المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لنثقب الكرة الأرضية - مجلة «المعرفة» السورية - جـ ٦

[عادل العوا]

الفصل: ‌لنثقب الكرة الأرضية

‌لنثقب الكرة الأرضية

للدكتور محمد علي صبري

الخبير الفني الجيولوجي في وزارة الاقتصاد الوطني

اقترح الفلكي الفرنسي الطيب الذكر كاميل فلاماريون بعد أن هزم الزلزال مدينتي ميسينا وريجو في إيطاليا سنة 1908 أن يسعى البشر إلى خرق ثقب في الكرة الأرضية بصورة يقوم عليها بئر عميق واسع يستفيد منه الإنسان في دراساته وعملياته. فماذا يوجد في قشرة الأرض وتحتها؟ فلماذا لا يقوم الإنسان بأعمال مباشرة عوضاً عن النظريات ويرى بأم عينه ويلمس في يديه؟ ثم كتب مقالاً قيماً في هذا الموضوع نقتطف منه ما يلي:

يجهل سكان العالم الأرضي كوكبهم ولا يعرفون عنه إلا الشيء القليل. فقد اكتشفوه من الناحية الجغرافية وطافوا حول ممتلكاته البرية والبحرية. لقد اكتشفوه من الناحية الفلكية وحددوا موضوعه بين عالم الفراغات السماوية وحددوا شكله ووزنه ومدته، لكنهم جهلوا تماماً ما يتعلق بتركيب جسمه وماهيته، وعرضاً تسربوا إليه تسرباً خفيفاً بصورة غير مباشرة وتدخلوا جزئياً في جوفه.

فالعمال الذين يخرقون الجبال ليسمحوا للقطارات بعبور هذه الكتل الأرضية لا يقومون باجتياز تجعدات القشرة الأرضية ولا تنخفض الألغام التي تقام في مناجم الفحم والمعادن مهما كان انخفاضها أكثر من كيلومترين تحت سطح البحر أو أقل. وأكبر فتحة توصل إليها البشر على الكرة الأرضية أقيمت في سنة 1893 إلى سنة 1902 في مدينة باروشوفيز في سيليزيا العليا وفاقت تلك الفتحة التي أقيمت في شلاديباخ قرب مير سبورغ في ساسونيا البروسية 225متر. فكان عمق الأولى 2003 والثانية 1748 متر فقط. وكما يرى فإن هذه الأنقاب ليست إلا خدشاً بسيطاً على بشرة كرتنا الأرضية.

ترى هل الكرة الأرضية مائعة أم صلبة؟ لم يمض من الوقت إلا أقله على اعتراف العلماء بوجود كتلة مائعة ملتهبة تحيط بها طبقة نحيفة صلبة. فالحرارة التي يعثر عليها الناقبون في الأنفاق المعدنية ووجود مراكز بركانية وسيل الحمم على سطح الأرض تحملنا على الاعتقاد بأن كل ما يوجد تحت عمق80 أو100 كيلومتراً هو مائع ومزاب، غير أن الجيولوجيا الحديثة ليست مستعدة على الاعتراف بأن مصير البشر قائم على طبقة نحيفة

ص: 52

كهذه فوق فرن من هذا النوع.

فإذا كان حقا ما يقولون من أن جوف الكرة الأرضية مائع تماما أصبح من المحتمل أن ترتفع هذه الكتلة الهائلة مرتين كل يوم تحت تأثير جاذبية القمر وأن تؤلف مدودا وجذورا هائلة تتحطم القشرة الأرضية الصلبة على أثرها يوميا كلما وقفت في وجه هذا الجذب. فقشرة لا تتجاوز سماكتها ال - 100 كيلومتر لا يمكنها أن تقاوم اصطداما عنيفاً هائلا من هذا القبيل، وإلا تحطمت أو تمزقت كلما انفجرت فقاعات الحمم المتأججة ولكانت الكرة الأرضية غير قابلة للسكن وحياتنا في غم شديد تنتظر من ساعة لأخرى انهيارها في بعض الشقوق الفجائية التي تتصدع تحت أقدامنا.

تعترف النظريات الجديدة بأن الكرة الأرضية تضارع في مجموعها قساوة الفولاذ وتتمتع في بعض الأحيان بالصلابة والمرونة. وما ذلك إلا نظرية من النظريات ربما تكون حقا أو باطلا ولذلك يجب مراقبتها والتحقق منها. وكل ما نعرفه بدقة هو أن حرارة الكرة الأرضية الباطنية تزداد بازدياد التعمق فيها. ورغما عن هذا نرى أن ازدياد الحرارة عديم الانتظام والتتابع لأن الحرارة بينما تزداد في بعض الأمكنة درجة واحدة كلما ازداد العمق33 متراً تراها تتناقص أو يكثر ازديادها في بعض الأمكنة الأخرى كالمواقع القريبة من البراكين حيث يشعر بهذا الازدياد كلما ازداد الانخفاض من10 إلى15 مترا.

لنتوقف هنيهة عند الحد ولنسمع ما كتبه عالم فرنسي آخر هو شاعر الحيوانات الصغرى هنري فابر: توجد تحت الأرض درجة حرارة عالية جداً ليست مستقلة عن حرارة الشمس. فإذا فرضنا أن درجة الحرارة ترتفع درجة واحدة كلما زاد الانخفاض30 متراً تحت الأرض يمكننا أن نتصور مبلغ ما يقع في أشد الطبقات الأرضية انخفاضا. فيجب على درجة الحرارة أن تكون على عمق 3 كيلومتراًت 100 درجة وهي النقطة التي يغلي بها الماء، وتصل هذه الدرجة إلى 700 عندما يبلغ هبوطنا 21 كيلومتراً وهي الدرجة الكافية لصهر أكبر عدد ممكن من الأجسام، وعندما يصل انخفاضنا إلى 40 كيلومتراً تكون درجة الحرارة قد وصلت إلى 1600 وهي نقطة سيلان البلاتين وهو أصعب المعادن ذوبانا. فإذا ظلت هذه النسبة محافظة على نفسها كانت درجة الحرارة في مركز الكرة الأرضية 21000 وهي درجة حرارة مخيفة جداً لا يمكن التعبير عنها مطلقاً.

ص: 53

فإذا ما أردنا أن نحل هذه المسألة العويصة علينا أن نثقب الأرض! ويتابع فلاماريون كلامه: ليست المسألة إلا عبارة عن تحقيق ما قد أقيم إلى الآن بصورة سطحية، غير مباشرة، أو بالأحرى من قبيل الصدفة. فأول ما يمكن الحصول عليه إذن هو إيجاد ينبوع دائم الحرارة يمكن استخدامه في الأوائل الصناعية وفي مراقبة درجة الحرارة الهندسية مراقبة علمية. ومن الممكن العثور على الماء الغالي وفقاً لهذه الدرجة على انخفاض3000 متراً عن سح البحر.

فما هي الغرائب الجيولوجية أو الباليونتولوجية التي يمكن الحصول عليها في استقصاء الأعماق الأرضية؟ هي مناجم الحديد والنحاس والمعادن الثمينة وعروق الذهب والبلاتين والفضة والراديوم، وكلها من المواد التي لم يشك أحد في العثور عليها. وهي مستحاثات أبعد العصور الجيولوجية التي كانت تعيش في عالم مجهول يرقد في تلك المقاطعات.

ومن الممكن حقا العثور، أثناء العمل، على منابع من المياه المعدنية الحارة كالتي تدفقت خلال فتح نفق سمبيونة سنة 1903 بدرجة حرارة تتراوح بين 48 و 53 وعلى مجار مائية تسيل تحت الأرض وعلى شلالات يمكن استخدامها للحصول على القوى الكهربائية، وعلى بحيرات واسعة تقطنها الأسماك والحيوانات البرية - البحرية العمياء كالتي عثر عليها في مغاور كارنيولا. وسيمثل فعلا أمام أعيننا المندهشة منظر جموع من الحيوانات والنباتات العجيبة، وأجسام متألقة تضارع المخلوقات التي تعيش اليوم في أعماق بحارنا المحيطية. وستضيء بمناظرها الخلابة مناظر ما تحت الأرض التي تتزين بالصواعد الهائلة والنوازل العظيمة. ومن الممكن أيضاً العثور على كهوف ومغاور ليست في الحسبان وعلى أجسام غريبة تنتشر تحت ضغوط كبيرة هائلة.

لقد ألمعنا أنه من الممكن، وفقاً للنظريات الحديثة، العثور على درجة حرارة المياه الغالية على انخفاض3 كيلومتراًت فقط عن السطح، فما هي قيمة ثلاثة كيلومتراًت بالنسبة إلى 6371 كيلومتر، التي تفصلنا عن مركز الكرة الأرضية؟ يجب علينا أن نهبط إلى أعمق منها بكثير!.

إن فكرة خرق بئر عظيمة العمق تكشف لنا عن حقائق جوف الكرة الأرضية ليست بفكرة حديثة العهد. لقد فكروا بخرق مغارة تخترق الكرة الأرضية من ناحيتيها. وكان يجب على

ص: 54

هذه المغارة الهائلة أن تسمح لنا وللسكان المتقاطرين أن ننظر إلى بعضنا بواسطة منظارات موجهة إلى النظير. ولا حاجة إلى القول من أن الانحناء فوق هذه البئر العظيمة العمق والنظر إليها مخيف جداً، ولا يظهر أن كثيراً منا يتحمل عقبات الدوخة المؤلمة الناتجة عن ذلك. ومن الممكن أيضاً أن نتساءل عن مصير جسم يتساقط في هذه الهاوية. غير أن بلوتارك قد سبقنا إلى هذا السؤال قبل أن يقوم غاليليه بتجاربه المشهورة في سقوط الأجسام وقبل أن يسن نيوتن قوانينه المعروفة بالجذب العام.

وعندها يصبح في إمكاننا أن نجيب على هذا السؤال دون تفكير عميق بأن الجسم سوف يتوقف في مركز الكرة الأرضية وهو المكان الذي يمكن للجذب أن يكون فيه عظيما. وهو جواب يناقض الحقيقة بصورة مضاعفة لأن لقوة الجذب في مركز الأرض قيمة صغرى، وبأن الجسم عندما يبلغ المركز المذكور سيتمتع بقوة كافية للوصول إلى النقطة المتقاطرة، وبعبارة أخرى في إمكانه أن يخترق قطعة من البئر مساوية إلى القطعة التي اجتازها قبلا. وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهتها النظرية نرى أن الجسم إذا أهمل لوحده في البئر كان في استطاعته الوصول إلى الفتحة المتقاطرة ثم يعود من جديد على أثر جاذبية مركز الكرة الأرضية إلى النقطة التي ذهب منها، وهكذا دواليك، قائما بحركة اهتزازية دائمة ويؤلف بذلك رقاصا فريدا في بابه. فما هي المدة الكافية لهذا السقوط العميق؟ إن مدة الرحلة إلى ما وراء الأرض تقع في 84 دقيقة أو في ساعة و24 دقيقة، وبكلمة أخرى يصل الجسم الساقط إلى مركز كوكبنا الأرضي في مدة 21 دقيقة ويبلغ نقطة التقاطر في 21 دقيقة أخرى وسيكفيه 42 دقيقة للعودة إلى مكانه الأول.

ويصل الراحل الأبدي إلى مركز البئر بسرعة 9546 متراً في الدقيقة. فإذا ما وصل إلى فتحة البئر الأخرى أثرت عليه قوانين الجذب العام فتعود القنبلة البشرية بعد ما تبلغ الفوهة المتقاطرة نحو مركز الأرض حيث تصل إلينا بنفس سرعة 9546 متراً في الدقيقة.

توضح التجربة التي تكلمنا عنها الآن ناحية العملية الخيالية وتأخذ بنا إلى تلك الحقيقة الرياضية وهي أن الارتفاعات والانخفاضات في الكرة الأرضية لا أثر لها مطلقاً. وكل ما في الأمر أننا أمام عملية نظرية إطلاقا، لأن الجسم الثقيل لا يمكنه أن يقوم مع الضغط برحلة كهذه وسيغرق في الهواء اللزج الكثيف الذي يرقد في أعماق الكرة الأرضية.

ص: 55

هذه هي كلمات الفيلسوف الفلكي كميل فلاماريون. غير أن العلوم الحديثة قد تكهنت، دون أن تقوم بخرق جوف الأرض، ببنيتها وماهيتها، وعلى كل لا تتألف أمعاء الكرة الأرضية من مواد سائلة متأججة، لأنه لو صح ذلك لكونت قوة الجذب القمرية والشمسية الهائلة، كما لاحظنا، مدوداً وجذوراً داخلية عظيمة تكفي لتحطيم القشرة الأرضية وهي سريعة العطب، وبعثرتها شذرمذر في عاصفة شديدة عامة. وحقيقي أيضاً أن الكرة الأرضية برمتها قاسية صلبة، وتزداد هذه القساوة كلما ازداد العمق شيئا فشيئا من السطح نحو مركز الأرض.

وتفكر العلوم الحديثة من جهة بأن الكرة التي تسير بنا إلى غياهب السموات اللانهائية تتكون من أربعة كرات أخرى متحدة المركز تضم الواحدة الأخرى، فالكرة المركزية هي نواة من الحديد والنيكل تفوق قساوتها خمس مرات قساوة الفولاذ وذلك على أثر الضغط الهائل الذي تقوم به الطبقات العليا. وتقوم فوق هذه النواة كرة يبلغ سمكها 1400 كيلومتراً وهي أخف من الكرة التي تحضنها. وتتبع ذلك كرة سمكها 1500 كيلومتراً تتألف على الأغلب من السيليكات، وترقد عليها كرة ثالثة يقدر عمقها بأربعين كيلومتراً تقريبا من الأحجار البازلتية اللزجة التي تشبه العجين وتغذي الحوادث البركانية. ويقوم في النهاية على الجميع غطاء رابع ارتفاعه عشرين كيلومتراً نصب عليه الإنسان خيمته، فطورا يتقهقر وطورا يتغلب على المصاعب التي تقوم بين ضآلة جسمه والتصدع الهائل الذي تقوم به الطبيعة الجبارة.

علي صبري

ص: 56