الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: "يحفظك
"
يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، حفظه، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].
وحفظ الله -تعالى- لعبده وماله.
وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح:
خرجه الإمام أحمد (1) وأبو داود (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4).
وهذا الدعاء منتزع من قوله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الآية [الرعد: 11].
قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه (5).
(1)(2/ 25).
(2)
(5074).
(3)
(8/ 282).
(4)
برقم (3871).
(5)
أخرج ابن جرير في تفسيره (13/ 117) شطره الأول.
وقال علي رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يُقَدَّرْ، فإذا جاء القَدَرُ خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة (1).
وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا قد أذن الله فيه فيصيبه.
ومن حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله.
قال بعض السَّلف: العالم لا يحزن، وقال بعضهم: من جمع القرآن متع بعقله.
وتأول ذلك بعضهم عَلَى قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] وهو أرذل العمر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6].
وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهر ممتع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إِلَى الأرض وثبة شديدة. فعوتب عَلَى ذلك، فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخًا يسأل الناس، فَقَالَ: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستره.
وقال ابن المسيب لابنه: يا بني (لأزيدن)(*) في صلاتي من أجلك، رجاء
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 34 - طبعة دار صادر)، والطبري في تفسيره (13/ 119).
(*) في "المطبوع": إني لأزيد.
أن أحفظ فيك. وتلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.
وقال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كُهيل: كان لي أخت أسنَّ مني فاختلطت وذهب عقلها وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب يدق نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: كجه، فقلت: أختي؟! قالت: أختك، ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين.
فقالت: أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل؛ فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؛ فإن أبا بكر وعمر قد شفعا فيك إِلَى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما، فقلت: فإذا كان لابد من اختيار أحدهما فالصبر عَلَى ما أنا فيه والجنة، وإن الله عز وجل لواسع بخلقه لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل.
قالت: فقيل لي: فإن الله قد جمعهما لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قومي فانزلي، فأذهب الله تعالى ما كان بها.
ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله فإن الله عز وجل يحفظه في تلك الحال، كما في مسند الإمام أحمد (1) عن حميد بن هلال عن رجل قال:
"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتًا فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا وَصِيصِيَتَهَا (2)، كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا، مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي
(1)(5/ 67). قال الهيثمي في المجمع (5/ 277): ورجاله رجال الصحيح.
(2)
الصِّيصيَّة: هي الصِّنارة التي يغزل بها وينسج.
وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبِّهَا تبارك وتعالى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا، وَهَاتِيكَ [فَأْتِهَا]. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أُصَدِّقُكَ".
وكان شيبان الراعي يرعى غنمًا في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطًّا وذهب إِلَى الجمعة ثم يرجع وهي كلما تركها.
وكان بعض السَّلف في يده الميزان يزن بها دراهم، فسمع الأذان فنهض ونفضها عَلَى الأرض وذهب إِلَى الصلاة، فلما عاد جمعها فلم يذهب منها شيء.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس.
كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قالت عائشة رضي الله عنها: يكفيه غم الدُّنْيَا وهمها.
وقال الربيع بن خثيم. يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق عَلَى الناس.
وكتبت عائشة إِلَى معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا (1).
وكتب بعض الخلفاء إِلَى الحكم بن عمرو الغفاري كتابًا يأمره فيه بأمر يخالف كتاب الله، فكتب إِلَيْهِ الحكم: إني نظرت في كتاب الله فوجدته قَبلَ كتاب أمير المؤمنين، وإن السماوات والأرض لو كانتا رتقًا عَلَى امرئ فاتقى الله عز وجل، جعل الله له مخرجًا، والسلام.
قال بعضهم شعرًا:
بتقوى الإلهِ نجا من نجَا. . . وفازَ وصارَ إلى مَا رَجَا
ومن يتقِّ اللَّهِ يجعلْ له. . . كما قالَ من أمره مَخْرَجَا
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 244) برقم (35717)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(885).
ويرزقه من حيث لا يحتسب. .. وإن ضاق أمرًا به فرجًا
كتب بعض السَّلف إِلَى أخيه:
أما بعد: فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى وساعية في مصالحه، كما جرى لسفينة (1) مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب وخرج إِلَى جزيرة فرأى السبع، فَقَالَ له: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يمشي حوله ويدله عَلَى الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يُهَمْهِمُ كأنه يودعه وانصرف عنه.
وكان أبو إبراهيم السائح قد مرض في برية بقرب دير، فَقَالَ: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني، فجاء السبع فاحتمله عَلَى ظهره حتى وضعه عَلَى باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة.
وكان إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ.
فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بالطبع، وجعل تلك الحيوانات حافظة له.
ومن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر بشيء ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه.
كما قال بعضهم: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري. يعني: أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركربه. فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه، والشر كله مجموع في معصيته والإعراض عنه.
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: (1/ 369).
قال بعض العارفين: من فارق سُدَّة سيده لم يجد لقدميه قرارًا أبدًا.
وقال بعضهم شعرًا:
والله ما جئتكم زائرًا
…
إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم
…
إلا تعثرت بأذيالي
بالله فاعفوا واصفحوا واجبروا
…
كسري فحالي بكم حالي
النوع الثاني من الحفظ: وهو أشرفها وأفضلها، حفظ الله تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه عَلَى الإسلام.
قال الحكم بن أبان عن أبي مكي: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن. قال: شم قلبه. قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شم قدميه. قال: أجد في قدميه القيام. قال: حفظ نفسه فحفظه الله عز وجل. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.
وقد ثبت في "الصحيحين"(1) في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه أن يقول عند منامه:
"اللهم إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
وفي حديث عمر عن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، فَلَا تُطِعْ فِيَّ
(1) هذا الحديث ليس في الصحيحين من حديث البراء بهذا اللفظ، وإنَّما هو من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (6330)، ومسلم (2714). وأما حديث البراء فبلفظ: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع عَلَى شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك
…
الحديث. أخرجه البخاري (6311)، ومسلم (270).
عدوًا ولا حاسدًا، خرجه ابن حبان في "صحيحه"(1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وَدَّعَ من يريد السفر يقول له.
"أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك"(2).
وفي رواية، وكان يقول:
"إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" خرجه النسائي (3) وغيره (4).
وخرج الطبراني (5) حديثًا مرفوعًا:
"إن العبد إذا صلّى الصلاة عَلَى وجهها صعدت إِلَى الله ولها برهان كبرهان الشمس وتقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضيَّعها لفت كما يلف الثوبُ الخَلِقُ ثم يضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني".
وكان عمر رضي الله عنه يقول في خطبته: اللهم اعصمنا بحفظك وثبتنا عَلَى
(1) برقم (2230). وفي إسناده انقطاع بين هاشم بن عبد الله بن الزبير وعمر.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 7)، والترمذي (3442، 3443)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(524)، وابن خزيمة في "صحيحه"(2531)، والحاكم (1/ 610، 2/ 106) من حديث ابن عمر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقال في الموضع الثاني: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث سالم.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال في الموضع الثاني: وله شاهد عن أنس بن مالك وعبد الله بن يزيد الأنصاري، ثم ساق الحديثين بإسناده إليهما.
(3)
في عمل اليوم والليلة (509).
(4)
وأخرجه ابن حبان (2376 - موارد)، والبيهقي في "السنن الكبير"(9/ 173).
(5)
في الأوسط (3095) عن أنس بنحوه، وفي مسند الشاميين (427) عن عبادة بن الصامت بنحوه.
قال الهيثمي في المجمع (1/ 302) عن حديث أنس: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن كثير وقد أجمعوا عَلَى ضعفه.
وقال (2/ 122) عن حديث عبادة: رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفيه الأحوص بن حكيم وثقه ابن المديني والعجلي، وضعفه جماعة، وبقية رجاله موثقون.
أمرك.
ودعا رجل لبعض السَّلف بأن يحفظه الله فَقَالَ: يا أخي، لا تسأل عن حفظه، ولكن قل يحفظ الإيمان. يعني: أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله يحفظ عَلَى المؤمن دينه ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون يكرهه.
وهذا كما حفظ يوسف عليه السلام قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فمن أخلص لله خلصه الله من السوء والفحشاء وعصمه منها من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة.
كما رأى معروف الكرخي شبابًا يتهافتون في الخروج إِلَى القتال في فتنة، فَقَالَ: اللهم احفظهم، فقِيلَ لَهُ: تدعو لهؤلاء؟ فَقَالَ: إن حفظهم لم يخرجوا إِلَى القتال.
وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فَحُلْ بيني وبين معاصيك. فأعجب ذلك عمر ودعا له بخير (1).
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إِلَى النار (2).
حج بعضُ المتقدمين فبات بمكة مع قوم فهمَّ بمعصية، فسمع هاتفًا يهتف يقول: ويلك، ألم تحج؟ فعصمه الله مما هم به.
(1) أخرجه أحمد في "الزهد" ص 142 - الريان.
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 143) بإسناد مسلسل بالضعفاء، وسبق أن نقلت كلام الشيخ شاكر رحمه الله في التعليق عَلَى إسناد العوفيين هذا في تخريجي لـ "اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل" للتميمي ص 43 - 45 طبعة دار بلنسية بالرياض فانظره فإنَّه نفيس.
وخرج بعضهم مع رفقة إِلَى معصية، فلما همَّ بمواقعتها هتف به هاتف:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] فتركها.
ودخل رجل غيضة ذات شجر فَقَالَ: لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين حافتي الغيضة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
وهمَّ رجل بمعصية فخرج إليها فمرَّ في طريقه بقاصٍّ يقص عَلَى الناس، فوقف عَلَى حلقته فسمعه يقول: أيها الهامُّ بالمعصية، أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همَّتك؟ فوقع مغشيًا عليه فما أفاق إلا من توبة.
كان بعض الملوك الصالحين قد تعلق قلبه بمملوك له جميل فخشي عَلَى نفسه؛ فقام ليلة واستغاث الله، فمرض المملوك من ليلته ومات بعد ثلاث.
ومنهم من عُصِمَ بموعظة جرت عَلَى لسان من أراد منه الموافقة عَلَى المعصية، كما جرى لأحد الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة، فإنَّه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته، قالت له: يا عبد الله. اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها (1).
وكذلك الكفل من بني إسرائيل، كان لا يتورع عن معصية، فأعجبته امرأة فأعطاها ستين دينارًا، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت، فَقَالَ: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن عمل ما عملته قط، وإنَّما حملني عليه الحاجة.
فَقَالَ: تخافين الله ولا أخافه! ثم قام عنها ووهب لها الدنانير وقال: والله لا يعصي الله الكفلُ أبدًا. ومات من ليلته فأصجع مكتوبًا عَلَى بابه، قد غفر الله للكفل.
خرج الإمام أحمد (2) والترمذي (3) حديثه هذا من حديث ابن عمر مرفوعًا.
(1) أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (2743).
(2)
(2/ 23).
(3)
برقم (2496) وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش=
وراود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، وقالت له: قد بقي باب واحد، قال: وأي باب هو؟ قالت: الباب الَّذِي بيننا وبين الله عز وجل فلم (يعرض)(*) لها.
وراود رجل أعرابية، قال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مكوكبها؟!
وهذا كله من ألطاف الله وحيلولته بين العبد ومعصيته.
قال الحسن -وذكر أهل المعاصي-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
وقال بشر: ما أصر عَلَى معصية الله كريم، ولا آثر الدُّنْيَا عَلَى الآخرة حكيم.
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه: أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدُّنْيَا، إما الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك.
قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجاوة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسَّرته له أدخلته النار.
فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل.
= نحو هذا ورفعوه، وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعوه، وروى أبو بكر بن عياش هذا الحديث عن الأعمش فأخطأ فيه، وقال عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد ابن جبير عن ابن عمرو، وهو غير محفوظ، وعبد الله بن عبد الله الرازي هو كوفي .. " الخ. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 226): رواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه عَلَى ابن عمر، فهو حديث غريب جدًا، وفي إسناده نظر، فإن سعدًا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي هذا فالله أعلم.
(*) يتعرض: "نسخة".
وأعجب من هذا أن العبد قد يطلب بابًا من أبواب الطاعات، ولا يكون فيه خيرة، فيحول الله بينه وبينه صيانة له وهو لا يشعر.
وخرج الطبراني (1) وغيره (2) حديث أنس مرفوعًا. "يقول الله عز وجل إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ عَلَيْهِ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ
(1) كما في جامع العلوم والحكم للمصنف (1/ 359 - دار المعرفة) قال ابن رجب خرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني عن هشام الكناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه تعالى قال: "من أهان لي وليًّا.- فذكره.
قال ابن رجب: والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو؟ قال لا أحد، يعني لا يعتبر به، وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة بن عبد الكريم الجزري عن أنس. اهـ.
قال العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/ 188 - 189): وأما حديث أنس فلم يعزه الهيثمي إلا للطبراني في "الأوسط" مختصراً جدًا بلفظ "من أهان لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة" وقال وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف.
وقال الألباني: وقد وجدته من طريق أخرى بأتم منه يرويه الحسن بن يحيى قال حدثنا صدقة بن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس به نحو حديث الترجمة، وزاد "وإن من عبادي المومنين" الخ.
قال الألباني: أخرجه محمد بن سليمان الربعي في "جزء من حديثه"(ق216/ 2)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 121).
قلت: وإسناده ضعيف، مسلسل بالعلل.
الأولى: هشام الكناني لم أعرفه ....
الثانية: صدقة بن عبد الله -وهو أبو معاوية السمين- ضعيف.
الثالثة: الحسن بن يحيى -وهو الخشني- وهو صدوق كثير الغلط كما في "التقريب". اهـ.
(2)
وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الأولياء"(1)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 318 - 319) ولفظه: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العِلْم فأكفه عنه
…
الحديث.
قال أبو نعيم: غريب من حديث أنس لم يروه عنه بهذا السياق إلا هشام الكناني وعنه صدقة بن عبد الله أبو معاوية الدمشقي، تفرد به الحسن بن يحيى الحسني.
مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لَأَفْسَدُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَطْلُبُ بَابًا مِنَ الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لِكَيْ لَا يَدْخُلَهُ الْعُجْبُ، إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
كان بعض المتقدمين يكثر سؤال الشهادة، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت. فكف عن سؤاله.
وفي الجملة: فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته.
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنَّه وليُّ المؤمنين، وأنه يتولى الصالحين، وذلك يتضمن أنَّه يتولى مصالحهم في الدُّنْيَا والآخرة، ولا يكلهم إِلَى غيره، قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11].
وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
فمن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل له بالقيام بجميع مصالحه في الدُّنْيَا والآخرة؛ فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصبيه شيء مما يكره فلا يأت شيئًا مما يكرهه الله منه.
كان بعض السَّلف يدور عَلَى المجالس ويقول: من أَحَبّ أن تدوم له العافية فليتق الله.
وقال العمري الزاهد لمن طلب منه الوصية: كما تحب أن يكون الله لك،
فهكذا كن لله عز وجل
وقال صالح بن عبد الكريم يقول الله عز وجل "وعزتي وجلالي لا أطلع عَلَى قلب عبد أعلم أن الغالب عليه حب التمسك بطاعتي، إلا توليت سياسته وتقويمه".
وفي بعض الكتب المتقدمة: يقول الله عز وجل "يا ابن آدم، ألا تعلمني ما يضحكك؟! يا ابن آدم، اتقني ونم حيث شئت".
والمعنى: أنك إذا قمت بما عليك لله من حقوق التقوى فلا تهتم بعد ذلك بمصالحك، فإن الله هو أعلم بها منك، وهو يوصلها إليك عَلَى أتم الوجوه من غير اهتمام منك بها.
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةِ اللَّهِ عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ، حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ» (1).
فهذا يدل عَلَى أنَّه على قدر اهتمام العبد بحقوق الله وبأداء حقوقه ومراعاة حقوقه ومراعاة حدوده، واعتنائه بذلك وحفظه له يكون اعتناؤه به وحفظه له، فمن كان غاية همه رضا الله عنه وطلب قربه ومعرفته ومحبته وخدمته، فإن الله يكون له عَلَى حسب ذلك كما قال تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] بل هو سبحانه أكرم الأكرمين، فهو يجازي بالحسنة عشرًا ويزيد، ومن تقرَّب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا. ومن تقرب منه ذراعًا تقرب منه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
فما يؤتى الإنسان إلا من قِبل نفسه ولا يصيبه المكروه إلا من تفريطه في حق
(1) أخرجه أبو يعلي (1865، 2138)، والطبراني في "الأوسط"(2501) والحاكم (1/ 494) وصححه، وتعقبه الذهبي في "التلخيص" بقوله قلت عمر ضعيف.
وقال الطبراني: لا يروى هذا عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به عمر.
وذكره الهيثمي في "المجمع"(10/ 77) وقال: وفيه عمر بن عبد الله مولى غفرة.
وقد وثقه غير واحد وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح.
وقال الطبراني: لا يروى هذا عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به عمر.
ربه عز وجل.
كما -قال علي رضي الله عنه: لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه.
وقال بعضهم: من صَفَّى صُفِّي له، ومن خلَّطَ خُلِّطَ عليه.
وقال مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه، عصمه الله في حركات جوارحه.
وبسط هذا المعنى يطول جدًّا، وفيما أشرنا إِلَيْهِ كفاية، ولله الحمد.
***