الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيصبح معلما
للأستاذ رشاد الأسطواني
لست أدري لماذا وقع اختيارك علي في توجيه هذا السؤال؟ إن ما أعرفه عنك أنك رجل قد أتيحت له الحياة الرياضية، وتستقبل نهارك مغتبطا مبتهجا، وتقضي أيامك فرحا جذلا، فكيف ترغب لابنك الشقاء والعذاب وشظف العيش ومرارة الحرمان،
وتود أن تدفع به إلى عمل مضن، لا يؤمن له حتى الكفاف؟ فاسمع أيها الصديق قصة معلم قضى عشرين سنة في مهنة التعليم ثم اختر لابنك ما يحلو!. .
إن مهنة التعليم من أجل المهن أسماها، ومركز صاحبها من أكبر وأعظم وأقدر المراكز. فهو منشئ النفوس، وباعث الحياة، وقائد الزمن، وموقظ العقول، وممهد الطرق الوعرة، ومعبد المسالك المحفوفة بالمخاطر، وهو أرفع الناس شأنا، وأعزهم مكانا، لما ينقشه على الصدور، وينفخه في الأرواح، ويخلقه في الجيل.
وهو الذي يقاتل الجهل، ويحارب الأمية، ويقضي حياته في خدمة أمته وأبناء وطنه وتقدم بلاده. وهو الذي جاهد وناضل وكافح وجاد بالنفس والنفيس، حتى كتب النصر لنا وأقصي المستعمر الغاشم عن بلادنا بدون ردة. وقد صدق بسمارك في قوله: لقد غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة. وهو الذي اعترف النبي محمد صلى الله عليه وسلم بفضله لما رأى مجلسين: أحدهما فيه قوم يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه، وفي الثاني جماعة يعلمون الناس فقال: إنما بعثت معلما ثم عدل إليهم وجلس معهم. وهو الذي شاد بذكره مارتن لوثر المصلح الألماني وجعله في مصاف القادة الروحيين إذ قال: لو أتيحت لي الفرصة في ترك وظيفة الوعظ والإرشاد، ما اخترت مهنة غير مهنة التعليم. وهو الذي طلب إليه العالم الاسرائيلي هي بن شريرا المكافأة على عمله، لأن ما يقدم إليه في الحقيقة يقدم إلى الأبناء. فلا غرابة إذن، إذا أوصى العالم السويسري المشهور أجاسيز ألا يكتب على قبره إلا كلمة واحدة، هي كلمة معلم. ولا غرابة أيضاً إذ قال المغفور له الملك فيصل الأول: لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً.
* * *
أما في سورية، فقد تعودنا حكومة وشعبا أن نحقر أمر التعليم الابتدائي، ونحقر القائمين
عليه والمتفرغين له، ونبتذلهم ونستهين بهم، وننظر إليهم كنظرتنا إلى خوجه أفندي العثمانيين، ونجعلهم يشعرون أنهم مراكز متواضعة، وأنهم من طبقة منحطة ذليلة، ونعتبر عملهم من أسهل وأيسر وأبسط الأعمال.
أيها الصديق! لم أفكر أبدا أن أكون موظفا في يوم من الأيام، لأني لا أعد الوظائف الحكومية حتى مناصبها الرفيعة غنما عظيما كما يعدها العاجزون فاخترت بادئ ذي بدء التجارة، وعملت عند أحد تجار دمشق ثلاثة أشهر لم أتعلم خلالها سوى تنظيف البلاط، ومسح الزجاج، وعرض البضائع، وترديد: هذا بخمسة وذاك بستة، وتلك بعشرة، والسعر محدود، والدين ممنوع، والعتب مرفوع، والرزق على الله. فسئمت هذا النوع من التجارة ومللته. وأخذت أبحث عن عمل آخر أكسب منه رزقي، فسدت جميع الأبواب في وجهي، إلا باب التعليم، فدخلته مكرها وبعد اجتياز مسابقة. دخلته لأتاجر في العقول والأرواح والمشاعر، دخلته لأربح نفوسا وقلوبا. ولكني لم أخلق لهذه التجارة ولم أعد إعدادا خاصا لها ولا أعرف شيئا عن خفاياها. فأخذت أخيط خيط عشواء، أحشو أذهان الطلاب بألفاظ وعبارات دون الاهتمام بمدلولاتها وبمعانيها، وأشحن أدمغتهم بقواعد جافة مجردة، وأدفعهم إلى العلم دفعا، وأكلفهم حمل ما لا طاقة لهم به، وأحملهم على إدراك ما لا تقوى عليه مداركهم من غير مراعاة لميولهم ونزعاتهم وسنهم وحالهم الصحية ومستواهم العقلي والبيئة التي يعيشون فيها، حاملا الكتاب بيميني والعصا بشمالي، مهددا بالعقاب الصارم، مرغما على إظهار الخضوع والإطاعة العمياء، داعيا إلى حفظ النظام. وهكذا أخذت أتلف العقول، وأفسد النفوس حتى ضاقت نفسي اضطرب عقلي، وأخذت أشكو من الزمن الذي رماني بهذه التجارة الفاشلة المفلسة، وأسب القدر الذي بلاني بها، مفتشا عن طريق النجاة والخلاص، إلى أن أتيح لي من ولد في نفسي حب الأطفال وتعليمهم، ومن أرشدني إلى أقوم الطريق وأحسنها، ومن دفعني إلى البحث والدرس والتنقيب والإطلاع، ومن وضع بين يدي الكتب العلمية والاجتماعية والأدبية، وكتب التربية وعلم النفس، ومن أهداني إلى المجلات المسلكية حتى أصبح تدريسي خصبا منتجا، وعملي منظما مرتبا والمناهج التي بين يدي حية مثمرة. وانقلب شقائي وعذابي إلى لذة وسعادة، وخسارتي إلى ربح، وفشلي إلى نجاح.
قضيت مدة على هذا المنوال، عشت فيها عيشة راضية، أتقاضى أجرا يلائم عملي، ويؤمن لي منزلا فخما ومأكلا شهيا وملبسا فاخرا.
والمعلم إنسان كغيره من الناس، له الحق المطلق في أن يعيش ويتزوج. أقدمت على الزواج ولم أفكر أن أقدم عليه تحسينا لحالتي المادية، ولم أطلب به مالا أدخره، أو صفقة تجارية أربحها، أو مكانا مرموقا في المجتمع أظفر به، بل حبا بالحياة المشتركة وبناء أسرة جديدة. . .
لم تدم الحياة الراضية، والنعمة السابغة طويلاً بعد الزواج، إذ أعلنت الحرب، وارتفعت الأسعار، وأثقلت الأسرة، وأصبح الراتب لا يفي ثمن خبز أفرادها.
فأخذت أبيع مما ورثته وأنفق في سبيل تربية أبنائي وبناتي وتعليمهم خيرا مما ربيت وعلمت. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى ضاع مني كل ما أملك من حطام الدنيا. ها قد جاء دوري في الإفلاس، ولكن تجارتي في العقول والأرواح والمشاعر بقيت محافظة على ازدهارها. . وها أني أحيا حياة ثقيلة مملوءة بالظلمات والمتاعب، لا أنعم بلحظة من سرور، ولم تعد تغمرني موجة من فرح أو حبور، أعيش ولا أدري لماذا أنا عائش، ولا لماذا يبقيني الزمان. ولا أرى عندما أغفو سوى وجوه الدائنين وهم ينظرون إلي شذراً وكل منهم يلوك كلمات يحاول توجيهها. أوليس الموت أحب من الحياة؟. وما قيمة الشباب الذي يذوي ويفنى بالوجوم والحزن وذهول العقل؟. وما قيمة الشاب الذي يقضي شهرا كاملا مطأطئ الرأس منتظرا الراتب الذي يؤمن له اللقمة السوداء. أين الديموقراطية التي تكفل للناس الحياة القابلة للتطور والرقي من ناحيتها المادية ومن ناحيتها المعنوية؟ أين الديموقراطية التي لا تكتفي إذا بلغ الفرد طورا من أطوار الحياة المادية أن يقف عنده ولا يعدوه حتى يموت وتمكنه. يجوزه إلى غيره خير منه؟
كيف يراد مني أن أبعث الحياة والنشاط في نفوس أبناء الأمة، إذا كنت أقاسي شظف العيش ومرارة الحرمان!. وكيف يراد مني أن أؤتمن على التلميذ، وأحميه، وأحيطه، وأربيه، وأتعهده بالرعاية والعناية حتى يصبح رجلا نافعا لأمته ووطنه، وأولادي في البيت يئنون من شدة المرض، لا طبيب يعودهم، ولا علاج يمكن آلامهم، ولا غذاء يملأ بطونهم، ولا كساء يحميهم من شدة البرد!.
فحياتي أصبحت حياة هموم وأكدار، كلها كد وجد وإرهاق، تسير على وتيرة واحدة. فليس هناك أي تجدد أو تنوع. وإنما هو جهد يبذل دائما في غير شوق، وإرهاق يعاني في غير لذة أو بهجة. أبذل أكثر مما أنال، وآخذ أقل مما أستحق.
وقد تقول لي - أيها الصديق - ألم تر تمتع رفاق لك بالمناصب الرفيعة يجنون ما جهدت في سبيله وإياهم وأنت أنت لا تحول ولا تبدل؟
أجل! إن في هذا البلد رجالا يفهمون من الحياة النسيان والغدر والخداع، إذا ابتسم الدهر لأحدهم بنى سراعاً بينه وبين ماضيه سدا يخيل إليه أنه سد منيع، وأخذ يتلكع وراء هذا السد الصفيق، ضاربا بالذكريات والأخوة عرض الحائط، وجاعلا من حطام الصداقة سدى أثرته الكريهة ولحمة نفعيته المقيتة. وهؤلاء هم أقسى الناس قلبا، وأعظمهم كيدا، وأكثرهم دهاء ومكرا، يبطنون ما لا يظهرون، ويظهرون ما لا يبطنون، لا يقلقهم بؤس البائسين، ولا تزعجهم نكبات المنكوبين.
* * *
أيها الصديق! هذا حالي، وما آل إليه أمري من فقر وبؤس وشقاء وعذاب بعد قضاء عشرين سنة في مهنة التعليم!. .
أجل إن التعليم صناعة شريفة، وفن جميل، به نصنع النفوس، ونزين الأرواح غير أن المعلم إنسان لا يقدر أن يحيا دونما يأكل، ولا يستطيع العيش من الماء النقي والهواء الطلق، إن للمعلم حاجات يكتفي بالأقل القليل منها، ولا بد من إقامة عوزه وإرضاء رغباته الأساسية الأولى، وإذا كانت هذه هي الحقيقة المرة، فالخير كل الخير في مجابهتها وعلاجها، ذلك لأن التعليم - في وضعه الحالي على الأقل - عمل مضن شاق، لا يجد فيه صاحبه ما يسد به رمقه، فأشفق على ابنك وارحمه من هذا المصير المحزن أو اختر له ما يحلو. .
رشاد الأسطواني