الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل ["الحياء والخوف من الله
" (*)]
ومما يخافه العارفون فوات الرضا عنهم، وإن وجد العفو وترك العقوبة [فإن](1) الرضا أَحَبّ إليهم من نعيم الجنة كله مع الإعراض وعدم التقريب والزلفى.
وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] يعني: أكبر من نعيم الجنة.
وفي الصحيح (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال](1): "إن الله يقول لأهل الجنة: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وما أفضل من ذلك؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
وكان مطرف يقول: "اللهم ارض عنا؛ فإن لم ترض عنا فاعف عنا".
ورئي بعضهم في المنام فسئل عن حاله فَقَالَ: "غفر لي وأعرض عني وعن جماعة من أهل العِلْم لم يعملوا بعلمهم".
فالمحبون العارفون يخافون من مثل هذه الحال، وإنَّما يسألون الرضا من أول الأمر.
قال الفضيل: "من سأل الله رضوانه فقد سأله عظيمًا. وقال: لو أخبرت عن جبريل [وميكائيل](3) وإسرافيل بشدة (اجتهاد)(4) ما عجبت، وكان ذلك قليلاً عند ما يطلبون (أتدري)(5) أي شيء يطلبون؟ وأي شيء يريدون؟
(*) هذا العنوان ليس في الأصل وهو من تصرف محقق المطبوع.
(1)
من المطبوع.
(2)
أخرجه البخاري (6549)، ومسلم (2829).
(3)
من المطبوع.
(4)
في المطبوع: "اجتهادهم".
(5)
في المطبوع: "أتدرون".
يريدون رضا ربهم عز وجل".
وقال جعفر بن سليمان: قال مالك بن دينار "وددت أن الله -تعالى- إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لي: يا مالك، فأقول: لبيك، فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنَّه قد رضي عني، فيقول: يا مالك، كن اليوم ترابًا".
وكان أبو عُبَيد البُسْرى يقول: "ما غمي ولا أسفي إلا أن يجعلني ممن عفي عنه. فقِيلَ لَهُ: [أليس] (1) الخلق عَلَى العفو يتذابحوا؛ فَقَالَ: أجل، ولكن أي شيء أقبح بشيخ مثلي يوقف غدًا بين يدي الله عز وجل فيقال له: شيخُ سوءٍ كنت؛ اذهب فقد عفوت عنك، أنا أملي في الله أن يهب لي كل من أحبني".
ومما يشتد قلق العارفين منه الحياء من الله عز وجل عند الوقوف بين يديه.
قال بعضهم: ما يمر بي أشد من الحياء من الله عز وجل.
وقال الحسن: "لو لم نبك إلا من الحياء من ذلك المقام؛ لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء".
وكان الفضيل يقول: "واسوءتاه منك وإن عفوت".
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت محمد بن حاتم أبا جعفر يقول: قال الفضيل بن عياض: "لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة وبين أن لا أبعث اخترت أن لا أبعث. قال: فقلت لمحمد: هذا من الحياء؟ قال: نعم". وقال أحمد [بن أبي الحواري](2): وسمعت مُضَاء بن عيسى يقول:
كان بعض التابعين يقول: "لئن يؤمر بي من (الجنة)(3) إِلَى النار أَحَبّ
(1) من المطبوع.
(2)
من المطبوع.
(3)
كتب في هامش الأصل: "لعله القبر".
إليّ من أن أقف بين يديه فيسألني ثم يأمر بي إِلَى الجنة" قال: فحدثت به أبا سليمان فَقَالَ: بل نقف بالموقف فتقر به أعيننا".
وإلى قول أبي سليمان ذهب أبو يزيد وغيره من المحبين، وإلى قول الفضيل ذهب حذيفة المرعشي؛ فإنَّه قال:"لو نزل عَلَيَّ ملك من السماء يخبرني أن لا أرى النار بعيني وأني أصير إِلَى الجنة، إلا أني أقف بين يدي ربي، ثم أصير إِلَى الجنة. فقلت: لا أريد الجنة ولا أقف ذلك الموقف".
ورُوي عن أحمد بن أبي الحواري معنى ذلك أيضاً.
ورُوي أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى: فقِيلَ لَهُ: ما هذا الجزع؟ قال: "ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني، والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحيًا منه".
قال ابن أبي الدُّنْيَا: حدثني حسين بن عبد العزيز قال: "كان عندنا شيخ عَلَى أمور ثم أقلع عنها، فلما احتضر أغمي عليه ثم أفاق، فَقَالَ: إن رأيت كأني ميت، وكأن آتيًا أتاني فانطلق بي إِلَى الله عز وجل حتى وقف بي دون الحجاب، فكأنه أرادني عَلَى الدخول فتداخلني الحياء والخوف، وكأنه يقول: ما هو إلا الدخول عليه عز وجل أو دخول النار. قال: فكأني اخترت دخول النار للذي أصابني من الحياء. قال: فانطلق بي ثم إنه عرج بي وقِيلَ لَهُ: انطلق به إِلَى الجنة".
ورُوي عن أبي حامد الخلقاني: "أنَّه أنشدَ الإمامَ أحمد هذين البيتين:
إذا ما قال لي ربي
…
أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب من خلقي
…
وبالعصيان تأتيني
فأمره أحمد بإعادتهما عليه، فأعادهما [عليه](1) فدخل أحمد داره وجعل
(1) من المطبوع.
يرددهما ويبكي".
وأنشد بعضهم:
يا حسرة العاصين عند معادهم
…
هذا وإن قدموا عَلَى الجنات
لو لم يكن إلا الحياء من الَّذِي
…
ستر القبيح (لأعظموا)(1) الحسرات
…
(1) في المطبوع: "لكان أعظم".