المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرتنا إلى الحياة - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌نظرتنا إلى الحياة

‌نظرتنا إلى الحياة

الأستاذ شكري فيصل

أتساءل فيما بيني وبين نفسي، لم يغلب علينا التململ في مجتمعنا العربي، وفي سورية بوجه خاص. فتغدو حين نغدو متبرمين، ونروح حين نروح قلقين، على حين نستطيع أن نجد دائما النقطة التي نبدأ منها في أن تنهض بالمجتمع العربي، وأن نهبه الحياة الحرة الطلقة؟. .

وأتساءل مرة ثانية: هل نحن عاجزون عن أن نعثر على هذه النقطة التي نرتكز إليها. . على حين قد أطلقت لنا في سورية الآفاق، واتسعت الآماد، وأضحى في مقدورنا أن نعمل في يسر أو شيء يشبه اليسر، بعيدين عن الأغلال التي كانت مضروبة من حولنا، والقيود التي كانت تتعثر بها خطانا؟

وترن في أذني أصداء من الوطن. . أصداء أغنيات الفرح في ذكرى الجلاء، وتلمع في خيالي أضواء. . أضواء من هذه الأنوار التي أرسلت في كل مكان، وتنساب البسمات التي كانت ترتسم على كل شفة فتمر من أمامي في استعراض مرح رواف ثم تضيع الأصداء، وتخبو الأضواء، وتذبل البسمات على الشفاه، وأعود لأتساءل ماذا استطعنا أن نفعل من أجل مستقبلنا؟

وتحاول القناعة - والقناعة كنز لا يفنى - أن تردني إلى شيء من الصبر ومن التمعل. . تحاول أن تفرض على منطق هؤلاء الذين يبررون كل قصور، ويعتذرون عن كل فتور، ويجدون السبيل إلى أن يتهربوا من أثقال الأمانة التي ألقيت على عاتقهم. . ولكني أنفر منها. . فقد استطال الزمن، وامتدت السنوات، وحن لا نزال قريبين أشد ما يكون القرب من النقطة التي بدأنا منها، كأن لم تتزحزح.

وأكاد أحسب أن ذلك طبيعي في حياة شعب لم يستطع حتى اليوم أن يبلور نظرته إلى الحياة. . إن هذه النظرة لا تزال بعيدة عن أن تكون واضحة من نحو أو صحيحة من نحو آخر. . إننا نعيش في جو من الضباب، وجو من الخمول. . وحين يقدر لها أن تبدو، تبدو عند المثقفين نسخا لما تضطرب به المجتمعات الغربية ولما تمتحن به. وتبدو عند بعض آخر خلاصة ملفقة لما كان يضطرب به الناس منذ حين.

ص: 47

وما لم يكن هنالك نظرة واضحة إلى الحياة تتركز في أذهان الناس جميعا - على تفاوت في مقدار التركز - نظرة سليمة نقية تصدر عنها أعمالنا، وينسجم معها سلوكنا. ما لم يكن لنا هذه النظرة التي تستطيع أن تفجر لنا الماء الذي نرتوي منه، وتفيء علينا الظل الذي نستظل به أو ترسم لنا آفاقنا البعيدة فإن هذا الشعب الذي يعيش على ذكريات الجلاء وأفراحه، سيظل يعيش هذه الحياة التي تبرق فيها ساعة واحدة من السرور في محيط من الحزن. ساعة واحدة من النور في أفق مظلم. يوم واحد من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما كلها أعراض للمرض والعجز والكسل.

لم نملك بعد واقعنا الذي نحياه، هذه النظرة السليمة إلى الحياة. بل نحن لم نحاول أن نملكها، ولا نزال ننتظر أن تهبط علينا من السماء، أو تنبع بين أيدينا من جوف الأرض، أو تخترق علينا هذا الجدار من هنا، أو ذاك الجدار من هناك. لا يزال الذين يفكرون أحد اثنين - وكدت أقول أحد رجلين لولا هذا الضجيج الذي يتساقط حولي فلا أدري أهو نغم منسق يعرف عم يصدر عنه وماذا يبغي، أم هو ثرثرة وعبث نفسي - واحد يفكر في عقول الذين ملكوا عليه عقله من هنا، من أقرب عصور التاريخ على بعد ما بينهم وبينه في المكان. ورجل يفكر في عقول الذين ورثوا عقله من هناك ومن أبعد عصور التاريخ على بعد ما بينه وبينهم في الزمان. بل لا يزال هؤلاء جميعا يضلون، وقد يختصمون في هذا الضلال وبين أيديهم هذه الأمانة التي استودعها الله نفوسهم: أمانة الحياة الكريمة الحرة التي يجب أن تحقق وجودها الحر الكريم.

يجب أن نخرج من هذا التململ الذي نعيش في وطأته الثقيلة. وليس هناك شيء آخر يكفل ذلك المجتمع العربي إلا أن يصحح نظرته إلى الحياة: نظرته المادية والمعنوية. إن هذه الحياة التي ألقيت بين أيدينا ليست وديعة للحفاظ ولكنها وديعة للاستثمار، ومادة للعمل وأفقاً للتفكير وسلماً لا يراد منه أن نتأمله ونصعّد النظر إلى درجاته العليا أو درجاته الدنيا، وإنما يراد منه أن نصطنعه، أن نرقى درجاته وأن نسمو بها لأننا كلما استطعنا السمو كلما انفرجت لنا المطلات الواسعة والآفاق البعيدة.

* * *

هذه الحياة إذاً ليست رصيداً للحفظ والتسليم ولكنها للتمرس بها. وهي كفيلة أن تبيح للذين

ص: 48

يتمرسون بها. للذين يعانوها بكل ما في أعماقهم من قوة وما في أذهانهم من شوق ومطامح، كفيلة أن تبيح لهم خيراً كثيراً أن هم استطاعوا أن يتبينوا فيها وجهيها: وجهها المادي ووجها المعنوي.

إن خطأ نظرتنا إلى الحياة في الشرق العربي هذه النظرة التي ت \ تسرف في المعنوية فتطير على الأجنحة، وتحلق فوق السحاب وتعيش في هالات من الغموض أو من الإشراق وفق ما يتاح لها. ومن أجل هذا الإسراف تتسرب في هذا الشرق العربي نظرات أخرى لا تسرف في الجانب المعنوي ولا تلزم القصد فيه، ولكنها تسرف في جانب مادي مناقض، إنها تريد أن تقيم حياتها وفاق هذا الواقع القريب الذي يلفها، ومن أجل ها الواقع، وعلى نية إصلاحه تحاول أن تميت كل شيء آخر، التسامي والتطلع وارتياد آفاق الروح تحاول أن تطمس في الحياة وجهها المشرق الآخر.

* * *

في هاتين النظرتين إلى الحياة يوشك الشرق العربي أن يضل طريقه إلى الحياة يوشك أن يضلله هؤلاء وأولئك إن لم تأخذ بيده فكرة نيرة تعرف كيف توازن بين ما تحمل باليمين وما تحمل بالشمال. وتدرك كيف تمد يداً إلى الأرض ويداً إلى السماء وتستطيع أن ترعى في الحياة وجهيها الذين لا يستطيع أن تستغني عنها: وجهها الذي يعفره التراب والدخان والعمل المبارك المثمر ووجهها الذي يغمره الإشراق والنور وسبحة الروح الواسعة.

ومن العبث أن نقدر النجاح إن نحن لم نصحح كذلك نظرتنا إلى الحياة، وليس هذا التصحيح ارتجالاً ولا خيالاً، ولكنه استمداد من (الواقع) نفسه، فهذا (الواقع) يعلمنا أن وراءه جواً آخر يتوجه، وهذه (الضرورة) تلفتنا إلى أن في أعماقها أفقاً تسمو إليه، وكل محاولة أخرى يقبل عليها الشباب العربي لن تكون إلا تجربة ستنتهي حتماً إلى التعديل وليس من مصلحة الشباب العربي أن يفني حياته في التجارب، لأن هذه التجربة نفسها ليست مرحلة ضرورية في طريق الحياة. بل أن كل محاولة أخرى ليست إلا رفرفة غير منتظمة. إن للحياة جناحيها ولن تستطيع أن تحقق غايتها إن هي لم توازن بين هذين الجناحين، فيكمل كل منها حركة الآخر.

* * *

ص: 49

ومن هنا كانت عبقرية الإسلام حين وجه العرب إلى الحياة، إنه فتح أعينهم على الواقع ودعاهم أن ينظروا في كل ما حولهم نظرة قائمة على التدبر والتفكر. . إنه دلهم على آفاق النفس وآفاق العالم، واتجه بهم في هاتين الناحيتين التي تملآن على الإنسان دربه منذ أوجده الله على ظهر الأرض. إنه لم يعلق أبصارهم في السماء ولم ينكس هذه الأبصار إلى الأرض. . لم يعودهم إطراقة الخضوع إلى الأرض، ولا تطلع الحبيس إلى السماء. ولكنه مزج بين التأمل في الأعماق والتأمل في الآفاق. . وأخذ بيدهم إلى محاربة الطبيعة ولا للخضوع الأعمى لها بل إلى التجارب معها وتسخيرها، لا إلى الالتجاء السلبي إليها بل إلى التزود الإيجابي منها.

فإذا كان للشرق العربي اليوم من سبيل إلى أن يصحح نظرته إلى الحياة فهو سيجد في عبقرية النظرة الإسلامية ومرونتها كثيراً من الخير. . . ولن ينفعه أن يعمى عنها أو يتجاهلها لا لأنه حين ذاك يعمى عن الحق فقط، بل لأنه يعمى عن ثروة كبرى في تاريخ الإنسانية وفي مستقبلها أيضاً، ومن أعجب العجب أنها هي ثروته التي يضل الطريق إليها.

* * *

والأساتذة المعلمون ينهضون بأكبر العبء في هذه المرحلة من مراحل التاريخ العربي. . . إنهم لا يعلمون القراءة والكتابة فذلك أهون الأمور. . . ولكنهم يحاولون أن يخلقوا جيلاً صحيح النظرة إلى الحياة. . . وأحسب إنهم مضطرون حتماً أن لا يلتمسوا هذه النظرة بعيداً: إنها قريبة منهم.

وحين تستوي لنا هذه النظرة الأصلية في جيل جديد فسيكون من السهل السير أن تلتقي في الفروع وقد يكون من الخير الكثير أن نختلف فيها. أعني أن يصدر هذا الجيل عن نبعة واحدة وأن ينسرح منها بعد في كل قبلة.

القاهرة // شكري الفيصل

ص: 50