الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وأخبر عن يعقوب عليه السلام أنَّه لم ييأس من لقاء يوسف، وقال لإخوته:{اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83].
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق، استجاب الله له وكشف عنه؛ فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، كما قال الإمام أحمد، واستدل عليه بقول إبراهيم لما عرض له جبريل في الهواء وقال: ألك حاجة؟ فَقَالَ: أما إليك فلا!.
والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
قال الفضيل: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كل ما تريد.
ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنَّه يحتاج حينئذٍ إِلَى مجاهدة الشيطان؛ لأنّه يأتيه فيقنطه ويسخطه، فيحتاج العبد إِلَى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب مجاهدة عدوه ودفعه: دفع البلاء عنه ورفعه.
ولهذا في الحديث الصحيح:
"يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي! فيدع الدعاء"(1).
ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إِلَى نفسه باللائمة ويقول لها: إِنَّمَا أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت!.
وهذا اللوم أَحَبّ إِلَى الله من كثير من الطاعات؛ فإن يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه فلذلك يسرع إِلَيْهِ حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنَّه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، عَلَى قدر الكسر يكون الجبر.
قال وهب: تعبد رجل زمانًا ثم بدت له إِلَى الله حاجة فصام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إِلَى نفسه فَقَالَ: منك أتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك. فنزل إِلَيْهِ عند ذلك ملك، فَقَالَ: يا ابن آدم؛ ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك.
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها
…
ولن تكرم النفس التي لا تهينها
فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه، علم أن نعم الله عَلَى عبده المؤمن بالبلاء أعظم من نعمه في الرخاء، وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن ها هنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين عَلَى الأخرى، بل
(1) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735).
(2)
أخرجه مسلم (2999).
أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة به.
وفي "المسند"(1) والترمذي (2) عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرْضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا؛ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ".
وقال عمر: ما أبالي أصبحت عَلَى ما أَحَبّ أو عَلَى ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أَحَبّ أو فيما أكره (3)؟
وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت يومًا وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
يا هذا، لِمَ نستدعيك إلينا وأنت تفر منا؟! نسبغ عليك النعم فتشتغل بها عنا وتنسانا! فنفرغ عليك البلاء لترد إلينا! وتقف عَلَى بابنا ونسمع تضرعك! البلاء يجمع بيننا وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك.
إن جرى بيننا وبينك عتب
…
أو تناءت منا ومنك الديار
فالوداد الَّذِي عهدت مقيم
…
والأيادي التي عهدت غزار
كم لنا في طي البلايا من منح
…
وعطايا وفي الزوايا خبايا
يا هذا! إن شكرت نعمنا عليك فتوفيقك للشكر من جملة نعمنا فاشكره! وإن صبرت عَلَى بلائنا فالصبر من جملة فضلنا فاذكره، فكل ما تقلب فيه فهو من نعمنا فلا تكفره {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
(1)(5/ 254).
(2)
برقم (2347) وقال: هذا حديث حسن
…
إِلَى أن قال: وعلي بن يزيد ضعيف الحديث.
قلت: وفي الإسناد عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن، وقد قال ابن حبان عنهم: إنهم إذا اجتمعوا في إسناد، فهو مما عملت أيديهم.
(3)
أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في الفرج بعد الشدة ص 21.
كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً
…
عَلَيَّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها
…
وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منة
…
تضيق لها الأوهام والبر والبحر
آخره والحمد ولله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا يا رب العالمين.
ووافق الفراغ منه في ليلة يسفر صباحها عن ليلة الثلاثاء خامس شهر ربيع الأولى من شهور سنة ثلاث وتسعين وثماني مائة، عَلَى يد فقير عفو ربه الممجد عيسى بن علي بن محمد الحوراني الشافعي، عامله الله بلطفه الخفي وغفر له ولوالديه، ولمن نظر فيه ودعا لي بالمغفرة وحسن الخاتمة، إنه بر رحيم جواد لا يخيب من دعاه.
***
فضائل الشام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله منجي من شاء من عباده المؤمنين من الهلكة، ومصطفي ما شاء من بلاده بمزيد الإيمان والبركة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطوبى لمن وحده، وتبًّا لمن أشركه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المخصوص بالفضل الَّذِي ما بلغه سواه ولا أدركه، مولده بمكة، ومهاجره طَيْبَة، وملكه بالشام فهي لأمته خير مملكة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى طريقه وسلكه، وبعد.
فإن الله -تعالى- جعل البلدة الحرام مبدأ لخلقه وأمره؛ فأول ما خلق من الأرض مكان البيت، ومنه دُحيتِ الأرض وهو أول مسجد وضع عَلَى وجه الأرض لعِبَادَةِ الله -تعالى- وتوحيده، وفيه ابتدأت رسالة. خاتم النبيين، وأنزل الكتاب المبين، وجعل الشام منتهى الخلق والأمر، ففي آخر الزمان يستقر الإيمان وأهله بالشام، وهي أرض المحشر والنشر للأنام.
وقد اجتمعت في هذا الكتاب ما ورد في حماية الشام وصيانتها بما فيها من الإيمان والإسلام تطييبًا لقلوب المؤمنين وتسكينًا لهم مما حدث بالشام من الحوادث المزعجة في سنة إحدى واثنين وتسعين بعد سبع مئين من هجرة إمام المتقين، وخاتم النبيين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والله المسئول أن يحسن لنا وللمسلمين العاقبة، وأن يجعلنا من الطائفة القائمة بالحق الغالبة.
وقد قسمته إِلَى عشرة أبواب، والله الموفق للصواب.
الباب الأول: فيما ورد في الأمر بسُكنى الشام.
الباب الثاني: فيما ورد في استقرار العِلْم والإيمان بالشام.
الباب الثالث: فيما ورد في حفظ الشام من الفتن.
الباب الرابع: فيما ورد في استقرار خيار أهل الأرض في آخر الزمان بالشام، وأن الخير فيها أكثر منه في سائر بلاد المسلمين.
الباب الخامس: فيما ورد في أن الطائفة المنصورة بالشام.
الباب السادس: فيما ورد في أن الأبدال بالشام.
الباب السابع: فيما ورد في بركة الشام.
الباب الثامن: في حفظ الله الشام بالملائكة الكرام.
الباب التاسع: فيما ورد في بقاء الشام بعد خراب غيرها من الأمصار.
الباب العاشر: فيما ورد في فضل دمشق بخصوصها.
وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
***