المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التوجيه المدرسي الدكتور كامل عياد ماذا يجب أن يتعلم؟ وكيف ينبغي توجيه - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌التوجيه المدرسي الدكتور كامل عياد ماذا يجب أن يتعلم؟ وكيف ينبغي توجيه

‌التوجيه المدرسي

الدكتور كامل عياد

ماذا يجب أن يتعلم؟ وكيف ينبغي توجيه دراستهم؟

إن الجواب على هذا السؤال كان سهلاً في العصور الماضية. فقد كان هناك نظام ثابت للمجتمع يقرر مقدرات كل فرد من الأفراد. إن ابن الفلاح كان مفروضا عليه أن يصبح فلاحاً. وكان الصناع يهيئون أولادهم ليحلوا مكانهم. وما زالت أكثر المحلات التجارية في سوريا حتى اليوم تنتقل من الآباء إلى الأبناء، والوظائف الدينية والحكومية أيضاً كانت وراثية، بل إنها لا تزال كذلك في كثير من الأحوال.

في مثل هذا النظام الطبقي، الذي، كانت الحياة تسير فيه على وتيرة واحدة ولا تتطور إلا بصورة بطيئة جداً، كان الإنسان يولد إما فلاحاً أو صانعاً أو تاجراً أو جندياً أو حاكماً. وكان على كل فرد أن يخضع لإرادة المجتمع ويقبل المصير الذي ينتظره كأنه قدر محتوم.

كم كانت مهمة التربية والتعليم بسيطة في هذا النظام! إن أولاد الفلاحين والصناع لم يكونوا قادرين على دخول المدارس واكتساب العلم بالمرة. إنهم كانوا في أحسن الحالات يرسلون إلى الكتاتيب مدة قصيرة ليحفظوا شيئا من القرآن ويتعلموا قواعد الدين ثم يجبرون على مرافقة آبائهم إلى الحقول أو المصانع حيث يتهيأون لمهنتهم المحتومة عن طريق التقليد والتمرين العملي، ولم يكن أبناء التجار الغالب، يتلقون هذه المعارف البسيطة عن آبائهم. وهكذا كانت معاهد العلم القليلة مقتصرة على أولاد الحكام والكتاب والعلماء الذين كانوا، بعد الانتهاء من حفظ القرآن وقواعد الدين ومعرفة مبادئ القراءة والكتابة والحساب، يدرسون إما التاريخ وتراجم الأحوال أو اللغة والأدب أو العلوم الدينية.

إن منهاج التربية والتعليم لكل واحد من الناشئين كان مقرراً ومعروفاً منذ بادئ الأمر حسب طبقته الاجتماعية ومهنة أسرته، لا حسب استعداداته وميوله.

ولم يكن يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض الأفراد الذين يدفعهم حب المغامرة وروح الثورة إلى مخالفة التقاليد الاجتماعية وتساعدهم مواهبهم النادرة وإرادتهم القوية على أن يشقوا طريقهم في الحياة حسب ميولهم الشخصية. ولكن هؤلاء العباقرة قلائل في كل عصر ولم يكن في استطاعتهم أن يبدلوا النظام العام. إما بقية الناس فإنهم في كل وقت لا يتصفون بالإرادة

ص: 24

القوية للخروج على المألوف. وهم أنفسهم يجهلون في الغالب مواهبهم واستعداداتهم ولا يعرفون الطريق التي يجب أن يسلكوها. لذلك ينقادون بسهولة لتقاليد الأسرة والمجتمع فينشأون ويعيشون كما نشأ آباءهم وعاشوا.

وقد كانت مادة الثقافة لطلاب العلم القليلين محدودة يمكن للشخص الواحد أن يحيط بها. فهي تقتصر على اللغة والأدب والعلوم الدينية وبعض المسائل الرياضية ثم الفلسفة التي تشمل المنطق والطبيعيات والإلهيات. إذا أراد أحد طلاب العلم الاختصاص بنوع من هذه العلوم فإن الانتقاء لم يكن صعبا لقلة عددها ووضوح حدودها. ولكن الطلاب كانوا الطلاب كانوا على الأكثر يدرسونها كلها. هذا ابن رشد مثلاً كان فقيها وطبيبا ورياضيا وفيلسوفا. ومن المعروف أن (ديكارت) و (لايبيتز) و (باسكال) كانوا يحيطون بمعارف عصرهم جميعها.

في هذه الحالة لم تكن هناك مشكلة تسمى التوجيه المدرسي. أو على الأقل لم يكن التوجيه المدرسي من الأمور التي تهم المجتمع، لأن مسائل التربية والتعليم كانت متروكة للأفراد ولا أثر لها في الحياة الاقتصادية.

على أن الوضع قد تبدل الآن. وقد بدأ هذا الانقلاب في بلاد الغرب منذ مائة وخمسين سنة وأخذت تظهر آثاره في بلادنا أيضاً منذ أوائل القرن العشرين.

إن الثورة الصناعية وما رافقها من تطور في طرق الإنتاج وأساليب العمل كل ذلك قد أحدث انقلاباً عميقاً في الأوضاع الاجتماعية ونظام المعيشة.

لقد أصبح التعليم والثقافة من أهم وسائل النجاح والتقدم في الحياة الاجتماعية وطرق الإنتاج الحديث تتطلب كثيراً من المعرفة العلمية والمهارة الفنية وتحتاج إلى تهيئة طويلة في معاهد مسلكية خاصة. فالتجارة والصناعة والزراعة في الوقت الحاضر لا يمكنها استخدام كل راغب في العمل إذا لم يكن صالحاً لذلك وحائزاً على الشروط اللازمة للنجاح وهي لا ترضى بإضاعة الوقت والجهود في تهيئة العمال الماهرين عن طريق التدريب العملي كما في السابق. إنها تحرض على انتفاء الأشخاص الذين حصلوا على المعلومات الفنية الضرورية والذين تظمئن إلى استعداداتهم ومواهبهم وتتأكد من مهارتهم العملية.

كذلك الأمر في حقول النشاط الأخرى سواء الوظائف الحكومية أو الأعمال الحرة وسواء

ص: 25

المهن الفكرية، فإنها - في هذا العالم الذي يتطور بسرعة مدهشة وتسود فيه المنافسة - تتطلب من كل الأشخاص مقداراً كافياً من الاختصاص المسلكي والمعرفة الدقيقة، لواسعة والمهارة الفنية.

لقد بدأت البلاد الغربية منذ مدة تعتني بالتوجيه المسلكي. ويقصد بذلك توجيه الناشئين الذين لا يصلحون أو لا تسمح لهم حالتهم الاقتصادية بالاستمرار في الدراسة النظرية للحصول على الشهادة الثانوية ودخول الجامعات، فتتولى الدولة تهيئتهم إلى مختلف المهن العملية - الفنية في مدارس مسلكية خاصة من صناعية وزراعية وتجارية. على أن هذا التوجيه لا يستند إلى اختيارات علمية - دقيقة تكشف عن مواهب الناشئين واستعداداتهم الكامنة بل ما زال يعتمد على مجموع العلامات في فحوص الشهادة الابتدائية أو شهادة الدراسة المتوسطة كما إنه يتأثر في أغلب الأحوال بالعوامل الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية. فنرى الطبقات الفقيرة هي التي تضطر إلى إدخال أولادها في المدارس المهنية ليخرجوا بأسرع ما يمكن إلى الحياة العملية ويستطيعوا كسب معيشتهم بأنفسهم دون أية ملاحظة لمواهبهم واستعداداتهم. ولعل أعظم نقص في هذا التوجيه هو الإقدام عليه بعد الدراسة الابتدائية مباشرة أي في سن مبكرة لا يمكن معها الكشف عن ميول الناشئين ومواهبهم. فقد دلت المباحث العلمية على أن الناشئين لا تبرز شخصياتهم وتظهر ميولهم العميقة واستعداداتهم الحقيقية ومواهبهم الكامنة إلا بعد أزمة المراهقة أي في السن الخامسة عشر. وهذا ما دفع الحكومة السوفياتية إلى تمديد الدراسة الابتدائية، الإجبارية، الموحدة حتى الخامسة عشر من العمر.

إن التوجيه المسلكي لا يمكن أن يؤدي إلى النتائج المطلوبة إذا لم يقم على أساس صحيح من معرفة شخصية الطفل. ولا يكفي هنا الاستناد إلى الاختبارات النفسية والمقاييس العقلية وحدها بل لا بد قبل ذلك من تغيير جوهري في برامج التعليم وأساليب التربية والتنظيم المدرسي. وهذا ما نقصده بالتوجيه المدرسي.

إن التوجيه المدرسي معناه تنظيم الحياة المدرسية في جميع مراحلها، وعلى الأخص في المراحل الأولى حتى السن الخامسة عشر، بصورة تساعد على انكشاف ميول الناشئين واستعداداتهم ومواهبهم لنستطيع بعد ذلك تهيئتهم إلى المهمة التي يصلحون لها في

ص: 26

المجتمع.

كانت الفكرة السائدة قبلاً هي أنه يجب توجيه العناية في الدراسة الابتدائية والمتوسطة إلى الثقافة العامة المشتركة التي يحتاج إليها جميع المواطنين والتي لا غنى عنها في كافة المهن والأعمال. على أننا إذا دققنا النظر نلاحظ بأن مفهوم الثقافة العامة هذا غامض، مضطرب، ومغلوط.

ماذا نعلم اليوم الناشئين في المدارس الابتدائية والمتوسطة لتجهيزهم لما يسمونه الثقافة العامة؟ مجموعة كبيرة من العلوم النظرية المجردة التي لا صلة تربط بين بعضها والآخر والتي لا علاقة لها بالحياة الحقيقية في البيئة الطبيعية والاجتماعية وإننا نعلم الناشئين اللغة والأدب - ولكن ليس كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بل كعلم نظري يؤلف كتلة من التعاريف والاصطلاحات والمفاهيم ويرهق الذاكرة كذلك نعلمهم الحساب والهندسة والجبر والفيزياء والكيمياء والنباتات والحيوانات والطبقات والتشريح والتاريخ والجغرافيا والمعلومات المدنية والأخلاقية والرسم والموسيقا والأشغال اليدوية وتدبير المنزل ولكن جميعها بصورة نظرية، مجردة لفظية، آلية، بعيدة عن الحياة، منفصلة بعضها عن بعض، يقرر لهم المدرسون بعض الدساتير والحقائق في كل منها ويطلبون إليهم استظهارها دون أن يعرفوا كيف توصل العقل البشري إليها ودون أن يدركوا ما هي فائدتها وقيمتها.

هذه المعلومات المتفرقة، المتنافرة لا يمكن أن تثقف العقل ولا أن تساعد على نمو الشخصية وانكشافها. فهي لا تكون ثقافة وإنما تصبح عبثاً يعرقل التطور الفكري لدى الناشئين. وليس المثقف في العصر الحاضر من يستظهر كمية كبيرة من المعلومات المتنوعة بل هو الذي يحسن التفكير ويعرف طرائق البحث ويستطيع الإبداع ويميز بين الخطأ والصواب ويتصف بروح الدقة وملكة النقد.

إن اكتساب الثقافة الحقيقية، التي لا بد منها مع الاختصاص. لا يتم عن الطريق المتبع في مدارس اليوم وإنما يجب السير على العكس من ذلك. يجب أن يبدأ التعليم بالمسائل الجزئية التي تلائم ميول الناشئين وتثير اهتمامهم ويرغبون في معرفتها فترشدهم إلى دراستها بأنفسهم ونعودهم على الملاحظة والمقارنة والاستقراء والإنتاج والنقد. والتطور الطبيعي للعقل الإنساني إنما بالانتقال من العمل إلى الفكر فمن الضروري أن نجاري هذه الطريق

ص: 27

في تعليم الناشئين وتثقيفهم.

فالثقافة العامة يجب أن لا تكتسب في أول مراحل الدراسة بل في آخرها وبعد الاختصاص بفرع من العلوم أو الفنون والتعمق في مباحثه وإدراك علاقاته بغيره من أنواع المعرفة. .

ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق التوجيه المدرسي وتغيير برامج التعليم وأساليب التربية. .

كامل عياد

من وحي البر والبحر

للأستاذ عزة النص

حنين

في ظلمة هذا الليل الموحش على البحر الرهيب، رقد المسافرون إلا أقلهم، فما يصل إلى سمعك إلا أنين السفينة الحزين وهي تجر نفسها على الماء وكأنها تردد أغنية من أغاني الشرق!

جلست في ركن منزو على سطح السفينة ساهماً ساهداً انظر إلى الشاطئ المتباعد وقد تملكني شعور غامض ثقيل ضاقت به نفسي وفاضت منه عيني. .

ما أعجب طبيعة الإنسان! أنه أبدا يشكو واقعه المألوف ويذم حاضره الرتيب ويصبو إلى حياة تتبدل وتتجدد، فإذا ما أتيح له أن يفر من بيئته التي طالما تبرم بها ويفلت من الجو الذي عافه وينطلق إلى عالم حافل بالطرافة - تهيبت نفسه الجديد المجهول فندم على ما فرط وتاق إلى ما تعود وحن إلى ما كان يظنه بالأمس سبب تململه ومصدر سآمته.

إن الحاضر بفيض أبدا فإذا ما أصبح ماضيا صار محببا مرغوبا. .

أنني رأيت النسيان - تلك النعمة الإلهية الكبرى - يعفو سراعا على المآسي الغابرة ويبقي على الذكريات الحلوة الرضية، بل - يا له من ساحر ماهر! _هو يجعل من الألم لذة ومن الشقاء سعادة، هو الشمس الساطعة تشرق بعد الغيوم الدكناء فتجفف المبتل وتحيي الميت وتنبت الزهر.

موت الحياة

ص: 28

وبعد يا نفس إلى مَ تحنين؟ تعالي نحاسب الزمن ونزن الماضي! لقد أتلفت من الأيام أكثر مما بقي لي فيها! فهذا الشطر من أحسن العمر كيف قضيته؟ وهذه السنوات الطوال كم تركت في من أثر وخلفت من ذكريات؟

فتحت سفر الذاكرة لأقرأ سطورها فلم أجد سطرا. . فكأن الأيام والليالي على تعاقبها لم تخط فيها حرفا.

حياتنا كتاب لا كتابة فيه يتساوى شيخنا والطفل في محصول العمر ويختلفان في عدد سنواته. وما قيمة العدد إذ لم يكن هناك ما يعد؟ حياتنا صفحة سوداء. . نقية، لم تمسها يد فنان. . .

هذا التبلد في الحسن ما علته؟ والحذر في الأعصاب ما مبعثه؟ أهو الشرق في إشراق سمائه وتلظي حرارته، أم المجتمع في قيوده وعنعناته؟ أهي المدرسة أم الشارع، لبيت أم المقهى الكنيسة أم الجامع؟ ما السعر إلا هيجان النفس وفرحة القلب ما العمر إلا حرية تنعم بها وهناءة مستجدة تفيء إليها وتجربة تكتسبها وعاطفة تبادلها وثقافة تستمتع بها وعمل مثمر تؤديه. ما العيش والإحساس بأن الحياة جديرة بأن تحيى. فإذا فقد كل ذلك فسيان إن عشت مائة وإن مت وليداً.

حياتنا كهذا الأخدود الأبيض الذي تخطه السفينة على أديم الماء، تحسبه خالداً فلا يلبث أن يزول ويعود الماء إلى صفائه.

دود على عود

السفينة مدرسة تعلمك التواضع. هذه المدينة السابحة الضخمة ذرة صغيرة على الخضم الواسع، تتلهى بها الأمواج فتعلو وتهبط وتترنح ذات اليمين وذات الشمال، وأنت على ظهرها تنظر إلى الأفق الممتد فتشعر بأنك شيء حقير. . . إنك دود على عود.

والسفينة تعلمك أدب الاجتماع، فهي صورة مصغرة للمدينة الفاضلة، يجتمع فيها أشتات الناس من كل جنس وملة فلا يلبثون أن يتعارفوا ويتآلفوا ويتناسوا ما بينهم من فوارق وتربطهم روابط العيش معاً.

وهذا الكوكب الأرضي هو أيضاً مركب يمخر في الفضاء، فلم لا يتعارف سكانه ويتآلفوا ويتناسوا ما بينهم من فوارق؟ لم لا تصبح لهم جنسية واحدة هي (جنسية الأرض)؟ إنني

ص: 29

أهم أحياناً أن أعتقد بأن (التاريخ) مصدر شقاء البشر!

والسفينة بعد مدرسة تعلمك الإيمان، فإذا ما عصف الريح بها وجف قلبك وخشعت نفسك وآبت برغمك إلى بارئها ترجو عونه ورحمته.

إن الإيمان يرافق الضعف ويصدر عن العجز، والضعف والعجز حالة طبيعية لكل من ركب من لحم ودم.

والمؤمن يجد في السفينة رمزاً لهذا العالم الفاني فهي ممر لدار مقر ووسيلة مؤقتة لغاية باقية، هي الطريق إلى الرجاء والخوف والسبيل إلى عالم جديد لا تعرف ما يرتقبك فيه.

وإني لأجد في السفينة مثالاً مجسماً لبعض من يمشي على رجلين. . . هم يثورون ويغضبون ويهدؤون ويرضون، ولست تدري متى تغضبون ولماذا يسخطون، ثم كيف يهدؤون وبم يرضون! إنه الهوى يلعب بأفئدتهم كما يلعب بالسفينة الهواء. . .

عود على بدء

قلت لصاحبي: هذه باريس بمغانيها وغوانيها وفتنة رياضها ومبانيها، أكاد لا أطيق البقاء فيها ساعة واحدة.

أممتها وفي النفس حرارة التلهف وفي الجنان خفقة ما قبل اللقاء، لقد كنت آمل أن أعاود فيها ما سلف وأصل حبل ما انصرم! وكان الخيال المبدع يضفي على الماضي البعيد بهجة مشعة وروعة أخاذة. لقد زرت يا صاحبي كل ربع منها كان ترك فيّ نشوة أو خلف ذكرى أو أتاح متعة، فماذا لقيت؟ لقيت برودة تجمد لها النفس فما أشعر بخالجة ولا أحس برعشة، ووجدتني أفر مما كنت إليه أهفو وأتجافى ما كنت إليه أتوق.

قال صاحبي: لست أجد في هذا الذي تذكر موضعاً للدهشة، فمباهج باريس ومفاتنها باقية على العهد لم تبل ولم تتبدل، وإذا كان هناك تحول ما هو في نفسك وذوقك ولون حياتك وطراز تفكيرك. إن المنظر هو هو ولكن المنظار لم يعد كما كان. . .

لقد كان لك آنذاك ثروة من طراوة العمر ونضارة القلب ويقظة الفكر وحرارة الشعور، وكان بينك وبين بيئة هذا البلد تجاوب وانسجام فأين أنت الآن من كل ذلك؟

ألا تزال تذكر ما قصه (لابرويير) في كتاب (السجايا) عن (أيرين) التي جاءت إليه الطب (اسكولاب) تستشيره ي آلامها؟ لقد عرفها (أسكولاب) بحقيقة مرة كانت تتجاهلها. قال لها

ص: 30

أن مرض السن. . . هو علة ما بها وليس لهذا المرض من دواء. . .

وأنت يا صاحبي قد بدأ يدركك هذا الداء. . . وأنت فوق هذا قد أصبت بداء آخر أشد فتكاً وأبلغ أثراً وهو داء التعليم. . . تلك (المهنة المقدسة) يا صاحبي، يعرف أصحابها بسيماهم فهي تطبعهم بطابعها الخاص: تلزمهم السكينة وتفقدهم البهجة، وتحرمهم الطلاقة والبشر وتفرض عليهم لجفوة والعبوس، إنها تخلع عليهم لباس التزمت وحلة الوقار وقناع الجلد.

لقد صدق صاحبي: شتان بين العودة والبدء!

إن ماءاً كثيراً قد جرى في (السين) منذ عهدي الأول به.

طبيعة وفن

هذه سويسرا متحف لفتنة الطبيعة: الجبال الخضر ذات الرأس الأشيب تحتضن البحيرات الحالمة ذات الرداء الأزرق، وكأني بها ترمز للحب الأبدي الذي لا يفتر ولا يبلى. والزهر العبق يملأ الربى والرياض وكأنه يبارك هذا الحب ويمده بالنشوة والدفء، إنه البخور في مجامر المعابد.

هذه طبيعة أرستقراطية امتلكت من كل شيء أحسنه وجمعت من كل لون أبهاه، جمال وجلال تخشع لهما النفس وتنعم العين ويخفق القلب.

هذه بلاد ترقص السعادة في كل شعاع من أشعة شمسها ويستظل الحب تحت كل غصن من أفنانها، إنها توحي إليك المحبة وتنتزع البغضاء، تهبك الغبطة وتمحو اليأس، تمنحك اللم وتسلبك التفكير فأنت فيها مستيقظ نائم، صاح ونشوان. . .

وهذا شعب حبته الطبيعة خير ما عندها وحباها ما عنده، فقد استجاب لها وأحبها وأتم نقصها وأبرز فتنها وأظهر سحرها. وإذا تزاوج الفن والطبيعة والتأما على انسجام رأيت عجباً.

لقد من الله على هذه البلد بالعافية من السياسة. . . فهي لا تشغل حيزا من تفكيرهم ولا نصيب لها في أحاديثهم، وهي تحتل في صحفهم المكان الذي تحتله الموضوعات الثقافية في صحفنا. . .

وما للقوم والسياسة! حسبهم الطبيعة يتذوقون جمالها ويلهجون بآلائها ويتسامرون بمتعتها وروائها، حسبهم الزهر يتنشقون عبيره ويزينون صدورهم بألوانه والجبل يتسلقون ذراه

ص: 31

ويزحفون على جليده، والنهر والبحيرة يمتعون بها الطرف ويروضون الجسم. حسبهم الموسيقا تمتزج بأرواحهم وتحرك نفوسهم وتجري على ألسنتهم إنك لتؤخذ بهذه اللغة الفريدة التي يتكلمون بها وكأنهم يغنون.

أمة لم تبل بحمى العمل في أغوار المناجم وغياهب المعامل، هي غنية بالراحة والنوم والمتعة، فلا مجال هنا للصخب والضجيج والعجلة وإنهاك العقل وتبديد القوي.

هذه بحيرة (ليمان) أتأملها من نافذتي أو أساير ضفافها ساعات طويلة من الليل حالما مشدوها، وبيني وبينها أبدا حديث صامت بليغ: الجبال الشم ترقد في أفقها القريب تحت دثار من غمام الليل، والرياض والخمائل تحف بجوانبها وقد أبدت زينتها لإغواء الرواد، والأنوار المتلألئة الوهاجة تنعكس على صفحة المياه الهادئة الرقراقة فيخيل إليك أن الماء يشف ويشف حتى يتحول إلى ضياء، وزمر الناس على المقاعد وبين الشجر والزهر يستجمون من حياة النهار كهذه المراكب البيض المتكئة إلى الشطان، وهذا البناء الضخم الرابض على الرابية الخضراء ينتظر الصباح ليستقبل زبائنه من وفود الدول وأقطاب السياسة العالمية، وما هؤلاء في نظر كان (جنيف) إلا ضيوف أغنياء أغبياء يأتون لينفقوا مالهم ويتعبوا لسانهم. .

هنا وهناك

إنني لا استكمل الوصف وأتم اللوحة إلا إذا عمدت للمقارنة والمقايسة، فهنا شعب ربي على حب الجمال وجمال الحب ولقن عذوبة الفن وفن العذوبة، فثقف بثقافة الزهر والنهر ودرب على الريشة واللحن، وحمل على رياضة الجسم والفكر.

هنا الطفل الناشئ يفرد ويعزف ويصور ويقفز ويحفظ من أسماء المصورين وأنغام الموسيقيين أكثر مما يخزن من أسماء البلدان ووقائع التاريخ ودساتير الحكمة ورموز الكيمياء!

وهنالك في سورية. . أنت تعرف ما هنالك. .

وليس في هذا البلد تباعد وتنافر بين معسكر المرأة ومعسكر الرجل بل تقوم الحياة كلها على ما بينهما من تساند وتشارك وتفاهم. وما مبعث الدماثة في الطبع والاستقامة في الخلق والرقة في الحديث والتهذيب في اللسان إلا هذا التمازج المنسجم القديم.

ص: 32

أين ما حللت وأيان ذهبت يطالعك هنا ثغر باسم ووجه أزهر مشرق، وشعر أشقر وقوام أهيف وقد ممشوق وعيون كأنها صنعت من زرقة هذا الماء أو من صفاء هذه السماء.

أو تحسب أن الفضيلة تتأذى من ذلك؟ نحن لا نفتأ نثرثر بالفضيلة ونردد ألفاظ الأخلاق، والله يعلم أننا لا نؤمن بما نقول ونفعل خلاف ما نقول! أما هنا فالقوم أبرياء من الرياء. .

ضريبة الفكر

لأولي الفكر ورجال التعليم ظاهرة مشتركة في سائر أنحاء العالم وهي ظاهرة الفقر. .

قرأت في (أخبار اليوم) المصرية أن بائع (فول) دفع ضريبة سنوية عن أرباحه ستة آلاف جنيه وعجز عن تسطير توقيعه لأنه أمي. . . ورأيت هنا أساتذة الجامعة لا تكاد رواتبهم تسد رمقهم، ولشد ما دهشت أن يكون لرئيس الجامعة (دراجة) يمتطيها إذ لا قبل له بدفع أجرة (الترام) الباهظة. . إن الفقر ضريبة الفكر. . فاختر لنفسك!

جنيف

عزة النص

ص: 33