الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم الفني
للأستاذ خالد قرطوش
في هذا العصر المضطرب الصاخب عصر الاكتشافات العلمية نجد الإنسانية المتنازعة تقف على عتبة عهد جديد بين البأس والرجاء، تبحث عن مستقر لها أمين وسلم عادل قوي. وقد أجمع المفكرون أو كادوا يجمعون على أن سعادة المجتمع الإنساني يجب أن تشاد على دعائم اقتصادية اجتماعية يساندها التقدم العلمي والفني وتهدف مصلحة العوام، ولا ينحصر خيرها في طبقة الخواص فقط. . .
فالناس مدعوون ولاسيما الخواص منهم إلى ترويض مشاعرهم على قبول فكرة الخير العام. وليس ذلك بعسير أو مستحيل، بل هو ممكن وحاصل بفضل العلم الذي علم الإنسان استثمار قوى الطبيعة وإخضاعها لمنفعته، وعلمه كيف يجب أن يكون سيد الإنتاج يضاعفه ويضعفه حسب الربح أو حسب قوة المستهلكين الشرائية.
ولكن العلم الذي نشأ وترعرع في ساحة العقل الحر يأبى أن يقيده الربح فهو طليق يسمو أبداً ويطور الآلة ويزيد في إنتاجها وسرعتها. فمرت البضاعة التي صنعتها الأنامل منذ آلاف السنين، بآلات البخار فاللهب السائل فالكهرباء فالذرة، ولا نعلم بأي قوة ستمر بعد أن مرت بالتي مرت. . . فنحن في عصر مدنية قائمة على العلم وفي إمكان هذه المدنية أن ترفه عن الناس جميعاً. . .
فعلى هذه الخطة العامة نرى من واجب الأمم تعميم العلم والفن بين ربوعها وهذا لا يمكن أن يكون إلا عن طريق إدخال التعليم الفني في المدارس وتوسيعه توسيعاً مطرداً. ونحن هنا في سوريا، سوريا التي أصبحت مستقلة وذات كيان دولي مرموق، علينا أن نعني بهذه الناحية من التعليم الفني الذي لعب دوراً أساسياً ي مراحل تطور الإنسانية.
لقد ولد التعليم الفني في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدمت العلوم تقدماً سريعاً هائلاً. صحيح أننا مقصرون بهذه الناحية تقصيراً واضحاً، فالاستعمار الفرنسي وقبله التركي الجائر الجاهل حرم هذه البلاد من التطور ومجاراة التقدم العالمي، ولكن إما ونحن اليوم أسياد بلادنا فمن الجريمة أن نستكين أو أن نهادن ونتهاون في سلوك هذه الطريقة. وقد تكون إمكانياتنا حكومة وشعباً قليلة أو مفقودة للقيام بمهمة إدخال التعليم الفني
في برامجنا وتعميمه شيئاً فشيئاً في مدارسنا. أجل! قد يكون ذلك واقعاً، لكن هذا لا يمنع من أن نبدأ والبداية معناها إدراك النهاية.
وقد ذكر خطاب فخامة الرئيس الأول في خطبة في عيد الجلاء وفي مناسبات أخرى كثيرة: إن الاستقلال الذي انتزعناه بدمائنا يجب أن نحافظ عليه.
وليس من واجبنا أن نحافظ على استقلالنا فحسب بل علينا أن نوطده ونوسعه ولكي نبلغ ما نريد علينا أن نبحث عن الطرق التي تؤدي بنا إلى المحافظة على الاستقلال وتوطيده وتوسيعه. وإذا كنا نريد حقاً وصدقاً المحافظة على هذا الاستقلال كمحافظتنا على حدقة عيوننا، علينا إتباع السبل التي تزدهر بها اقتصادياتنا من صناعة وزراعة إذ لا سبيل إلى استقلال سياسي مكين إذ لم يؤيده الاستقلال الاقتصادي. وأوضاعنا الاقتصادية الحاضرة لا تسر، ولتدارك ذلك علينا أن نخلق في البلاد نهضة اقتصادية من زراعة وصناعة، ولتهيئة أسباب هذه النهضة علينا أن نعرف مقدار مواردنا الطبيعية. وقد أكد الباحثون والمنقبون أن بلادنا غنية تجري من تحتها أنهار البترول كما ظهر ذلك في بيروت واللاذقية، وباطن أديمنا مثقل بشتى المعادن والخيرات يترقب من يخرج أثقاله وأحماله بفن أحذق ما أوحى إليه. . . وسهولنا وفيافينا شاسعة تكفي عشرات الملايين من الخلائق إذا استثمرت فنياً. فلا ينقصنا إذاً إلا المتخصصون وقد يمكن استخدام المتخصصين من الأجانب ريثما يتخرج طلابنا من معاهدنا الفنية التي يجب أن نبدأ بتأسيسها فوراً كما ذكرت آنفاً. ولكي نمهد السبيل للتعليم الفني علينا تغيير برامجنا الحالية على الأقل رويداً رويداً إذا كنا نخشى الطفرة. . .
إن من يطوف في حقولنا الفسيحة المنبتة الجرداء يسمع نداء يدوي: اعملوا، أنتجوا وهل بإمكاننا أن نعمل وننتج بدون جيش من العمال الفنيين والزراع والمهندسين. . . يسعى بعض الرأسماليين عندنا إلى تأليف شركات صناعية استثمارية ولا بأس في هذا المسعى فهو تطور طبيعي لمجتمع اقتصادي كمجتمعنا تفككت أوصال إقطاعيته الزراعية ليتدرج نحو مجتمع صناعي رأسمالي. فعلى الحكومة أن تساعد الرأسمال الوطني وتهيأ له الأخصائيين واليد العاملة الحاذقة، ولا يتهيأ ذلك بإتقان وانتظام إلا بتدريب آلاف الطلاب في معامل المدرسة المصغرة. . .
تضم المدرسة السورية ما يزيد على 150000 طالب وطالبة.
إن هذا العدد يتخرج من المدارس الابتدائية دون أن كون لديه أقل إلمام عملي بمبادئ الصناعات وإن من سعفه حظه الغني ويكمل تحصيله الثانوي، يغرق في النظريات والأبحاث العقيمة التي تضعف الجسم ولا تنمي الملكات والنماء الكافي المطلوب. . . إن مرحلة انتقال الطلاب من الجو المدرسي إلى الحياة العملية هي أدق المراحل وأهمها بالنسبة إلى مستقبل الشبيبة، ولكن مدارسنا مع الأسف لا تزودهم بأي سلاح بسيط يدفعون به عن أنفسهم طاعون البطالة وحمى الفاقة.
إن مجتمعنا السوري كأي مجتمع آخر في عصرنا هذا يجابه معضلة اقتصادية اجتماعية عليه أن يذللها ويحللها بشكل يتفق ومصلحة المجتمع ويصون في الوقت نفسه كرامة الفرد. ومن هنا تبدو الصلة الوثيقة بين الفكر والعمل كشيء أساسي لدوام تقدم المجتمع. فالتعليم النظري والعملي صنوان متلازمتان. ومن الخطأ فصلهما عن بعضهما فالأمل يهدف الثقافة النظرية والثاني يؤدي إلى العمل اليدوي، فالاثنان واحد في الحقيقة، لأنهما يجتمعان في الإنسان ولا يمكن أن نفصل عمل الإنسان عن فكرته، والفصل في حالة كهذه تشويه للحياة نفسها. . .
إن التقدم الحقيقي لا يتم باستيعاب الحكمة النظرية من شعر وأدب وفلسفة، بل يحتاج هذا التقدم اليوم إلى دعائم قوية من الكيمياء والفيزياء والميكانيك أي يحتاج إلى حشد واستثمار قوى البلاد الفكرية والمادية. . .
إن البلاد التي سبقتنا صناعياً ترى نفسها مضطرة لتغيير أساليب الإنتاج وتحويله من إنتاج يستهدف نفع أفراد معينين إلى إنتاج يبغي النفع العام. فما بالك ونحن لا نزال في المؤخرة مما يدعونا إلى الإسراع لنجاري الأمم المستقلة التي نتبوأ وإياها كراسي مجلس الأمة. . .
إن ذلك لا يتم ولا يمكن أن يتم إلا بالمدرسة، بالمدرسة التي تتعهد المواهب والكفاءات منذ الحداثة وتحمي هذه المواهب وتلك الكفاءات من طغيان التراخي والتواكل والجمود، وتبشراً أولاً وآخر بالثقافة العلمية النيرة الواضحة المفيدة، الثقافة التي تحرر الإنسان من العوز والعبودية وتجعله يشعر شعوراً عميقاً راسخاً بأن حاضره ومستقبله يرتكزان على أسس من السعادة الاجتماعية المضمونة وأنه عامل من العوامل الرئيسية التي ترص المجتمع وتزيد
في قوته وتضامنه وضمانته.
أجل المدرسة هي التي تلعب الدور الأساسي في خلق هذا الشعور الاجتماعي عند المواطنين، وتزودهم بالوسائل التي تنمي هذا الشعور وتوسعه، ورسالتنا أولاً وآخراً هي اكتشاف القابليات الفكرية والعلمية لدى الأحداث وتمهيد السبل لتطويرها دون أن تتأثر بأوضاع الطلاب العائلية والمالية، فتخلق رجالاً أشداء، متمتعين بإرادة قوية وحماس عظيم مزودين بموارد ثقافية تجعلهم مدركون فوراً مفاهيم التقدم الحديث كل ذلك يستدره الطلاب في جو مدرسي باسم لا ضغط فيه ولا إكراه بل يبتهجون لأنهم يجدون أن المجال واسع أمامهم لإرضاء ميولهم اليدوية التي تظهر فيهم عادة قبل أي ميل ثقافي آخر.
كل بناء يبنى على أساس وأساس المجتمع الجديد يصنع في المدرسة فإذا أردنا أن نشيد مجتمعنا على دعائم حديثة قوية فلنبدأ بالمدرسة فمنها تنبثق طلائع الفجر الجديد. . .
خالد قوطرش