى، وتنقصها الحيوية، وينقصها الفن، ولكنها سعادة بالمعنى السوري، سعادة لا تتبدل، لان التبدل يقتضي التفكير الصالح والجهد والثبات، بل الجرأة على التفكير والجرأة في بذل الجهد، والجرأة في الثبات. وهذه كلها تتطلب أمراً أخيراً غير الراحة والدعة. والسعادة عندنا جمود وراحة وارتياح.

الأسرة

ص: 7

إن حياة المنزل سعيدة عندنا، لولا أنها في بعض أحوال الأسرة أقرب إلى الشقاء. أين احترام جميع الرجال جميع النساء؟ أين التفاهم بين الزوجين أو بين الزوج ومختلف الزوجات؟ أين التعاون في خدمة الوطن عن قصد وشعور؟ نعم، نسمع بتمنيات الإصلاح ولكن أين هو هذا الإصلاح؟ إن سعادة الأسرة تقاس عندنا بالقناعة، قناعة المرأة بأي زوج كان. حتى وان كان لم يرها، وإن كانت لم تعرفه. وهي قناعة الأم بأي ولد كان، هزيل أو قوي، قبيح أو جميل. وهي قناعة أفراد كل أسرة بمصلحة أسرتهم قبل مصلحة الوطن الأكبر، وان الوطن حقاً هو فوق جميع الأسر وصالحه فوق صالح الإقطاعيين.

الحكومة

وأما الحكومة عندنا، فهي سعيدة حتماً، ونحن بها سعداء، ألا تراها تغدق في البناء الهادئ الحكيم الرزين، ونحن في الشرق نعشق كل قول يتسم بالأناة والهدوء والحذر والوقار، وأما الدهر والتطور والزمان فتباً له إن كان لا ينتظر وصولنا، ونحن سنتغلب عندها. . . بالارتجال الوثاب السريع.

التفاؤل والتشاؤم

أما وان كنت يا عزيزي القارئ صابراً كريماً، واسع الصدر عطوفاً، فلا تثريب علي في الابتعاد بك الآن عن الغرب حيث لا نعيش، وعن الشرق حيث يجب أن نلطف القول والنقد، وسنبحث معاً عن السعادة في قبس من نور التاريخ، علناً نلمح هذا الإله الموهوم، الغامض، القصي، الناقص، أو العاجز المسكين. لقد اختلف مفكرو الإنسانية في أمر السعادة وتقديرها من جهة، واتفقوا في الإيمان بها واعتبارها من جهة أخرى، وهم في رأيي خاطئون في الحالين.

إن نجدهم على اختلاف في تقدير السعادة، لكل منهم رأيه، ورأيه يختلف باختلاف مزاجه في الصباح والمساء، في الراحة والتعب، وهم بين متفائل ومتشائم. يرى (معرينا) العظيم أن الحياة كلها تعب ولا أعجب إلا من راغبة وراغب في ازدياد، ويؤكد (شو بنهاور) أننا أبصرنا النور خلال الدموع، وكلما تقدمنا في السن تعقدت أواصر الفاجعة حتى تنتهي بالموت، وليس في الموت سعادة، وما معنى حياة أولها نواح وأوسطها كفاح وآخرها زوال وفناء، غير أن المتفائلين ينكرون البؤس ويرى أحدهمإلا وجود للبؤس في أي حادث كان،

ص: 8

وكل ما في الواقع حوادث يسيء البؤساء قبولها والحياة ثقة وورد وحب وجمال ونجاح.

وإنا نجدهم على اتفاق غريب في اتخاذ السعادة غاية الحياة، في الأرض وفي السماء. يعلن ذلك رجال الفكر والفلسفة والدين والأدب والأخلاق من كتاب وكاتبات، ومصلحين وقديسات صديقات. شعار السعادة الدنيوية أن تعيش على الأرض أبداً. وشعار السعادة الأخرى أن لا تفنى في الفردوس أبداً.

وسأتغلب أيها الصديق القارئ على بعض من شعور التواضع والاعتذار فأظهر لك أن هؤلاء جميعاً يخطئون حيث يتفقون في أمر السعادة وحيث يختلفون.

السعادة تفسير

إن السعادة في رأيي ليست غاية الحياة، كلا. أنها هي تفسير الحياة، وهي تفسير للحياة فحسب. ليست السعادة ابتسام طفل، وحكمة عجوز، بل هي تفسير كل إنسان لفلسفته في الحياة. وذلك التفسير هو الذي حارت فيه عقول الناس منذ أقدم العصور حتى الآن، وأن نعرف نحن تفسيراً مناسباً للسعادة وللحياة إلا إذا أحطنا قليلاً بناموس الثقافة وسنة الفكر.

الإنسان موجود له غرائزه وميوله وفكره ويداه. ومن كل هذا يستمد تفسير وجوده في الحياة، وحينما يكون تفسير العيش مطابقاً للعيش، تحصل السعادة. وحينما يخالف تفسير العيش واقع العيش، يكون الشقاء.

إن الحمامة الصغيرة البيضاء، أي العقل والثقافة وروح القدس، حينما تغادر عقول الناس في الطريق التي لا تعرف نهايتها، طرق المجهول والممكن، يتيه الناس. فالسيدة (ماري) تفسر بقاءها مع زوجها تفسيراً يخالف طبيعة الزواج. أنها تفسر الحب بعد خمسة أعوام مثل تفسيرها له في سن الصبا، وقبيل الزفاف. وليست السعادة هي التي تخطئ السيدة (ماري) بل تفسير السيدة (ماري) للسعادة هو الخطأ المبين. إن طريق السعادة التي يعرف أولها تبدأ - في رأيي - بتفسير الحب تفسيراً صحيحاً. فالنظر في علم النفس وقوانين العاطفة وآثار العادة لاشك يوضح للعقل أن ممارسة الحياة الزوجية يؤثر على حماس الحب، فيقلبه إلى صداقة رائعة ذكية غالباً، ويزيده اتقاداً ونوراً أحياناً. لا عاصم من أن رؤية أله جمال ليل نهار، طول كل ليلة، وخلال كل فترة طعام من كل نهار، يضعف الشعور بالجمال، ولذا يبدو كاتب العدل القديم في نظر زوجته رجلاً عادياً كسائر الناس، له

ص: 9

حسناته والسيئات، له جماله وقبحه، يخطئ ويصيب، وعندما لمست الحمامة البيضاء جبين السيدة (ماري). أعادت إلى رأسها العقل، ففسرت السعادة تفسيراً ملائماً يطابق حقيقة الزواج، وعندها عادت أدراجها تتابع العيش بين ذراعي رجل كثيف، رهل، سمين.

وليس شأن الدركي ونائب المنطقة الانتخابية والقديس (دنيس) يخالف حال السيدة (ماري) من حيث البحث عن السعادة والضلال في تفسيرهم أولاً، ثم الرجوع إلى الصواب عند الرجوع إلى الطريق التي يعرف أولها، وهذه الطريق في رأيي هي حقيقة الإنسان، كما نعرفها اليوم، وقد أصبح في قدرتنا أن نعلمها الآن إلى حد كبير بعد رقي علم النفس وعلم الاجتماع.

أننا نملك مفتاح السعادة في هذين العلمين.

التفسير العربي

السعادة في دمشق، وفي سوريا، وفي الشرق العربي وغير العربي، كلها تفسير، وهي تفسير الحياة، لا غاية الحياة.

المجسد الأموي معبد السعادة حين يفسر المؤمن المسلم الحياة الدنيا بالآخرة، ويرى إن رضا الله وطاعته قبل وفوق كل شيء، من العلم إلى الحكومة، والمعابد والكنائس هي في نظر المؤمنين من غير المسلمين مساجد تكفل السعادة من غير فشل. بل هي طريق الوثوق والهدي، طريق بعيدة جداً، ولكنها قاب قوسين أو أدنى. طريق لا تعرف نهايتها، ولكنها أوضح من الشمس، وأعظم ربحاً من اكبر جائزة في أصدق يانصيب!. .

ليس الخطأ في وجود السعادة أو عدم وجودها. بل الخطأ في جهلها، والبحث عنها حيث لا توجد. كان الإنسان منذ أقدم العصور يرى أن السعادة شيئاً جامداً، أو سلعة تباع وتشتري، وكان الرجل الابتدائي يظنها طعاماً يقيه من الجوع، ومدية يطعن بها الوحوش، وبيتاً ينحته في الصخر فيعصمه من الماء، وإذا تقدم الإنسان أعتقد إن السعادة قواقع نادرة أو أحجار كريمة وجواهر يزهو بها على غيره من الناس، بها يتقرب السحرة من ألآلهة، فتتم التجارة بين العالمين، وتتسع السعادة من الدنيا إلى الأخرى، ومن الأحياء إلى الأموات، فهذه الحلي والجواهر تزين قبور المصريين كما تزين الهياكل والصدور اليوم. بها كانت تشتري الآخرة، كما تشتري بها اليوم ضمائر الناس. ولم تكن الآخرة تشتري إلا لأجل السعادة، كما

ص: 10

إن الوجدان لا يباع اليوم إلا في سبيل السعادة. والخطأ في هذين

العقدين مؤسف عظيم. وهو خطأ الاعتقاد إن السعادة شيء ثابت جامد، مع إن السعادة عمل نفسر به العيش مادمنا نعيش.

إن سعادة المرأة العربية وسعادة الرجل العربي، ليست كلها في مكان واحد، وزمان واحد، فليست هي الماضي فحسب، ولا الحاضر من غير المستقبل، إنها ليست الحب وحده، ولا الزواج، ولا التجارة، ولا الزراعة، ولا الشارع، ولا المقهى، ولا الصحافة ولا الحكومة ولا الأحزاب. السعادة هي كل ذاك معاً، وفي آن واحد، لي هي تفسيرنا الجيد الصالح لكل ذاك، دونما حصر ولا استثناء. وعندي إن واجب المرأة العربية، مثل واجب الرجل العربي، في الليل والنهار، لا يخرج عن أمر ممكن، غير مستحيل. إنه سبيل سعادتنا: وهو الجرأة على فهم الحياة فهما صحيحاً، ومعرفة تقديم الأهم على الهام، والتضحية في سبيل الصالح الأعم وفوزه على الصالح الفردي والصالح العام. أن هذا كله شرط نجاح العرب من حيث أنهم أمة تامة الجسد والنفس، موحدة الأقطار والقلوب والعقول يقظة في الأقطار وفي القلوب، وفي العقول.

إن السعادة تفسير، والتفسير العربي للسعادة لا نريده أن يكون سحرياً رجعياً غامضاً متقاعساً. عليه أن يضع الأمور مواضعها، ولا يضحي في سبيل الزواج ضرورة التعارف والحب، وفي سبيل الغني الفقراء كافةً، وفي سبيل الربح التجاري شؤون المعرفة والفن والاجتماع. لسنا نقل عن الغربيين والأمريكيين استعداداً طبيعةً ورغائب وحاجات وميولاً، وربما تفوقنا عليهم في كثير، ولكننا نساويهم في القدر والقيمة حتماً، ودوماً، وفي كل حال. وأصل ما يفرق بيننا أنهم يفسرون الحياة تفسيراً يخالف مالا نزال نذهب إليه، لقد تقدم الزمان في السن، ولا يسعنا إلا التبصر في فهم عمر الزمان فنعرف فلسفة الوجود التي توجهنا ونوجهها، معرفة صحيحة تستند إلى العلم والثبات ولكنها تعيش بالمرونة والتطور والذكاء. سعادتنا أن نعيش كأمة صالحة، لا ينقصها شيء، ولا تجمد على شيء، نفسر الإنسان تفسير الحق، فنعرف السعادة، ونسعى إلى بناءها في حديقة الأرض، قبل السماء، والعربي فردي النفس ولكنه اجتماعي العقل واليد واللسان، لم يكن زيل الشعوب فيما مضى، ولن يبقى دون التطلع إلى المجد والحياة منذ الآن، وسيهزم كل عدو ويفوز العرب

ص: 11

بالسعادة، وبالمجد وبالحياة.

عادل العوا

ص: 12