الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن في شوق المحبين إِلَى لقاء رب العالمين
الشوق إِلَى لقاء الله درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة الحبة لله عز وجل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله هذه الدرجة.
خرج الإمام أحمد (1) وابن حبان في "صحيحه"(2)، والحاكم (3) من حديث
عمار بن ياسر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وقُدرتِكَ على الخَلقِ أَحْيني مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْتَدِينَ» .
وخرج الطبراني (4) نحوه من حديث فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج الإمام أحمد (5) والحاكم (6) عن زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، وفيه:
(1)(4/ 264).
(2)
برقم (1971 - إحسان).
(3)
(1/ 524) وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وأخرجه النسائي (3/ 54 - 55).
(4)
في المعجم الكبير (18/ 825) وقال الهيثمي (10/ 177): رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما ثقات.
(5)
(5/ 191).
(6)
(1/ 516 - 517) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فَقَالَ: أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟!.
"اللهم إني أسألك الرضا (بالقدر) (1) وبرد العيش بغد الموت، ولذة النظر (في) (2) وجهك (وشوقًا) (3) إِلَى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".
وإنَّما قال: "من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة" والله أعلم؛ لأنّ محبة لقاء الله وهو محبة الموت تصدر غالبًا إما من ضراء وهي ضراء الدُّنْيَا، وقد نهى عن تمني الموت حينئذ، وإما عن فتنة مضلة، وهي خشية الفتنة في الدين، وهو غير منهي عنه في هذه الحال.
والمسئول ها هنا الشوق إِلَى لقاء الله [غير](4) الناشئ عن هذين الأمرين؛ بل عن محض المحبة، وقد دل قوله تعالى في حق اليهود:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] عَلَى أن من كان عَلَى حالة حسنة من الاستعداد للقاء الله؛ فإنَّه يتمنى لقاء الله ويحبه، وأنه لا يكره ذلك إلا من هو مريب في أمره، ولهذا قال:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95] ثم قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] فذمهم عَلَى حرصهم عَلَى الحياة الدُّنْيَا.
وفي مسند الإمام أحمد (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنى الموت إلا من وثق بعمله"
وقد كان كثير من السَّلف الصالح يتمنون الموت شوقًا إِلَى [لقاء](6) الله -عز
(1) في المطبوع: "بعد القضا".
(2)
في المطبوع: "إِلَى".
(3)
في المطبوع: "والشوق".
(4)
من المطبوع.
(5)
(2/ 350).
وقال الهيثمي في المجمع (10/ 206): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة، وهو مدلس وفيه ضعف وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(6)
من المطبوع.
وجل -فكان أبو الدرداء يقول:
"أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي، وأحب الفقر تواضعًا لربي، وأحب المرض تكفيرًا لخطيئتي"(1).
وقال محمد بن زياد: "اجتمع رجال من الأحبار -أو قال [من] (2) العُلَمَاء والعباد- وذكروا الموت، فَقَالَ بعضهم: [لو] (3) أتاني آت أو ملك الموت فَقَالَ: أيكم سبق إِلَى هذا العمود فوضع يده عليه لمات؟ لرجوت أن لا يسبقني إِلَيْهِ أحد منكم شوقًا إِلَى لقاء الله عز وجل".
وقال عبد الله بن زكريا: "لو خيرت بين أن (أعمر) (4) مائة سنة في طاعة [الله] (2) أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه لاخترت أن أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه شوقًا إِلَى الله ورسوله إِلَى الصالحين من عباده".
وكان أبو عبد ربه الزاهد يقول "لو أنَّه قيل: من مس هذا العمود لمات، لسرني أن أقوم إِلَيْهِ شوقًا إِلَى لقاء الله ورسوله".
وقال أبو عتبة الخولاني: "كان إخوانكم لقاء الله أَحَبّ إليهم من الشهد".
قال سفيان: "كان بالكوفة رجل متعبد من همدان، فكان يقول: ما تطيب نفسي بالموت إلا إذا ذكرت لقاء الله عز وجل فإني أجد نفسي عند ذلك تطيب بالموت لما ترجو في لقاء الله عز وجل من البركة والسرور".
وذكروا عنه أنَّه كان يقول: "إذا ذكرت القدوم عَلَى الله كنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمأه في اليوم الحار الشديد حره إِلَى الشراب البارد الشديد برده".
وقال رياح القيسي (5): "أتيت الأبرد بن ضرار فَقَالَ لي: يا رياح، هل
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 217).
(2)
من المطبوع.
(3)
في الأصل: "إنه" وما نقلته من المطبوع وهو الأنسب للسياق.
(4)
في المطبوع: أعيش.
(5)
راجع حلية الأولياء (6/ 193).
طالت بك الليالي والأيام؟ فقلت له: بم؟ قال: بالشوق إِلَى لقاء الله. قال: فسكت، وأتيت رابعة فذكرت ذلك لها. قال: فسمعت تخريق قميصها من وراء ثوبها وهي تقول: لكني نعم"
وقال عبيد الله بن محمد التميمي: "سمعت امرأة من المتعبدات تقول: والله لقد سئمت من الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقًا إِلَى لقاء الله وحبًّا للقائه: قال فقلت لها: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به، أَفَتَرَاهُ يعذبني وأنا أحبه؟! ".
وقال سلمة العوصي: "إني لمشتاق إِلَى (الموت) (1) منذ أربعين سنة؛ منذ فارقت الحسن بن صالح. قِيلَ لَهُ: ولم؟ قال: لو لم يشتق العامل إلا إِلَى (لقائه) (2) عز وجل لكان ينبغي له أن يشتاق".
"وكان أبو عبد الله النباحي يقول في مناجاته: إنك لتعلم أنك لو خيرتني بين أن تكون لي الدُّنْيَا منذ خلقت أَتَنعَّمُ فيها حلالاً ولا أُسئَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرجَ نفسي الساعة لاخترت أن تخرج نفسي الساعة. ثم قال: (أما) (3) تحب أنك تلقى من تطيع؟ ".
"وصحب رجل فتح بن شخرف ثلاثين سنة قال: فلم أره رفع رأسه إِلَى السماء إلا مرة [واحدة] (4) رفع رأسه وفتح عينيه ونظر إِلَى السماء ثم قال: [قد] (4) طال شوقي إليك؛ فعجل قدومي عليك".
وقال فتح الموصلي في [يوم](4) عيد أضحى: "قد تقرب المتقربون بقربانهم، وأنا أتقرب إليك بطول حزني يا محبوب، لم تتركني في أرقة الدُّنْيَا محزونًا؟ ". ثم غشي عليه، وحمل فدفن بعد ثلاث رحمه الله -تعالى".
فهذا حال من غلب عليه الشوق والرجاء، فأما من غلب عليه الخوف فإنَّه
(1) في المطبوع: "ربي".
(2)
في المطبوع: "لقاء الله".
(3)
في المطبوع: "ألا".
(4)
من المطبوع.
بخلاف ذلك، ولا يتمنى الموت؛ بل يستعظمه حتى يكاد يتصدع قلبه من ذكره.
وقد نازع أبو سليمان الداراني: من كان يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله، وخالفهم في ذلك وقال: لو أعلم أن الأمر كما تقولون لأحببت أن نفسي تخرج الساعة، ولكن كيف بانقطاع الطاعة والحبس في البرزخ؟ وإنَّما نلقاه بعد البعث".
وقال أحمد بن أبي الحواري: "فهو في الدُّنْيَا أحرى أن نلقاه -يعني: بالذكر".
فأبو سليمان وصاحبه أحمد بن أبي الحواري -رحمهما الله تعالى- يقولان: ما يجده العارفون المحبون في الدُّنْيَا من حلاوة الطاعة ولذة المعاملة واستنارة القلوب وتقربها من علام الغيوب أكمل مما يحصل لهم في البرزخ قبل البعث، فإنَّه لا يمكن رؤية الله -تعالى- بالأبصار إلا في يوم القيامة.
وقد جاء في حديث: "إن يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين إِلَى الله عز وجل".
وأما الأولون فإنهم يخالفون في ذلك ويَقُولُونَ قد يحصل للمحبين في البرزخ اتصال وقرب من الله -سبحانه- ورؤية للأرواح، فيكون ذلك أكمل من الحاصل لهم في الدُّنْيَا بالعمل؛ كما أن نعيم البرزخ بالمخلوقات من الجنة أكمل من نعيم الدُّنْيَا أيضاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اعلموا أنكم لن تروا ريكم حتى تموتوا"(1).
وهذا يدل بمفهومه عَلَى أن (رؤيته)(2) سبحانه تحصل بعد الموت.
وقد روى في ذلك من المبشرات الأحلامية قديمًا وحديثًا ما يطول ذكره؛ و [قد](3) اتفق العارفون كلهم عَلَى أن ما يحصل بعد البعث للعارفين المحبين أكمل
(1) أخرجه مسلم (2931) بنحوه من حديث عمر بن ثابت الأنصاري، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أحمد (5/ 324) من حديث عبادة بن الصامت
وأخرجه ابن ماجه (4077) من حديث أبي أمامة الباهلي.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(431) من حديث معاوية.
(2)
في المطبوع: "رؤية الله".
(3)
من المطبوع.
مما يحصل لقلوبهم في الدُّنْيَا؛ فإن غاية الحاصل [للقلوب](1) في الدُّنْيَا هو تجلي أنوار الإيمان في القلب، حتى يصير الغيب كأنه شهادة، ومن قال: إن الأرواح والقلوب تكافح ذات الرب -سبحانه- في الدُّنْيَا عيانًا، فهو غالط، فإن هذا لم يثبت لأحد إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، كما ذكره الصحابة رضي الله عنهم وصنف بعضهم مصنفًا سماه "تفضيل العبادات عَلَى نعيم الجنات" وأشار إِلَى أن العبادات حق الرب، وأن النعيم حظ النفس، وكأنه ظن أن لا نعيم في الجنة إلا التمتع بالمخلوقات [فيها](1) وهو غلط عظيم، فإن أعلى نعيم الجنة ما يحصل فيها من معرفة الله ومشاهدته، فإن علم اليقين يصير هناك عين اليقين، وتتجدد معرفة عظيمة لم تكن موجودة قبل ذلك؛ بل ولم تخطر عَلَى قلب بشر وكذلك توحيد أهل الجنة ودوام ذكرهم هو من أكمل لذاتهم، ولذلك يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس.
قال ابن عيينة: "لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا" وكذلك ترنمهم بالقرآن و (سماعه)(2) وأعلاه سماعه من الله عز وجل (3) فأين هذا من تلاوة أهل الدُّنْيَا وذكرهم؟ وأما سائر العبادات فما كان منها فيه مشقة عَلَى الأبدان فإن أهل الجنة قد أسقط ذلك عنهم؛ وكذلك ما فيه نوع ذل وخضوع كالسجود ونحوه.
وأما ما في العبادات من النعيم الحاصل بها لأهل المعرفة في الدُّنْيَا، فإنَّه يحصل لهم في الجنة أضعافا مع راحة (الجسد)(4) من مشقة التكاليف التى في الدُّنْيَا، فتجتمع لهم راحة القلب والبدن عَلَى أكمل الوجوه.
وهذا مثل الصلاة، فإن العارفين في الدُّنْيَا إِنَّمَا يتنعمون بما فيها من المناجاة وآثار القرب، وما يرد عليهم من الواردات في تلاوة الكتاب، ونحو ذلك من
(1) من المطبوع.
(2)
في المطبوع: "وسماعهم له".
(3)
في المطبوع: "جل جلاله وتقدست أسماؤه".
(4)
في المطبوع: "البدن".
نعيم القلوب، وربما يستغرقون [به](1) عن الشعور بتعب الأبدان، فهذا القدر الَّذِي حصل لهم به التنعم في الدُّنْيَا يتزايد في الجنة بلا ريب، لا سيما في أوقات الصلوات؛ فإن أكملهم من ينظر إِلَى وجه الله عز وجل كل يوم مرتين، بكرة وعشية، في وقت صلاة (الفجر)(2) وصلاة العصر، كما جاء في حديث ابن عمر مرفوعًا (3) وموقوفًا، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة عَلَى هاتين الصلاتين (عقب)(4) ذكره رؤية الرب -سبحانه- في حديث جرير البجلي (5).
فالنعيم الحاصل لأهل الجنة بالرؤية والمخاطبة في هذين الوقتين أكمل مما كان حاصلا في الدُّنْيَا، وكذلك صلاة الجمعة فإنهم يجتمعون في وقتها في يوم المزيد ويتجلى لهم سبحانه ويحاضرهم محاضرة.
وكذلك في العيدين، فهذا أكمل مما [كان](1) يحصل لهم في الدُّنْيَا في صلاتهم من آثار القرب وحلاوة المناجاة مع راحة البدن ونعيمه أيضاً.
فتبين بهذا أن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدُّنْيَا مطلقًا، وسواء في ذلك نعيم الأبدان بال والشرب والجماع ونعيم [القلوب](1) والأرواح بالمعارف والعلوم والقرب والاتصال والأنس والمشاهدة، فظهر بهذا أن قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] هو عَلَى ظاهره من غير حاجة إِلَى تأويل ولا
(1) من المطبوع.
(2)
في المطبوع: "الصبح".
(3)
رواه أحمد (2/ 13، 64) والترمذي (2677، 3386 - تحفة) وقال: هذا حديث غريب.
وقال الترمذي: وقد رُوي هنا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثور عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن عمر موقوفًا. ورواه عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله ولم يرفعه. وهو برقم (2678 تحفة) عند الترمذي.
(4)
في المطبوع: "عقيب".
(5)
أخرجه البخاري (554) ومسلم (633).
تكلف؛ فإن كثيرًا من المفسرين فسروا الحسنة بكلمة. التوحيد والجزاء عليها بالجنة، ثم استشكلوا تفضيل الجنة عَلَى التوحيد، وبما ذكرناه يزول الإشكال.
ويتبين أن التوحيد الَّذِي في الجنة أكمل من التوحيد الَّذِي في الدُّنْيَا وهو جزاء له، وكذلك المعرفة والمحبة والشوق أيضاً، فقد جاء في بعض أحاديث يوم المزيد (1):"أنهم ليسوا إِلَى شيء أشوق منهم إِلَى يوم الجمعة" وشيبة بهذا الغلط الَّذِي أشرنا إِلَيْهِ قول من قال: إن العارفين لا يشتاقونا إِلَى الله عز وجل في الدُّنْيَا؛ لأنهم يشهدونه بقلوبهم حاضرًا، وتباشر قلوبهم أنواره ويتجلى لها فيستأنسون به ويطمئنون إِلَيْهِ.
وهذا وإن كان نقل عن بعض السَّلف المتقدمين فهو أيضاً غلط، ولعله صدر من قائله في حال استغراقه في مشاهدة ما شاهده، فظن أنَّه ليس وراء ذلك مطلب، وهذا كما قال بعضهم:"إنه تمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب".
ومعلوم أن أهل الجنة في أضعاف أضعاف ما هو فيه من النعيم واللذة، ولكنه لما استعظم ما حصل له من النعيم ظن أنَّه ليس وراءه شيء، وعند التحقيق يتبين أن ما حصل في الدُّنْيَا للقلوب من تجلي أنوار الإيمان يدل عَلَى عظمة ما يحصل في الجنة، وليس بينهما نسبة فيتزايد بذلك الشوق إِلَى ما وراءه، ولهذا "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الشوق إِلَى لقائه"(2) مع أنَّه أكمل الخلق مشاهدة ومعرفة، وكان يقول في الوصال: "إني لست كهيئتكم، إني أظل عند ربي
(1) أخرجه البزار (3519 - كشف) ولفظه: "
…
فليسوا إِلَى شيء أحوج منهم إِلَى يوم الجمعة؛ ليزدادوا فيه كرامة وليزدادوا فيه نظرًا إِلَى وجهه تبارك وتعالى" ولذلك دعي: يوم المزيد".
قال الهيثمي في المجمع (10/ 421 - 422): رواه البزار، والطبراني في الأوسط بنحوه، وأبو يعلي باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن ثابت بن ثوبان، وقد وثقه غير واحد وضعفه غيرهم، وإسناد البزار فيه خلاف.
(2)
تقدم تخريجه.
يُطعمني ويسقيني" (1).
ويشير إِلَى ما يتجلى لقلبه من آثار القُرْبِ والأُنْسِ مما يقويه ويغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب.
كما قال القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلُها
…
عن (الطعام)(2) وتلهيها عن الزاد
ولم يزل أئمة العارفين يثبتون الشوق ويخبرون به عن أنفسهم.
قال عبد الواحد بن زيد: "يا إخوتاه، ألا تبكون شوقًا إِلَى الله عز وجل؟ ألا إنه من بكى شوقًا إِلَى سيده لم يحرمه النظر إِلَيْهِ".
وقال صالح المري: بلغني عن كعب أنَّه كان يقول: "من بكى اشتياقًا إِلَى الله عز وجل أباحه النظر إِلَيْهِ تبارك وتعالى".
قال حبيب بن عبيد: "كان دليجة إذا مشي طاشت قدماه من العبادة، فقيل له: ما شأنك؟! قال: الشوق. فقِيلَ لَهُ: أبشر؛ فإن الأمير قد بعث إِلَى سرح المسلمين ليأذن لهم. فيقول: ليس شوقي إِلَى ذلك، إن شوقي إِلَى من يحثها".
وقال عثمان بن صخر العتكي: "طوبى لمحبي الرب الذين عبدوه بالفرح والسرور والأنس والطمأنينة، فصاروا الصفوة من الخلق والخاصة من البرية، يحنون إِلَيْهِ حنين الولهان؟ ويشتاقون إِلَيْهِ شوق (من ليس له صبر)(3) عنه قد
(1) ورد هذا الحديث من رواية جمع من الصحابة رضي الله عنهم منهم:
أ- أبو هريرة، رواه عنه البخاري (1965، 1966) وفي مواضع أخر، ومسلم (1103).
ب- أنس، رواه عنه البخاري (1961)، ومسلم (1104).
ب- ابن عمر، رواه عنه البخاري (1922) وفي موضع آخر، ومسلم (1102).
د- عائشة، رواه عنها البخاري (1964) ومسلم (1105).
هـ- أبو سعيد الخدري، رواه عنه البخاري (1963) وفي موضع آخر.
(2)
في المطبوع: "الشراب".
(3)
في المطبوع وهامش الأصل: "من لا صبر لهم".
كُسِروا بالخوف، وروحوا بالظفر".
"وكان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويضرب عَلَى صدره ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه".
"وكانت امرأة من المتعبدات بمكة لا تزال تصرخ وتقول: "أو ليس عجبًا أن أكون حية بين أظهركم وفي قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ حتى أصير إِلَى الطبيب الَّذِي (بيده)(1) برؤ دائي وشفائي".
وقال ذو النون: "إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله، فإذا سكنت درجة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع تولد من الطاعة الرجاء، فإذا سكنت درجة الرجاء تولد من الرجاء المحبة، فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبه سكن بعدها درجة الشوق، فإذا اشتاق أدّاه الشوق إِلَى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إِلَى الله، فإذا اطمأن إِلَى الله كان ليله في نعيم، ونهاره في نعيم، وسِرُّهُ في نعيم، وعلانيته في نعيم". انتهى.
ولا ريب أن الشوق يقتضي القلق، لكن قد يمنح الله بعض أهله ما يسكن قلقهم من الأنس به والطمأنينة إِلَيْهِ، كما أشار ذو النون -رحمه الله تعالى.
وعن إبراهيم بن أدهم قال: "قلت يومًا اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من المحبين لك ما (سكنت) (2) به قلوبهم قبل لقائك، فأعطني ذلك فلقد أضر بي القلق. قال: فرأيته تبارك وتعالى في (المنام) (3) فوقفني بين يديه وقال لي: "يا إبراهيم، أما استحيت مني؟ تسألني أن أعطيك ما (تُسَكِّن)(4) به قلبك قبل
(1) في المطبوع: "عنده".
(2)
في المطبوع: "أسكنت".
(3)
في المطبوع: "النوم".
(4)
في المطبوع: "يسكن".
لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إِلَى غير حبيبه؟ أم هل يستريح المحب إِلَى غير من (يشتاق) (1) إِلَيْهِ؟ قال: فقلت: يا رب، تهت في حبك؛ فلم أدر ما أقول".
وروى أبو نعيم بإسناده عن عبد العزيز بن محمد قال: "رأي في المنام قائلا يقول: من يحضر، من يحضر؟ " فأتيته فَقَالَ لي: أما ترى القائم الَّذِي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأنبياء؛ فأدركه لعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه. فأتيته فإذا الناس حوله وهو يقول:
ما نال عبدٌ من الرحمن منزلةً
…
أعلى من الشوق إن الشوقَ محمودُ
ثم سلم ونزل، (فقلت) (2) لرجل إِلَى جانبي: من هذا؟ قال: أما تعرفه؟! قلت لا. قال: هذا داود الطائي. فعجبت في منامي منه، فَقَالَ: أتعجب مما رأيت؟ والله (إن الَّذِي)(3) عند الله من الزلفى لداود أكبر من هذا وأكثر.
ومما قيل في وصف المشتاقين:
أنَّ من الشوق فلولا دمعه
…
أحرق ما بين العُذيب والنَّقَا
واستعرت أنفاسه وإنَّما
…
(تَلَهُّبُ)(4) الأنفاس من حَرِّ الجوى
مروا عَلَى وادي الغضا فقلَّوا
…
من الجوى قلبي عَلَى جمر الغضا
…
(1) في المطبوع: "اشتاق".
(2)
في الأصل: "قلت" وما نقلته من المطبوع.
(3)
في المطبوع: "للذي".
(4)
في المطبوع: "تلتهب".