المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌‌ ‌الغرفة المغلقة للأستاذ محمد روحي فيصل كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون، - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌ ‌‌ ‌الغرفة المغلقة للأستاذ محمد روحي فيصل كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون،

‌‌

‌الغرفة المغلقة

للأستاذ محمد روحي فيصل

كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون، ولكني لا أذكر أني وجدتها مفتحة الأبواب أو دخلت إليها في نهار أو ليل على طول ما لبثنا معا متجاورين متصلين، فقد امتد التعارف بيننا - وأكاد أقول: صداقتنا - سنتين وبعض الشهور.

كم مرة رأيتها تفتح باب غرفتي بنفسها، وتطل علي بعينيها الضاحكتين وثوبها الأزرق، فتلقي التحية أو تسأل عن الحال أو تصلح من شؤون سريري أو تنسق كتب طاولتي، وقد تذكرني بأن الشهر الجديد قد هل، ولابد لها عما قريب أن تدفع ما عليها إلى صاحب البنسيون، فأرحب بها وأدخل مع في حد

الغرفة المغلقة

للأستاذ محمد روحي فيصل

كانت غرفتها تجاور غرفتي في البنسيون، ولكني لا أذكر أني وجدتها مفتحة الأبواب أو دخلت إليها في نهار أو ليل على طول ما لبثنا معا متجاورين متصلين، فقد امتد التعارف بيننا - وأكاد أقول: صداقتنا - سنتين وبعض الشهور.

كم مرة رأيتها تفتح باب غرفتي بنفسها، وتطل علي بعينيها الضاحكتين وثوبها الأزرق، فتلقي التحية أو تسأل عن الحال أو تصلح من شؤون سريري أو تنسق كتب طاولتي، وقد تذكرني بأن الشهر الجديد قد هل، ولابد لها عما قريب أن تدفع ما عليها إلى صاحب البنسيون، فأرحب بها وأدخل مع في حديث قصير أو طويل، سخيف أو غير سخيف، ولكنه محبب إلى نفسي، حلو الوقع على قلبي، ثم أمنحها أجرة الغرفة فتنطلق من عندي شاكرة متهللة، وتقعد وحدها في البهو تداعب كلبها الصغير أو تغزل حاجة لها من قطن أو صوف. فإذا لبست ثيابي وانطلقت أنا بدوري إلى البهو، وجدتها مضطربة ناشطة مقيمها في مكانها، فأما غرفتها فمحكمة الإغلاق، والله وحده أدرى ما بها من أشياء، وما عرض لها من أحداث، وما دخل إليها من ناس!

وربما جئت إلى بيت في ساعة متأخرة من الليل، فألقى غرفتها السرية مضاءة بالكهرباء على أسطع ما تكون الأنوار، والهدوء الصامت يلف أركانها وجنباتها، وصاحبتها جالسة إلى بعض نوافذها على الشارع العام تدخن سيجارة في سهوم طويل، وتتفحص ببصرها الحاد من يغدو ويروح على ندرة المارين آنذاك. فأسلم عليها وتسلم علي ثم أدخل غرفتي العريانة، وأستلقي على فراشي البارد. . . وما أكاد ألتمس النوم حتى أجدني أرسم في الفضاء المظلم وبالخط العريض ألف علامة استفهام وتعجب!. .

وما زايلني قط شبح الغرفة ذات الأسرار. لقد ألفت هذا الشبح على الزمان، وربما أحببته في بعض الأحيان، وقد يكون أغراني بسره وشاقني بغموضه، ولكني كنت أبدأ معه في شك من حقيقته، وخوف من ظله، وحرص على كشفه.

ولطالما راودتني نفسي أن أركل برجلي باب الغرفة المغلقة فلعلي أطلع على مواقع الأقدام فيها، وعلى ما يتراقص من ذكريات في حواشيها، ثم لا ألبت أن أرعوى وأثوب إلى الهدي

ص: 57

وأقول لنفسي: ليس هذا يا نفس سبيلاً رشداً ولا هو بمأمون العواقب.

ودخل علي جورج ذات مساء، وهو طالب من تشيكوسلوفاكيا ونزيل البنسيون نفسه منذ نحو شهرين، فأخذنا بأطراف الحديث ثم قص علي أنه أفاق من نومه في يومه ذاك مع أول الفجر فإذا هو يسمع صوتا خافتا دقياً هادئاً كأنه صوت باب الدار يفتحه إنسان من داخل ثم يغلقه وينطلق. وسألني ماذا أرى فيما سمع، فقلت له إنما تلك بقية رؤى علقت بين جفنه ونفسه، ولهذا أشباه فيما يحدث لي أنا بالذات!. . .

وحدث أني لقيت في الغداة صاحبتي وهي في مكانها ذاك من البهو تغزل حاجتها وإلى جوارها كلبها الذي لا يفارقها، فقلت لها إني جالب بعد ساعة فروجين وشيئا من سمن وأرز وبعضا من الخضار والحشائش والليمون من أجل التوابل ثم رجوتها أن تتلطف فتصنع لي من ذلك كله مائدة شهية للغداء نجلس إليها في الظهيرة مع صديقنا جورج، فإن اليوم يوم وقفة، وغداً عطلة العيد الأضحى، ولا بأس أن تكون هي لي في غربتي بمثابة الأهل، يوم كان لي أهل، أعني يوم كان لي أب وأخوة، وليتهم ما كانوا. . . يرحم الله الأحياء منهم دون الأموات!. . .

وجلسنا ثلاثتنا إلى طاولة لم يزنها أول الأمر سوى اللحم الطري الذي احمر بعض الشيء، ثم لم تلبث أن امتلأت على مهل بصحاف الطعام الساخن والمقبلات وأشياء أخرى يسمونها منعشات. . . وما كنت أمد يدي إلى زجاجة من تلك الزجاجات المنعشات فأصب منها إلى النصف من كأسي، وأملأ بالماء النصف الآخر، لأني ما كرهت في حياتي شيئا مثلما كرهت العرق، هذا السائل الثقيل الغليظ الذي ما يكاد الشارب يدفع بعضه في حلقه حتى يدفع وراءه لقمة من طعام أو جرعة من حوامض أو حفنة من موالح، كأنما يستر أو يمحو بذلك مذاق ما عب من شراب حاد بغيض.

وجيء لي أنا بنرجيلة، وهي عندي ألطف كأس وأحلى شراب، فجعلت أعب من دخانها، وألهو بكركرتها، واستمتع بمنظرها. وصاحباي يشربان تارة ويأكلان معي تارة أخرى. ونلغو ثلاثتنا مع ذلك بسلاسل من الكلام لا تنقطع ولا تفيد وإنما تتصل وتلذ على ضحك وابتسامات وغمزات ولمزات، ينطلق أكثره في الجو، ويمتد أثره إلى البعيد، ولا ندري من بواعثه ولا من نتائجه شيئا، فإنما المجلس مجلس شراب، والاجتماع على أنس وعلى لذة،

ص: 58

ونحن لنا الدار كلها، والخلوة تامة عميقة، ولا عذول ولا رقيب. وهذه نرجيلتي قدامي، والدخان من فوقها أعمدة وحلقات، وصاحبتي العجيبة المغلقة قد انبسطت أساريرها، واحمرت عيناها، وأشرق خداها، ومشى لسانها، وعلا ضحكها، ثم كثر دوران يديها بين الصحون، كما كثر دوران رأسها من العرق. أفتراها، وهي في تلك النشوة، تعي ما تعمل على الضبط، وتعرف أين هي من نفسها ومني ومن الوجود؟

وناولتها سيجارة، فما أسرع ما التهمتها، حتى لكأن نارا في عروقها تحاول أن تطفئها بالدخان فما تستطيع، وكأن الجيشان الملتهب قد جاوز مقدور طاقتها فطلبت سيجارة أخرى. ونظرت فإذا الليل يتساقط على الأشياء والأحياء رويداً رويداً فقمت إلى الكهرباء فأضأتها. وسطع بسطوعها الأنس، وتجددت اللذة، وأترعت الكؤوس، كأنما بدأ الاجتماع من أوله. هنالك شرعت صاحبتي في شيء من الغناء الذي يطربها ولا يكاد يصل إلى آذاننا، ولكنها توقفت فجأة إذ مر على بالها خاطر، فقانت إلى غرفتها التي ما رأيتها قط إلا محكمة الإغلاق، ففتحتها على عجل وعادت منها بصندوق أسود ما كادت أناملها تديره حتى شرع هو في غناء مطرب جميل.

ولاحظت من ذهابها وإيابها أنها كانت لا تجري على خط مستقيم، وأنها كانت تتعتع في مشيتها، فعرفت أن السكر لوى رأسها وعقد رجليها. وما جلست على كرسيها حتى أخذت تستجيب لغناء الحاكي بغناء من عندها مردد في صوت بسيط. والغناء إذا التقى في الرأس مع العرق يزيد في السكر حتى يصرع. لقد بدا عليها شيء من الثقل والإعياء، فتداخل كلامها، واختلطت نظراتها. وفيما هي تغني وتشرب وتأكل وتدخن، رأيتها تلتفت بسرعة إلى وراء فتلمح، في بطء باب الغرفة مفتوحا على مصراعيه، وهي التي حرصت زماناً طويلاً على أن يبقى موصداً. . .

كيف السبيل إلى إغلاقه؟ لن تستطيع هي أن تصنع شيئا من ذلك إلا إذا وجدت معينا تتكئ عليه، فكنت هذا المعين، كما كان جورج ذلك الرقيب. . . وفي نفسي ونفسه معان مشتركة. . . ومشيت معها، ولحق بنا صاحبنا، حتى إذا كنا ثلاثتنا على الباب المفتوح، رأيتني أدخل الغرفة واسحبها إلى جوفها، فأمسكت وترددت وكادت أن ترفض لولا أني أنرت الكهرباء فتطامنت وأذعنت، بعد أن وجدت حرصها على الكتمان قد طار كله في

ص: 59

غفلة الوعي. . .

ماذا؟ هل ترى عيناي؟ ماذا رأيت؟ سريران متجاوران تشعث نظامهما، فالمخدة مطروحة، واللحاف مجتمع، والشرشف مقلوب، وكل شيء في السريرين يدل على أن الذي استلقى عليهما أو نام فيهما لم يكن إنسانا في بعض اللحظات، وإنما كان شيطانا اضطرب وجاهد في سبيل جسده. . . جهاداً طويلاً عنيفاً. وفي الغرفة هنا وهناك، ثياب رجل، وصورة له أو لغيره معلقة على الجدار، وزجاجات فارغة وأشياء أخرى مريبة جعلتني التفت إلى صاحبتي فإذا هي حيرى جاحظة العينين مشدوهة الوجه. . .

ورأيت أن ألملم الموقف، فأبديت إعجابي في الغرفة المذخورة بالذكريات. . . المنسقة كأحسن ما تنسق الغرف. . . وكادت صاحبتي لاضطرابها أن تشكر وتجيب لولا أننا خرجنا ثلاثتنا إلى البهو نحيي فيه ما جمد من حياة المائدة، ونصل ما انقطع من حكاية اللذة.

وقمت بعد قليل إلى الحاكي فأدرت عليه أسطوانة (لامانتو جينانو) يغنيها جوي لوس مع فرقته الموسيقية. لشد ما طربت صاحبتي لهذه الأغنية التصويرية الرائعة، حتى لقد كانت الآهات تنطلق من حنجرتها صاخبة مدوية، وحتى لقد نهضت من فورها تريد أن ترقص على إيقاعها. وطلبت إلي أن أكون شريكها في الرقص، فأعلنت لها جهلي بهذا الفن، واعتذرت فرفضت، ثم ترددت فألحت، ثم قبلت ففرحت. ورأيتني على جهلي أحتضنها، ويدي خلفها، وصدري إلى صدرها، وفمي إلى وجهها. ونظرت فإذا جورج يطوق هو الآخر. . . كرسيا كان يجلس عليه منذ هنيهة!

وجلت مع صاحبتي السكرى بضع جولات أحسست معها أن دنيانا التي في البهو، بطاولتها وجدرانها وكهربائها، تدور كلها معنا تشاركنا في اللذة والمرح واللهو.

ويأبى جهلي بالرقص إلا أن يدل على نفسه، لأني كلما خطوت خطوة ارتطمت بقدمي مع قدميها. وما استشرفت الأغنية الجميلة على النهاية حتى تراخت يداي عن صاحبتي، وتباعد صدرانا. ثم تذكرت السريرين في غرفتها فعدت معها إلى مكاني على نجوى خافية وأمل يشيع. . .

محمد روحي فيصل

ص: 60