الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيهما على حق
الآنسة فلك الطرزي
عن فكتور هوجو بتصرف
لم يستطع الأسقف ميربيل (رجل الدين الذي تحدث عنه هوغو في مطلع البؤساء) لم يستطع التخلص من رغبة كانت ملحة فيه وعنيفة، رغم ما بذله من جهد الإرادة في سبيل إبعادها. فقد كانت نفسه تحدثه أبدا بزيارة هذا الشيخ الثوري الذي لجأ إلى ناحية منعزلة من أسقفيته وذلك بعد سقوط نابليون في واترلو وعودة الملكية إلى فرنسة، وبعد أن تشتت الثوريون في أنحاء البلاد. فهذا الأسقف الذي لم يتخلل حياته قلق ولا اضطراب مذ هجر فجأة حياة اللهو والمجون إلى حياة التقى والورع، وهذا القديس الذي تعود أن يحل ما تعرض له الحياة من مشاكلها ببساطة لا تعقيد فيها، قد أخذت نفسه في هذه الآونة تقلق وتضطرب وتتنازعها شتى المتناقضات. هي مقسمة بين نزعتين: فنزعة تتجلى فيها كنفس إنسان تواضع على ما تواضع عليه الآخرون من احترام الوضع الراهن، والخضوع للتقاليد فيندفع إلى ما يندفعون إليه من تصديق مختلف الأقوال والشائعات التي يثيرها عن قصد وتعمد من يبتغي تأمين مصالحه بتضليل الرأي العام وتشويشه. ونزعة ثانية تتجلى في شخصيته الأخرى المكتسبة، التي تفرض عليه ما تفرضه عادة على رجل الدين من واجب المساواة بين أفراد الرعية: إذ عليه هداية الضالين منها إلى السبيل السوي، كما عليه أيضاً نهيهم عن المنكرات، وكثيراً ما كانت هذه النزعة تثور في نفسه وتضطرب، فتحول نظرة الأسقف نحو الأفق، حيث يأخذ بتأمل شيء قد توارى خلف الشجر والأدغال، فيهتف حين ذاك صوت في أعماقه: هناك نفس تتخبط في ظلمة الوحدة ووحشتها لها عليك حق المؤانسة، ولكن سرعان ما كانت النزعة الأولى تكبت هذه وتنفره منها وتجعله يندفع بعواطفه مع أولئك الذين يرمون هذا الثوري بأقسى اللوم والشتائم: لقد نبذ الناس هذا الثوري العجوز وتجنبوه، فنبذه أيضاً وتجنبه. وإن هم تحدثوا عنه فبازدراء واحتقار أفلا يلمس الثورة والثورة عن ظنهم إلحاد وتمرد وقضاء على الملكية؟
وكفى بالثورة إثماً أنها حطمت النظام الذي يستمد قوته من الله وشرائعه من السماء، وحكمت بالموت على من يمثله. إنه مجرم وملحد كما كان زملاءه الذين شردوا وأقصوا
عن البلاد مجرمين أيضاً وملحدين.
وعلى هذا النمط كانت تدور أحاديث الناس في أسقفية ميربيل حول هذا العجوز الذي اعتزلهم كما يعتزل النسر بقية الحشرات ويكمن في وكره، فلا جار ولا مار ولا زائر يقصد هذا الكوخ المرتفع الشامخ الذي انفرد عن بقية الدنيا، حتى الطريق المؤدية إليه فقد اختفت معالمها وأتى على كل أثر من آثارها أكداس الحشيش التي تكاثفت فوق دروبها.
لكنه في ذات يوم انتشرت في البلد شائعة مفادها أن الثوري اللعين قد أرسل إليه خادمه في طلب طبيب، فما كان النبأ يبلغ مسامع الأسقف ويتحققه، حتى اعتزم زيارة المريض. فإذا بلغ مسكنه بعد عسر ومشقة، نظر أمامه فرأى كوخاً صغيراً قامت من حوله بواسق الشجر وجللت جدرانه بالعرائش، التي امتدت أوراقها وانبسطت على طوله وعرضه، وإذا تقدم خطوات من الكوخ رأى عجوزاً بدت على سيمائه هيبة الشيخوخة ووقارها، جالساً أمام المدخل يبتسم للشمس التي كانت أشعتها تتلاعب بشعراته البيض وتبعثرها في الهواء، فحانت من العجوز التفاتة إذ سمع وقع خطوات تخفق في القرب منه، وإذ تبين أن القادم إنسان بشري ارتسمت على وجهه علائم تلك الدهشة التي تدخرها النفس حيناً طويلاً ثم تطلقها من محبسها عن أول مناسبة.
فخاطب رجل الثورة رجل الدين قائلاً: إنها المرة الأولى التي أرى فيها بشرياً يطأ منزلي منذ لجأت إلى هذا المكان. فمن تكون يا سيدي؟ أجابه القسيس: أنا الأسقف ميربيل لقد سمعت بهذا الاسم، أو لست أنت من يدعى سيدنا بيانفنو؟ هو ذاك يا سيدي فبسط الثوري يده للأسقف محيياً. غير أن هذا الأخير تجاهل اليد الممتدة، واقتصر على الجلوس بالقرب من الشيخ وابتدره بقوله: يسرني أن يكذب الواقع ما سمعته منذ حين، فالعافية ليست بعيدة منك، فقابل الشيخ ملاحظة الأسقف بصمت في بادئ الأمر، ثم قال: إن معرفتي اليسيرة في الطب تجعلني أقدر الساعة التي تدنو من نهايتها حياة المرء. فلا ريب عندي أن لحظاتي أصبحت معدودة، فالبرد لم يكن بالأمس قد بلغ بعد قدمي، أم اليوم فقد وصل حد الركبتين، والآن أشعر به أنه يتصاعد إلى جنبي وسوف يبلغ القلب عما قريب. على أنطك تستطيع أن تحدثني بما شئت من الأحاديث فإن هذا الأمر لا يزعجني، فقال الأسقف بلهجة التهكم والتأنيب معاً: من واجبي تهنئتك على فعلة لم ترتكبها، فأنت على الأقل ما كنت من القائلين
بإعدام الملك فتجاهل الثوري ما تنطوي عليه كلمة على الأقل هذه من معنى لاذع وأجابه بلهجة الجد والحزم وقد غابت البسمة عن وجهه: لا تهنئني فإن أنا أيدت شيئاً أو صوتت لشيء فلنهاية الطاغية.
ماذا تعني بهذا القول؟ أعني به أن في إنسان طاغية يدعى جهلاً، وقد ناديت بسحق هذه الطاغية لأن السلطة بشكلها الباطل ليست هي إلا وليدة الملكية المنبعثة منه، بينما السلطة يشكلها الحق تسمى عاماً، لا يجب أن يحكم الإنسان إلا العلم فعقب الأسقف والضمير أيضاً. لا خلاف في ذلك لأن الضمير ما هو إلا العلم الفطري الكامن فينا، والذي يتخذ الاتجاهات التي يوجه إليها. أخذ الأسقف يصغي إلى حديث رجل الثورة باهتمام مبعثه الدهشة، فإن لغة هذا الحديث كانت غريبة عليه وجديدة أيضاً على أن الشيخ استمر في كلامه يقول: فإن أنا ناديت بسحق الطاغية وإن أنا ثرت على النظام القائم على الظلم والطغيان، وإن أنا ناديت بتحطيم أصنام محنطة يرغم الشعب على عبادتها ولو هي تستحقه، فمعنى ذلك أنني ناديت تحرير الرجل من العبودية وإنقاذ المرأة من التدهور والبغاء والطفل من التشرد معنى ذلك أنني ناديت بالاتحاد والحرية والإخاء، وساهمت في تركيز قواعد العهد الجديد، معنى ذلك أنني قمت مع من قام على تحطيم ما كان يسود حياتنا من فساد الأوهام والعقائد، لقد حطمنا العالم القديم، بؤرة البؤس والظلم والأثرة لنشيد على أنقاضه عالماً سوف نبزغ من آفاقه أشعة فجر جديد، فعلق الأسقف: لقد حطمتم، وحطمتم! وقد يصدر عن التحطيم فائدة ما، لكي أتحدى كل تحطيم يداخله الغضب والعنف فأجابه الشيخ بحدة: ولكن للحق غضبته يا سيدي الأسقف، وليست غضبة الحق إلا عنصر هام من عناصر التطور، ومهما اختلف رأي الناس في الثورة الفرنسية فإنها أعظم وأجرأ خطوة خطتها الإنسانية منذ فجر التاريخ، صحيح أن هذه الثورة قد حطمت وهدمت وأراقت دماء لكنها أنارت وأطلقت جميع الإمكانيات الاجتماعية المغمورة. الإنسانية يا سيدي قد قدست الثورة الفرنسية.
فغمغم الأسقف: و93 فانتصب الثوري بجلال مؤثر فوق كرسيه وصاح على قد ما يستطيع محتضر أن يصيح: 93 كنت أرتقب ذكر هذه الكلمة منك وقد ذكرتها ليست ثورة ال 93 إلا انفجار السحب التي تراكمت طبقاتها فوق بعضها البعض خلال خمسة عشر قرناً من الزمن. شعر الأسقف كأن رعشة تنتابه فتهتز لها أركانه، غير أنه تماسك وأجاب: القاضي
يقضي في أمور الناس باسم العدل والقسيس باسم الرحمة التي هي أسمى وأرفع، كان على الصاعقة أن لا تخطئ المرمى، ثم ثبت نظره على الثوري وقال بلهجة المقتنع: ولويس السابع عشر؟ أجابه الثوري على الفور: لننظر ملياً في هذه القضية، فمن تبكي أنت؟ أتبكي الطفل البريء؟ إذاً أبكيه معك، أتبكي ابن الملك؟ فإن هذا الأمر يحتاج إلى تفكير.
لا فرق عندي بين كارتوش الصغير الذي أعدم شنقاً بعد التمثيل والتشنيع في ساحة كرييف لكون كارتوش الثوري أخوه، وبين حفيد لويس الخامس عشر، وهو أيضاً طفل بريء، وما أجري فيه من تعذيب في برج التنبل لكونه حفيد لويس الخامس عشر. فقال الأسقف: لا أحب تقرب الأسماء هذا فأجاب الشيخ: كارتوش؟ لويس السابع عشر؟ لمن تتحيز؟ ثم صمت للحظة قال بعدها بحزن: آه يا سيدي الأسقف أنت لا تحب الحق مع أن يسوع كان يحبه إذ لم يفرق يوماً بين طفل وطفل، إن براءة الطفولة في غنى عن الجلالة والفخامة فهي تحمل تاجها في ذاتها لأنها جليلة مزرية كانت أم مرصعة، فتمتم الأسقف: هذا صحيح غير أن الثوري استمر في متابعة كلامه قائلاً: أنا مصر على أن نتفق! فأنا لا أخالفك إن نحن بكينا جميع الأبرياء والشهداء سواء كانوا متحدرين من الأعالي أم منبعثين من القادة، أنا أبكي معك أبناء الملوك على أن تبكي معي أبناء الشعب، وإذا كان لا بد من رجحان كفة الميزان إلى ناحية دون ناحية، فليكن هذا من ناحية الشعب فإن عهده بالآلام جد بعيد. قال الأسقف وقد أدرك أن جميع حججه إلى انهيار يجرب سهمه الأخير:
إن هذه الساعة هي ساعة الله، أفلا ترى معي أنه من المؤسف أن نكون قد اجتمعنا على ير جدوى؟ فتح رجل الثورة عينيه، فبدا وجهه وقد ارتسمت عليه تباشير الموت، محاطاً بهالة من الجلال والوقار وقال:
يا سيدي الأسقف! لقد قضيت حياتي في التأمل والدرس والنضال وكنت قد ناهزت الستين من عمري عندما لبيت داعي الوطن وانضممت إلى صفوف العاملين فيه. كان هناك طغيان فعملت على دك حصونه. وكانت فوضى فساهمت في محاربتها وكانت هناك حقوق مغبونة فطالبت بها. صحيح أنني مزقت ستائر المذبح لكن لأضمد بها جراحات الوطن، لقد قمت بواجبي قدر استطاعتي حتى أعدائي حافظت عليهم فقد أنقذت في الفلاندر ديراً في ثورة ال93. لكن ما أصابني بعد ذلك إلا الملاحقة والطرد واللعنة. فأنا أعلم منذ سنين، منذ
اشتعل بالبياض رأسي أن معظم الناس يخولون لأنفسهم حق تحقيري، وإذا بدو لهم وجهاً من تلك الوجوه المقضي عليها. غير أنني احتملت عزلتي هذه التي أحاطني بها كرهكم دون أن أضمر لكم شراً أو حقداً، والآن أسألك وأنا على أبواب الموت وقد بلغت الثمانين من عمري هللا تنبئني عن غيتك في المجيء إلي؟ فأجابه الأسقف: بركتك ثم انحنى جاثياً على ركبتيه.
فلك طرزي