المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حفريات رأس شمرة - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌حفريات رأس شمرة

‌حفريات رأس شمرة

للدكتور سليم عادل عبد الحق

محافظ دار الآثار الوطنية بدمشق ومدارس التاريخ القديم بكلية الآداب

يقع التل المسمى (رأس شمرة) على بعد أحد عشر كيلو متراً من شمال مدينة اللاذقية. ولم يكن فيه ما يسترعي الانتباه ويميزه بشيء عن غيره من التلال الكثيرة الممتدة بحدباتها المتطامنة في مختلف المناطق السورية والتي يتألف بعضها من أنقاض أبنية قديمة من عصور مختلفة علت بعضها بعضا، واختفت معالمها منذ أزمان طويلة بفعل الرياح الساقيات، وشكله بسيط للغاية يشبه شبه منحرف يبلغ طول قطره الأكبر كيلو متراً واحدا، وطول ضلعه الشمالي - الجنوبي ستمائة متر وطول ضلعه الشرقي_الغربي خمسمائة وثمانين متراً. وظل يجرر أذيال حياة تكاد تكون منسية، متحفظا لنفسه بما فيه من أسرار حتى سنة 1928 حيث عثر أحد الفلاحين وهو يحرث حقله على بلاطة فرفعها فإذا تحتها درج ينحدر إلى مدفن عميق. فسارع إلى إخبار السلطات المسؤولة عن اكتشافه، فتولت مصلحة الآثار القائمة آنئذ على العمل، دراسة المنطقة دراسة دقيقة. ودلت تحرياتها الأولى على أن هنالك مقبرة قديمة جداً. ولما أعدت العدة لإماطة اللثام عما خفي من هذه المنطقة، وبوشر في أعمال الحفر والتنقيب، ظهر يوجد على التل مجموعتان من الأطلال تبعد الأولى منهما قليلا عن المرفا الطبيعي المدعو (مينة البيضا) وتقوم الثانية إلى شرق الأولى على مسافة تقدر بثمانمائة متر. وهذه الأخيرة هي أطلال مدينة رأس شمرة القديمة. ولقد دلت الكتابات المسمارية التي وجدت في تل العمرنة بمصر وأيدتها النصوص المكتشفة فيما بعد في رأس شمرة نفسها على أنها هي (أوغاريت) المدينة الفينيقية المشهورة في العالم القديم.

ومنذ عام 1929 حتى أول الحرب الماضية جرت فيها حفريات كان يقودها (كلودشيفر) و (جورج شنيه) في فاتحة كل ربيع، وكان بنتيجتها أن ظهرت معالم المدينة القديمة وأشياء أثرية كثيرة استنتج منها العلماء، وما زالوا يستنتجون معلومات على غاية من الأهمية عن حياة ومدنية الشعوب التي سكنت هذه البقعة من الشرق القديم، مما طير اسم رأس شمرة في الآفاق وجعله معروفا لدى الرأي العلمي العالمي الذي يترقب الآن بصير فارغ متابعة

ص: 34

أعمال الحفر فيها بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانصرف الناس من جديد إلى الاهتمام بكشف مخبئات الماضي. ومن أسباب الدعاية لسورية الجديدة أن تعود إلى التنقيبات فيها هي نفسها أو أن تفوض أحد المنقبين الذين نثق بمقدرتهم ونزاهتهم لأن يقوم لحسابها بهذا العمل.

وقد تبين من الآثار المكتشفة في رأس شمرة أن هذه المنطقة قد جذبت البشر إليها منذ أقدم الأزمنة لما لها من مميزات جغرافية كبرى، فهي تقع على الشاطئ تلقاء جزيرة قبرص التي كانت مركزا للصناعات المعدنية في العالم القديم. وفيها تلتقي عدة طرق طبيعية تنفذ إلى سورية الداخلية فتنتقل عليها البضائع والحاصلات إلى حلب وحمص وحماه وبلاد الرافدين. لهذا فقد سكنها الناس منذ زمن العصر الحجري الحديث وجعلوا يبنون فيها بيوتهم فتراكمت على مرور الأجيال حتى ألفت التل المتقدم الذكر والذي يبلغ ارتفاعه عشرين مترا. ويقول المسيو شيفر أنه استطاع أن يميز في هذا التل خمس طبقات من المنشآت البشرية يعاصر كل منها زمنا من الأزمان التي مرت على سورية قبل الألف الأولى قبل الميلاد. فالطبقة السفلية وهي الطبقة الخامسة يرجع عهدها إلى العصر الحجري الحديث أي إلى عصر يمتد بين (2000) و (5000) سنة قبل المسيح. وفوق الطبقة الخامسة تأتي الطبقة الرابعة وهي تعاصر فاتحة الألف الرابعة قبل الميلاد. وقد وجد فيها كثير من الأواني الفخارية التي عثر على ما يماثلها في بقاع مختلفة من المناطق الواقعة بين البحر المتوسط وتركستان. مما يدل على أن لأقدم سكان رأس شمرة كانت لهم علاقات وثيقة مع سورية الشمالية وبلاد الرافدين، وأن (أوغاريت) كانت تقع منذ ذلك الزمن على نهاية الطريق البرية التجارية الكبرى التي تمر بحلب. وهذا ما دعى الفينيقيين الذين شبهوا بانكليز العصور القديمة ليسارعوا إلى احتلالها وجعلها إحدى القواعد الحساسة التي ساعدتهم على سيادة البحر المتوسط. ثم إن طبقة التل الثالثة تحوي آثارا تدل على أنها ترجع إلى آخر الألف الرابعة ومعظم الألف الثالثة قبل الميلاد وتكثر فيها الأواني الفخارية من النوع الفينيقي. وتكثر في الطبقة الثانية التي تليها الآثار والأواني والأدوات التي يمكن نسبتها إلى الزمن الذي مر بين القرن الواحد والعشرين والقرن السادس عشر قبل الميلاد. وكلها تدل على أن الفينيقيين بنوا فيها أبنية متعددة وأنهم كانوا يحملون إليها منتوجات

ص: 35

معاملهم وحاصلات أراضيهم كالأواني الزجاجية والبرونزية والفخارية والقمح والحبوب والخمور. وكانوا يوجهون إليها أيضاً البضائع الشرقية التي كانت تأتي إلى فينيقية عن طريق البحر الأحمر كالذهب والعطور والأفاوية والطواويس وغيرها، ويظهر أنهم كانوا يبادلون كل ذلك في أوغاريت خلال هذا الدور بالخشب ومعدن النحاس والأدوات البرونزية والجياد. وتدل كل الدلائل على أن تجارة الترانزيت هذه ساعات الصناعة المحلية على الازدهار فنشأت فيها معامل للأواني والأدوات البرونزية والفخارية ولصنع الصباغ الأرجواني.

وأخيرا تبين الطبقة الأولى من التل التي تعاصر الزمن الممتد بين القرن الخامس عشر والثاني عشر على أن مدينة أوغاريت ازدهرت ازدهارا عظيما وجعلت تتأخر مع قبرص ومر عليها رخاء لا مثيل له. فكبرت واتسعت وامتدت إلى خارج سوريا القديم وغدت بذلك مدينة مفتوحة. وأكبر الظن أنها لم تعمر إلى أبعد من القرن الثاني عشر. ويظن أن الملك الآشوري (تغلات فالازار) الذي استولى على سورية الشمالية، وبلغ البحر، قد هاجمها وهدمها وقضى على حضارتها. ومنذ ذلك الوقت اختفت من الوجود ولم يعد يرد ذكر لها في التاريخ.

ومما يجدر ملاحظته أن حفريات (شيفر) و (شينه) في رأس شمرة وجهت خاصة لكشف النقاب عن مدينة (أوغاريت) الأخيرة أي التي عاشت بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر. فأظهرت فيها شوارع ومنازل ومباني عامة أشهرها معبدان أحدهما للإله (بعل) والثاني للإله (داغون). ويتألف كل منهما من قاعة محصورة مسبوقة بإيوان يطل على باحة، فيها مذبح. وتجمع كل القرائن على أنهما بنيا في زمن واحد مما يجعلنا نعتقد أن أوغاريت كانت تعبد هذين الإلهين معا. هذا ويحاط هذان المعبدان بمنازل وأبنية كثيرة من جميع الجهات مما يدل على أن المدينة كانت واسعة في هذا العصر وأن أهلها كانوا أثرياء مترفين. فمنازلها فسيحة تتألف من باحة في وسطها بئر يقوم إلى جانبها درج، يصعد منه إلى الطابق الأول المعد إلى السكن. وتلحق بهذه المنازل أحيانا مدافن أصحابها التي تتألف من رواق ينتهي بدرج يهبط منه إلى المدفن المسقوف. ويحوي هذا الأخير محرابا توضع فيه جرة ماء أو بئرا يساق إليها الماء بالأنابيب.

ص: 36

والأشياء الأثرية المكتشفة في هذه الطبقة مصنوعة كلها في النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد. وهي كثيرة ومتنوعة. بعضها من الذهب، وبعضها من الفضة أو البرونز أو العاج أو الفخار أو الألباتر. وصنعتها تدل على تأثرها بالفن المصري والفن الميسيني المعاصرين، وأشهرها صحيفة من الذهب تتوزع زخارفها التي تمثل وعولا في أوضاع مختلفة على سطح دائرة متوسطة، وزخارفها التي تمثل صيادا قائما على عربة يجرها حصان وهو يطارد أبقارا مختلفة حول إطار يحيط بالدائرة المتوسطة. ومن أجملها كأس ذهبية عليها زخرفة تمثل حوادث أسطورة يصعب معرفة تفاصيلها، ولوحة حجرية منحوتة تمثل الإله (بعل) وهو يهز الصاعقة بيده اليمنى ويحمل رمحا بيده اليسرى وتمثال لهذا الإله مصنوع من الذهب والفضة والأكتروم والبرونز والحجر يمثله واقفا وعلى رأسه قرنان، وتمثال لإحدى الربات العاريات وهي تحمل بكل يد من يديها زهرة اللوتس وتضع على رأسها قبعة شبيهة بقبعة الربة المصرية (هاتور). والمجال يضيق هنا حتى عن تعداد المقطع الأثرية المهمة التي تدل على ما بلغته صناعة (أوغاريت) من نقدم وازدهار في هذا العصر.

على أن أشهر الأشياء المكتشفة في رأس شمرة هي النصوص المكتوبة بالفباء تشبه الألفباء المسمارية على لوحات فخارية نقلت عقب العثور عليها إلى فرنسا لدراستها، وما تزال فيها حتى الآن وسيصار إلى إرجاع حصة الحكومة السومرية منها إلى متحف حلب في القريب العاجل. ولقد وجدت في دار حسنة البناء من دور أوغاريت سماها مكتشفوها (المكتبة) ولهذه الدار باب واسع يقع في جهتها الشمالية ولها باحة تحيط بها غرف واسعة مبلطة تبليطا جيدا. وفي صدر الباحة بئر محفورة لها حافة عالية وإلى جانبها باب يؤدي إلى رواق ينتهي بدرج يصعد منه إلى الطابق الأول.

وقد وجد في هذه الدار إلى جانب النصوص المتقدمة نصوص أخرى مكتوبة باللغات السومرية والخورية والفينيقية ويظهر أنها كانت مدرسة يتدرب فيها الكتبة على تعلم هذه اللغات ويقول أحد النصوص أن هؤلاء الكتبة كانوا يعملون في خدمة الملك (نيقماد). وأكبر الظن أن هذا الملك كان محبا للأدب الديني لأنه أمر، كما سترى، بتسجيل الأساطير الميتولوجية الفينيقية القديمة.

ص: 37

وقد اقتضى حل ألغاز النصوص الأولى والتوصل إلى قراءة ما تحويه كثيراً من الجهود لأن إشارتها لم تكن معروفة قبل اكتشافات رأس شمرة. فانكب على دراستها علماء عديدون منهم (هانس بوير) و (ادوار دورم) و (شارل فيروللو) وبعد دراسات طويلة تبين أنها مكتوبة بلغة آكادية ذات ثلاثين إشارة استخدمها الفينيقيون منذ الزمن الذي كانوا فيه مقيمين في أراضي كنعان الجنوبية قبل انتقالهم إلى شواطئ لبنان حتى القرن الثالث عشر. وهذه الكتابة أبسط من الكتابات التي كان يستعملها شعوب العالم القديم بما فيهم من مصريين وسومريين وساميين وحيثيين الذي لم يتوصلوا إلى تسهيل خطوطهم الحاوية على إشارات تصويرية وصوتية بآن واحد ويعود الفضل، كما هو معروف، إلى الفينيقيين بإيجاد خط عملي يسجل فقط الأصوات المستعملة في الكلام بواسطة إشارات يمكن رسمها بسهولة والتواضع على شكلها الاتفاقي. وخط رأس شمرة يبين لنا مرحلة من المراحل التي قطعتها الألفباء الصوتية حتى تأسست وهو محاولة لتبسيط الكتابة المسمارية وجعلها صوتية تخط بواسطتها كلمات وجمل اللغة الفينيقية.

والمعلومات التي أدلت لنا بها هذه النصوص على كبير من الأهمية. فقد كانت معرفتنا بالأدب الفينيقي الديني ضئيلة قبل اكتشافها. ولم يكن بأيدي الباحثين إلا نصوص قصيرة وبعض الكلمات الجنازية التي عثر عليها في صيدا وقرطاجة. وأخبار التوراة وبعض الكتابات الإغريقية اللاتينية التي تشرح المفاهيم الدينية الفينيقية بصورة مجردة ومصطنعة. ويحوي قسم من نصوص رأس شمرة على تعاليم دينية وبعض المراسلات وقوائم الأشياء المتعلقة بالعبادات. ويحوي قسم آخر منها على قصائد تسرد الأساطير الفينيقية التي نشأت قبل القرن الرابع عشر.

ويتبين من دراسة هذه القصائد كثير من عقائد الفينيقيين الدينية. فالإله (إيل) هو أبو السنوات وملك الطبيعة وسيد الآلهة وحكيمهم وقاضيهم ولا يحدث شيء في العالم إلا بأمره. وهو يملي إرادته على بقية الأرباب ويلهم مشيئة الأبطال بواسطة الأحلام، وله ابن هو الإله (بعل) الذي يعبد في كل المدن لأنه سيد السماء وإله العواصف والزوابغ، ويكفي أن يهز الصاعقة حتى تهطل الأمطار، وهو يعيش في ذرى الجبال ويمتطي السحاب. وولده الإله (ايلايين) يمثل المياه التي تجري تحت الأرض وتنبت النبات، وهناك آلهة أخرى

ص: 38

تذكرها كثيراً قصائد رأس شمرة أهمها (داغون) وإشارته صورة الأسد و (رشيف) وعلامته رأس الغزال وهو إله البرق، و (عنات) وهي شقيقة (ايلايين) وتسمى (البتول).

وتوضح نصوص رأس شمرة خاصة الأساطير الزراعية الفينيقية التي تصف بصورة فاجعة موت قوى الطبيعة وانبعاثها وتكشف عن شكلها الابتدائي بعبارات دقيقة واضحة، وفي الواقع كان الفينيقيون يعتقدون كغيرهم من الأمم القديمة أنه بإمكانهم أن يعجلوا تجدد المياه والنباتات إذا احتفوا بمراسيم وطقوس معينة تمثل حياة ومصرع وانبعاث أرواح المياه والنباتات. بيد أن كل ما وصلنا عن ديانة أدونيس التي ترمز إلى كل ذلك كلن عن طريق شهادات العصور اليونانية والرومانية ويمكن تلخيصها بما يأتي:

ولد أدونيس من شجرة مقدسة وعندما شب وترعرع التقطته أفروديت ربة الجمال وعهدت به إلى (برسفونة) ربة الموت التي تعيش تحت الأرض. وقد رفضت هذه أن تعيده إلى أفروديت، فنزلت ربة الجمال إلى جهنم ورجت (زوث) كبير الآلهة أن يتوسط بينها وبين (برسفونة) ففعل وحكم بأن يعيش أدونيس ستة أشهر تحت الأرض وستة أشهر فوقها مع أفروديت وقد اتخذته هذه خليلا لها. غير أنها لم تنعم به طويلاً. فقد قتله خنزير بري في ريعان الشباب عندما كان يصطاد في الغابة وبكته أحر البكاء ثم دفنته في الثرى حيث سيبعث كل عام مع النباتات الجديدة.

فأدونيس هو إله الزراعة ويمثل روح النبات. وكان يعبد في كل أنحاء فينيقية وتقام له أعياد تسمى الأدونيسيات يمثل الفينيقيون خلالها مصرعه وانبعاثه، وتجري في كل بلدة من بلادهم ولاسيما في جبيل القريبة من نهر إبراهيم الذي يسمى بنهر أدونيس. ففي الصيف يتألف موكب كبير يسير من جبيل ويصعد إلى مرتفعات لبنان ويقف بين حين وآخر، وما يزال حتى يصل إلى منبع النهر في مغارة أفقا، وهناك يضع بعضهم صورة الإله القتيل. ثم تعود كاهنات أفروديت المشتركات في الموكب إلى معبد جبيل بما يشبه جثته بين العويل والرقص الجنازي على نغمات الناي الحزين. وأخيرا تدفن هذه الجثة لكي ينبعث مرة ثانية في فصل الربيع.

وكان الفينيقيون يعتقدون أنه يعود إلى الحياة وأنه يصعد السماء قبل أن يحتوي القبر جثته، فكان لزاما على جماهيرهم أن يشتركوا في الحزن ويتحتم على النساء أن يقصصن

ص: 39

شعورهن أو أن يشترينها بأن يبعن أنفسهن إلى بعض الرجال وأن يؤدين ثمن ذلك إلى المعبد. وتحزن الطبيعة وتشارك الناس في ألمهم فتخضب مياه نهر أدونيس بلون النجيع (وهو لون الطين الأحمر الذي تحمله أمطار الربيع) وتتلون الأزهار بلون دمه. وفي اليوم الثالث من هذا المأتم يعلن الكهان على المتعبدين أدونيس انبعث من مثواه.

وقد بلغنا كل هذا من نصوص وأوابد يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بقليل. وعندما فكت رموز نصوص رأس شمرة وجد في بعضها شكل قديم لأسطورة أدونيس يتلخص في وجود آلهين: الأول (ايلايين) وهو روح المياه الذي يسود في الفصل المطير ويعبيء غيومه ورياحه وأمطاره لكي يسمن الآلهة والبشر.

والثاني (موت) وهو روح النبات والحصاد، يفرض حكمه الحار بعد موت (ايلايين) فتنضج الحبوب والكروم. ثم يموت بدوره عندما تطارده الربة (عنات) فتظفر به وتقطعه إربا إربا ثم تلقي بفتات لحمه إلى الحقول فتعيد إليها بذلك روح النباتات التي أفناها الحصاد. ولكي يتم ذلك يجب على المتعبدين أن ينشدوا نشيداً خاصا وأن يلقوا تماثيله وبعض النباتات الخاصة التي تمثله في البحر فتزداد الغيوم وتنعقد أمطاراً. وعندها تسعى الربة (ساباس) وهي الشمس إلى ارتياد كل الينابيع للبحث عن (ايلايين) الذي يكون مختبئاً في بطن الأرض ولا حلاله محل (موت).

* * *

والخلاصة إن للوحات رأس شمرة أهمية أثرية وتاريخية عظيمة. وتضارع في سعة المعلومات التي قدمتها للعلم عن معتقدات الساميين الأولى وآراء الكنعانيين الدينية وعلاقاتها بمعتقدات بني إسرائيل الأولين، الوثائق التاريخية الثمينة التي وجدت في آخر القرن الماضي وأول القرن الحاضر في (تل العمرنة) و (بوغاز كوي) والتي غيرت كثيراً من معارفنا عن تنظيمات أمم الشرق القديم الاجتماعية والسياسية. وليس يستغرب إذا توبعت حفريات رأس شمرة أن تظهر نصوص أخرى تطلع علينا بأدب فينيقي غزير تزيد في ما نعرفه عن أول البلاد التي توصلت إلى اختراع الكتابة الصوتية فقدمت بذلك أثمن خدمة إلى البشرية.

سليم عادل عبد الحق

ص: 40