المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

غي دومو باسان الكاتب الفرنسي الشهير   ‌ ‌جَبَان تعريب: الأستاذ خالد علي كان جميع - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: غي دومو باسان الكاتب الفرنسي الشهير   ‌ ‌جَبَان تعريب: الأستاذ خالد علي كان جميع

غي دومو باسان الكاتب الفرنسي الشهير

‌جَبَان

تعريب: الأستاذ خالد علي

كان جميع معارفه يسمونه: سينيول الجميل، أما اسمه الحقيقي فكان: الفيكونت غونتران - جوزيف دوسينيول.

يتيم وصاحب ثروة كافية، تساعده على أن يظهر بالمظهر اللائق، كما كانوا يقولون. وفوق ذلك فقد كان جميل القامة، حسن الهندام، يتكلم بطلاقة تجعل سامعه يعتقد أنه أمام رجل من رجال الفكر، هذا إلى ما كان يتحلى به من لطف طبيعي، ومظهر نبيل، واعتزاز لائق، وشارب طرير، وعين طيبة حلوة. وبالاختصار فقد كان يتحلى بكل شيء يعجب النساء.

كان مدعو (الصالونات) الدائم، وهدف الراقصات المفضل، ولذا فقد كان يوحي إلى الرجال القيام ضده بشغب مرح ضاحك يكنه كل فرد منا لأصحاب المظهر الأنيق النشيط. وقد اشتهر بعضهم غراميات جديرة بأن تعطي عنه فكرة بأنه شاب ككل شاب، ولذا فقد كان سعيدا، هانئا، وعلى أحسن حال فكري ولأتمه. وقد أشيع بأنه لاعب ماهر بالسيف، وأمهر في الرمي بالمسدس. وكان يقول:

_ عندما أبارز أحدا أختار المسدس، إذ بهذا السلاح أكون على ثقة من قتل خصمي.

وفي ذات مساء، دعا شابتين من صديقاته مع زوجيهما، بعد خروجهم من المسرح، إلى تناول شيء من المرطبات عند (تورتوني). ولم يمض على دخولهم المقهى بضع دقائق حتى لاحظوا أن سيدا، يجلس إلى منضدة قريبة منهم، ينظر بإلحاح ووقاحة إلى إحدى مدعواته، فاضطربت، واحمر وجهها، ثم أطرقت برأسها وأخيرا قالت لزوجها:

_ إن هذا الرجل يحدق بي النظر بوقاحة. إني لا أعرفه، فهل تعرفه أنت فرفع الزوج رأسه ونظر إلى الرجل وقال:

_ كلا، أبدا.

فقالت الشابة، وهي تبتسم ابتسامة مغتصبة:

_ إنه شيء مزعج حقا. إن هذا الغريب ينغص علي شرابي.

فرفع الزوج بكتفيه، وقال:

ص: 94

_ كفى، لا تهتمي به، إذ لو كان علينا أن نهتم بكل وقح نصادفه، فما كنا لننتهي من الحوادث.

ولكن الفيكونت نهض فجأة، إذ لم يستطع أن يقبل أن ينغص هذا المجهول شرابا قدمه. ولقد اعتبر أن هذه الإهانة قد وجهت إليه، ما دام دخول أصدقائه إلى هذا المقهى كان بدعوة منه وبسببه. فالحادث إذن لا يعني إلا إياه.

تقدم من الرجل وقال له:

_ إنك تنظر، يا سيدي، إلى هاتين السيدتين نظرة لا أستطيع تحملها. فأرجوك أن تقلع عن هذه النظرة الملحة.

فأجابه الرجل:

_ هل تريد أن تدعني بسلام، أيها الرجل.

فقال الفيكونت، وقد حد على أسنانه:

_ حذار، يا سيدي، إنك تدفعني إلى تجاوز حدود الأدب.

فلم يجب الرجل إلا بكلمة واحدة، كلمة بذيئة رن صداها في جميع أنحاء المقهى فأدار كل من في المقهى وجهه نحوهما، وحدقوا بهما، وفتل ثلاثة ندل على أكعابهم كما تدور الدوامة، وانتفضت السيدتان اللتان كانتا خلف منضدة الحسابات.

وساد المقهى صمت رهيب. ثم، وبشكل مفاجئ، رن صدى صفعة عنيفة في أجواء المقهى. لقد صفع الفيكونت خصمه. فنه الشرب للتدخل، بينما تبادل الخصمان بطاقتيهما.

* * *

ولما دخل الفيكونت إلى منزله، أخذ يسير في غرفته، بخطوات سريعة عصبية، وكان شديد الاضطراب، لا يستطيع التفكير في شيء، وحلقت في أجواء مخيلته فكرة واحدة: مبارزة، دون أن توقظ، في نفسه هذه الفكرة، شعوراً ما.

لقد قام بما كان عليه أن يقوم به، وأظهر نفسه بالمظهر اللائق بأمثاله. سوف يتكلمون عن عمله هذا، وسوف يقرونه عليه، ويهنئونه على ثأره لكرامته. . . وأخذ يعيد بصوت عال، كمن يتكلم وقد ملأت رأسه أفكار مضطربة هائجة:

_ ما أشد فظاظة هذا الرجل!. . .

ص: 95

ثم جلس على مقعد، في طرف الغرفة، وأخذ يفكر: يجب عليه، منذ الصباح أن يهيئ شهوده. فمن ينتقي؟. . . أخذ يبحث في ذاكرته عن الأشخاص الأكثر رزانة والأثر شهرة من بين معارفه. . . وأخيرا، انتقى المركيز دولاتور - نوار والضابط بوردان: سيد عظيم، وجندي كبير. . هذا أحسن حل سوف تنشر أسمائهم الصحف فيتضح لأصدقائه أنه أحسن الاختيار. عندئذ شعر بأنه عطشان فشرب: مرة أثر أخرى، ثلاثة أقداح من الماء، ثم نهض وعاد إلى السير. وشعر بنفسه أنه يتفجر نشاطا. وفجأة خطرت له خاطرة: لو أنه أظهر شجاعة فائقة، وتصميما راسخا على الوصول إلى هدفه مهما كلفه الأمر، ولو أنه طلب شروطا قاسية خطيرة، وأصر على أن تكون المبارزة جدية، جدية حقا ورهيبة، لو أنه أصر على كل هذا فلسوف ينسحب خصمه حتما ويعتذر.

أخذ بيده البطاقة - التي كان قد أخرجها من جيبه ورمى بها على المنضدة - وقرأها مرة أخرى، كما كان قرأها في المقهى بلمحة خاطفة، وفي العربة على ضوء مصابيح الشوارع وهو يعود إلى المنزل: جورج لاميل 51، شارع مونسي، لا شيء سوى هذه الكلمات.

وأخذ ينظر بتمعن إلى هذه الحروف المتجمعة، التي كانت تتراءى له كأنها سرية، ملأى بالمعاني المضطربة: جورج لاميل! من يكن هذا الرجل؟! وماذا يعمل؟ لماذا نظر إلى هذه المرأة بمثل هذا الإلحاح؟ أليس مما يثير النفس، أن يقدم غريب مجهول على تعكير صفو حياتك بمثل هذه الصورة، وبشكل مفاجئ لأنه حلاله أن ينظر بكل وقاحة إلى امرأة تجاوره! ثم ردد الفيكونت، مرة أخرى، وبصوت عال:

_ ما أشد فظاظته!.

ثم وقف مكانه جامداً، مفكراً، وقد ثبت ناظريه في البطاقة، فتأجج في فسه غضب شديد من هذه القطعة من الورق المقوى، غضب حقود مازجه شعور بالانزعاج غريب. . . كم كان هذا الحادث سخيفاً!. . . وأخذ موسى مفتوحة، وقعت يده عليها، وغرسها في وسط الاسم المطبوع على البطاقة، كأنه يطعن شخصا أمامه في قلبه.

إذن يجب عليه أن يبارز! وهل ينتخب لهذه المبارزة السيف أم المسدس؟ لأنه كان يعتبر نفسه مهانا فله إذن حق الاختيار. ولكن المبارزة بالسيف تكون قليلة الخطر، أما بالمسدس فله أمل واسع بأن يساعده الحظ على إجبار خصمه على التراجع والانسحاب. ومن النادر

ص: 96

جداً أن تفضي المبارزة بالسيف إلى الموت، إذ تمنع اليقظة والاحتياط المتبارزين الدنو من بعضهما لدرجة تتمكن معها ذبالة السيف من احتراق الجسم والغرض فيه. أما بالمسدس فيخاطر الإنسان بحياته بشكل جدي، ولكنه يستطيع، مع ذلك، أن ينهي قضيته، عن بعد، بشرف، دون الوصول إلى صدام.

ثم قال:

_ يجب أن أكون ثابت الجنان، عندئذ، حتما، يخاف.

ولكن نغمة صوته جعلته ينتفض مندهشا، وينظر إلى ما حوله. وشعر بنفسه أنه أصبح شديد الحساسية، فتناول قدحا آخر من الماء وشربه دفعة واحدة.

ثم بدأ ينزع ثيابه ويرتدي ثياب النوم.

ولم يكد يستلقي على سريره حتى أطفأ النور، وأغمض عينيه. . . وهو يقول في نفسه:

_ لدي يوم الغد بطوله كي أهتم بإنهاء هذه القضية. فلأنم الآن لأستيقظ غدا هادئ النفس.

شعر بحرارة شديدة في السرير، ولم يستطع النوم، فأخذ يتقلب على الفراش: يستلقي على ظهره، وبعد برهة وجيزة، ينقلب إلى جنبه الأيمن تارة ثم إلى جنبه الأيسر تارة أخرى.

إنه لا يزال يشعر بالعطش. نهض ليشرب ولما أصبح خارج السرير استولت عليه فكرة جديدة:

_ هل سأكون عرضة للخوف؟

لماذا أخذ قلبه يضرب بشدة لكل حركة مأنوسة في غرفته؟ إذ عندما توشك ساعة الجدار أن تدق، يرعبه صوت صرير النابض الذي يشتد ليحك المطرقة، ويضطر بعدها أن يفتح فمه ليستطيع التنفس مدة من الزمن ما دام يشعر بضيق في صدره من شدة الخوف والاضطراب.

وأخذ يناقش نفسه بنفسه عن الإمكانيات التي تجرها مثل هذه الحالة:

هل سيستولي علي الخوف؟

كلا بالتأكيد، سوف لا يستولي علي الخوف، ما دام قد قرر لأن يذهب في هذه القضية إلى نهايتها، وما دام يملك هذه الإرادة الجازمة في أن يبارز، وأن لا يضطرب. ولكنه، مع ذلك، كان يشعر بالاضطراب في قرارة نفسه، حتى أنه تساءل.

ص: 97

_ هل يخاف الإنسان بالرغم منه؟

واكتسحته موجة من الشك والقلق والرعب. فلو أن قوة أقوى من الإرادة تسلطت عليه، قوة كاسحة لا يمكن مقاومتها أو الوقوف في وجهها، فماذا يحصل؟ أجل، ماذا يحصل؟. . سوف يذهب إلى مكان المبارزة حتما، ما دام يريد الذهاب ولكن إذا فقد وعيه هناك؟! وأخذ يفكر في حالته عندئذ، وفي سمعته، وفي شهرته.

وتملكته رغبة غريبة مفاجئة، في أن يذهب إلى المرآة لينظر فيها إلى نفسه. وأضاء شمعته، ونظر في المرآة. ولكنه لم يعرف نفسه بصعوبة من الصورة التي عكستها له صفحة المرآة. وخيل إليه أنه لم يكن قد رأى نفسه قط. رأى عينين ضخمتين وارمتين، ووجه أصفر. بالتأكيد كان أصفر الوجه، صفرة فاقعة. . .

بقي واقفا أمام المرآة. ومد لسانه كأنه يريد أن يعرف منه حالته الصحية. . وفجأة لمعت في رأسه فكرة كما تلمع الرصاصة عند خروجها من فوهة المسدس:

_ بعد غد، وفي مثل هذه الساعة، من الممكن أن أصبح في عداد الأموات. هذا الإنسان الواقف أمامي، هذا الأنا الذي أراه في هذه المرآة سوف لا يكون حيا أبدا. كيف! ها أنا ذا إني أنظر إلى نفسي، إنني أشعر بنفسي إنني حي ولكن بعد أربع وعشرين ساعة سأكون ممددا فوق هذا السرير، ميتا، مغمض العينين، باردا، لا حراك بي، سأكون قد اختفيت من عالم الوجود.

أدار وجهه نحو السرير، فتراءى له أنه يرى نفسه، بكل وضوح، مستلقيا على ظهره، في نفس الأغطية التي تركها منذ لحظة، بوجه أجوف كوجوه الموتى ويدين رخوتين، لا تتحركان أبدا.

فاستولى عليه خوف شديد من سريرته، وغادر غرفة نومه إلى غرفة التدخين حتى لا يعود يراه. وتناول سيكارا فأشعله وأخذ يسير. شعر ببرد شديد يكتسح جسمه فذهب إلى الجرس ليقرعه ويوقظ خادمه، ولكنه توقف بعد أن امتدت يده إلى حبل الجرس:

_ سيلحظ الخادم أني خائف.

فلم يقرع الجرس، وأشعل المدفأة بنفسه. وشعر بأن يديه كانتا ترتجفان ارتجافا عصبيا، كلما كانتا تلمسان شيئا. وأحس برأسه كأنه يدور، وأصبحت أفكاره المضطربة سريعة

ص: 98

الانفلات، كثيرة التقلب المفاجئ، مؤلمة. . واكتسحت مخيلته نشوة هنيئة لينة كأنه سكران.

وكان لا يني يتساءل:

_ ماذا يجب علي أن أعمل؟ وماذا سيكون من لأمري؟

وكانت جميع أعضاء جسمه ترتجف، وقد اجتاحته اهتزازات متقطعة، فاتجه نحو النافذة واقترب منها، وأزاح الستائر عنها.

بدأت طلائع الصباح تظهر. . طلائع صباح يوم من أيام الصيف، وقد صبغت السماء الحمراء المدينة بلونها الأحمر، وكذلك صبغت السقوف والجدران، وأخذ بلف العالم المستيقظ نور لطيف أشبه بمداعبة الشمس المشرفة. وإلى جانب هذا النور الذي يستولي على العالم، استولى على قلب الفيكونت أمل باسم، سريع، مفاجئ! هل أصابته نوبة من الجنون حتى بدع نفسه هكذا فريسة الخوف والقلق والاضطراب، قبل أن يتقرر شيء نهائي، وقبل أن تجتمع شهوده بشهود جورج لاميل، وقبل أن يعلم ما إذا كان خصمه سيقبل المبارزة بشروطها القاسية؟

غسل وجهه، وارتدى ثيابه، وخرج بخطى ثابتة.

* * *

كلا يردد، وهو يسير:

_ يجب أن أكون مرحا ونشيطا. يجب أن أثبت أن الخوف لم يجد سبيلاً إلى نفسي. وضع شاهداه: المركيز والضابط، نفسيهما تحت تصرفه. وبعد أن صافحاه بحرارة، أخذا في مناقشة الشروط:

سأل الضابط:

_ هل تريد أن تكون المبارزة جدية؟

فأجابه الفيكونت:

_ أجل! جدية.

فقال المركيز:

_ وهل تصر على استعمال المسدس؟

_ نعم.

ص: 99

_ هل تترك لنا الحرية في تسوية بقية الأمور؟

فقال الفيكونت بصوت أجش متقطع:

_ عشرون خطوة. وعند الإيعاز يرفع السلاح بدل خفضه. تبادل إطلاق النار حتى يجرح أحدنا جرحا خطيرا.

فأعلن الضابط بصوت بهيج راض:

_ إنها شروط عظيمة. ولما كنت تجيد إطلاق النار، فجميع الظروف في جانبك.

ثم ودعاه، وذهبا، وعاد الفيكونت إلى منزله لينتظرهما. وأخذ اضطرابه، الذي هدأ نوعا مدة من الزمان، يشتد الآن من وقت لآخر، حتى أصبح يشعر بارتجاف واهتزاز متواصلين يكتسحان كيانه بكامله، فصعب عليه البقاء والجلوس أو الوقوف في مكان واحد. وأصبح لا يوجد في فمه أي أثر للعاب، وصار لا يستطيع تحريك لسانه في فمه إلا بشدة يخرج بعدها صوت ناشف فمن يريد أن يقتلعه من قبة الحنك.

أراد أن يفطر، فلم يستطع الأكل، ففكر في أن يشرب، لعل الشراب يعطيه شيئا من الجرأة، فأحضر زجاجة من الروم، ابتلع منها قدحا بعد قدح:

ستة أقداح صغيرة.

فشعر بحرارة محرقة تبعتها نشوة روحية. فقال في نفسه:

_ وجدت الآن الوسيلة. لقد سار كل شيء على ما يرام.

ولكن بعد ساعة كان قد أفرغ جميع ما في الزجاجة في جوفه، دون أن يصل إلى تخفيف اضطرابه وقلقة، فشعر برغبة جنونية في أن يمرغ نفسه على الأرض. . في أن يصرخ. . ويعض. وأخيرا بدأ يرخي سدوله على المدينة.

قرع الجرس، فأجفل واضطرب ولم يتمكن من النهوض لاستقبال شاهديه.

لم يجرؤ حتى على مخاطبتهم، ولا على القول لهم سعد نهاركم، وكذلك لم يجرؤ على أن يفتح فمه ولو بكلمة واحدة، خوفا من أن يلحظ أن شيئا قد تغير في نبرات صوته.

قال له الضابط:

_ لقد هيأنا كل شيء، حسب الشروط التي عينتها. لقد طلب خصمك، في أول الأمر، أن تكون له امتيازات المهان، ولكنه عدل حالا عن طلبه، ورضي بكل شروطك. وقد عين

ص: 100

شاهديه، وهما جنديان.

فلقط الفيكونت كلمة:

_ شكراً.

وقال المركيز:

_ نأسف على أننا لا نعمل إلا الدخول إلى منزلك والخروج منه، ولكن لا يزال علينا أن ننهي كثيراً من المهام. يجب أن نهيئ طبيبا ماهرا، ما دامت المبارزة لا تنتهي إلا بجرح خطير، وأنت تعلم أن الرصاص لا مزاح معه. وكذلك يجب أن نعين مكانا قريبا من أحد المنازل لكي ينقل إليه الجريح بالسرعة التي تدعو إليها الضرورة. . الخ. ولذا فلا نزال بحاجة إلى ساعتين من الزمان لإنهاء أعمالنا. .

فأعاد الفيكونت مرة ثانية:

_ شكراً.

فسأله الضابط:

_ هل تتمتع بصحة جيدة؟ وهل تشعر بهدوء وراحة؟

_ أجل أشعر بهدوء تام. شكراً.

وانسحب الرجلان.

وعندما رأى نفسه قد أصبح وحيداً مرة أخرى تراءى له أنه صار مجنوناً. وبعد أن أضاء له خادمه النور جلس خلف مكتبه ليكتب بعض الرسائل. تناول القلم وخط فوق صفحة من القرطاس: هذه هي وصيتي. ثم انتفض فجأة ونهض مطرباً وابتعد عن المكتب، وقد شعر بنفسه أنه عاجز حتى عن التوحيد بين فكرتين أو اتخاذ قرار ما أو تقرير أي شيء من الأشياء.

إذاً لقد تحقق الأمر ولسوف يذهب حتماً إلى المبارزة! إنه لم يتمكن من تفادي هذا الأمر. . . ماذا جرى له؟ كان يريد أن يبارز ولكن إرادته هذه قد توقفت تماماً الآن، وأصبح يشعر شعوراً واضحاً_رغم كل مجهود فكري، وكل إرادة قوية - بأنه سوف لا يستطيع المحافظة حتى على قواه الضرورية التي تساعده على الوصول إلى مكان المبارزة. . . أخذ يجهد أفكاره ليتخيل المبارزة ويتخيل وضعه ووضع خصمه.

ص: 101

وأخذت أسنانه تصطك في فمه من وقت لآخر. . . أراد أن يقرأ شيئاً يتعلق بالمبارزة فتناول كتاب: قانون المبارزة لمؤلفه شاتوقيار. ثم تساءل:

_ هل كان خصمي يرتاد أماكن الرمي بالرصاص؟ وهل حاز على درجات فيها؟ كيف أستطيع معرفة ذلك؟

فتذكر كتاب البارون دوفو على أبطال الرمي بالمسدس فتصفحه من أوله إلى آخره. جورج لاميل لم يجد هذا الاسم بين أسماء الأبطال المسجلين في الكتاب. ولكن بالرغم من هذا إذا لم يكن الرجل من أبطال الرمي بالمسدس لما قبل بهذه السرعة المبارزة بهذا السلاح الخطر وبشروطي القاتلة!!

ثم فتح وهو يسير في الغرفة عليه مسجلاً عليها اسم محل غاستين رونيت كانت موضوعة فوق منضدة صغيرة إلى جانب مكتبه، وتناول منها أحد المسدسين الموجودين فيها، وأخذ وضع من يريد أن يطلق النار ورفع يده بالمسدس ولكنه كان يرتجف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وكانت فوهة المسدس تهتز وتضطرب بيده المرتجفة. عندئذ قال في نفسه:

_ مستحيل. لا أستطيع المبارزة وأنا على هذه الحالة من الاضطراب.

ثم أدار المسدس نحو وجهه وأخذ ينظر في فوهته، ينظر إلى هذا الثقب الصغير الأسود العميق، الذي يبصق منه الموت، وأخذ يفكر كيف سيلطخ اسمه بالعار وكيف ستلوك سمعته الألسنة في النوادي، وكيف سيقابل في ضحكات الهزء والسخرية في (الصالونات) وكيف ستحقره النساء وستعرض به الصحف وكيف سيقذف الجبناء في وجهه بالشتائم والسب.

إنه لا يزال ينظر إلى المسدس، ثم رفع الزناد فرأى تحته كبسولة حمراء تلمع كأنها شعلة صغيرة من نار. فالمسدس إذاً محشو، صدفة أو نسياناً، فشعر لهذا بفرح مبهم غامض.

إذ لم يقف أمام خصمه الموقف النبيل الهادئ الذي يجب أن يقف عليه، يكون قد أضاع نفسه إلى الأبد، يكون قد لطخ اسمه ووسم نفسه بميسم العار، ويطرد بعدها من المحيط الذي يعيش فيه! لكنه بالتأكيد لا يستطيع الوقوف بهذا الموقف الهادئ العنيد، إنه يعلم ذلك ويشعر به منذ الآن. ومع ذلك فقد كان شجاعاً، ما دام. . . ولكن الفكرة التي خطرت له لم تتم في ذهنه، إذ فتح فمه إلى أقصى حد يستطيعه وأدخل فيه فجأة فوهة المسدس حتى وصلت إلى حنجرته ثم ضغط على الزناد. . .

ص: 102

وعندما أسرع خادمه إلى الغرفة بعد أن سمع صوت الطلق الناري وجده قد فارق الحياة وقد انقلب على ظهره، ولوثت دفعة من الدم الورقة البيضاء الموجودة فوق مكتبه، ورسمت بقعة كبيرة حمراء فوق هذه الكلمات:

هذه هي وصيتي

خالد علي

ص: 103