الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الموتى والاستغاثة بهم شرك أصغر، ولا قال أن ذلك كالخلف بغير الله. اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم من المتأخرين الضالين الذين قرروا الشرك، وحسنوه للناس نظماً ونثراً. وصار لهم نصيب من قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} .
وأما قوله: وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد فهو كالطيرة.
فهذا كلام باطل يظهر بطلانه مما تقدم فيقال: وأين الجامع بين شرك من جعل بينه وبين الله واسطة يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وكشف كرباته. فيقول: هذا وسيلتي إلى الله وباب حاجتي إليه. وبين من عبد الله وحده لا شريك له ودعاه خوفاً وطمعاً، وأنزل به حاجاته كلها وتبرأ من عبادة كل معبود سواه؟ ولكن وقع في قلبه شيء من الطيرة فالأول: هو دين أبي جهل وأصحابه وهو دين أعداء الرسل من لدن نوح إلى يومنا هذا.
وأما الطيرة فتقع على المؤمنين الموحدين كما في حديث ابن مسعود المرفوع "الطيرة شرك" وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود ورواه الترمذي وصححه وجعل آخره من قول ابن مسعود، وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليس عبد إلا سيدخل قلبه الطيرة فإذا أحس بذلك فليقل أنا عبد الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لا يأت بالحسنات إلا الله ولا يذهب بالسيئات إلا الله أشهد أن الله على كل شيء قدير ثم يمضي لوجهه" وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك" وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طيرة والطيرة على من تطير" ومعنى هذا من تطير تطيراً منهي عنه بأن يعتمد على ما يسمعه أو يراه من الأمور التي يتطير بها حتى تمنعه مما يريد من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة وقال: ما أمر به من هذه الكلمات ومضى فإنه لا يضره ذلك، فإذا كان هذا حال الطيرة فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد.
فإذا أراد السائل أن التطير إذا زجر أو تطير بما يراه من علم النجوم وغيره، أو يسمعه من الكلام يعتقد في ذلك علم الغيب، وأن الطيرة تجتره عما هو صائر إليه في المستقبل، وأن الأفلاك تدبر أمر الخلائق فليس هذا من الشرك الأصغر بل هذا من الشرك الأكبر نظير شرك عباد الكواكب.
فصل: أن ورد في حديث الضرير قوله: يا محمد وفيمن انفلتت دابته قال: "يا عباد الله أحبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله
…
(فصل)
وأما قول القائل: الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير قوله: يا محمد وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته قال: "يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله.
فنقول وبالله التوفيق: اعلم ان الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه
وسلم بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الإشراك، فحمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك حتى في الألفاظ حتى أن رجلاً قال له: ما شاء الله وشئت قال: "اجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده" فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟ بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن داء الميت والغائب لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موتهن ولا قال أحد: أن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائزاً أو مشروعاً لفعلوه ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد كان عندهم من قبور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا استغاث به ولا استنصر به، ومعلوم ان مثل هذا مما توفر الهمم والدواعي على نقل ما هو دونه.
وحينئذ فلا يخلو: أما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل أو لا يكون؟ فان كان أفضل فكيف خفى علماً وعملاً على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة علماً وعملاً بهذا الفضل العظيم، ويظفر به الخلوف علماً وعملاً، وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل أما أن يكون الصحابة الذين رووهما وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما وعلمه هؤلاء المتأخرون، وأما أن يكون الصحابة علموها علماً، وزهدوا فيها عملاً مع حرصهم على الخير وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وكلاهما محال بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره وأحرص الناس على كل خير، وهم نقلوا إلينا سنة نبيناً صلى الله عليه وسلم فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين، والفضلاء فضلاً عن استحبابه والأمر به.
ومعلوم أنهم عرضت لهم شدائد واضطرارات وفتن وقحط وسنون مجدبات أفلا جاؤا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين وله مخاطبين وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين؟ والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم ان له فيه نفعاً، لا سيما الدعاء، فلو كان ذلك وسيلة مشروعة وعملاً صالحاً لفعلوه، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله. وهذه سنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة أو عرضت لهم شدة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلاً عن أن يسألوها حوائجهم؟ فمن كان عنده في هذا أثر أو حرف واحد في ذلك فليوقفنا عليه.
نعم يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون بكثير من المختقات والحكايات المكذوبات، حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فيها التمويهات، والحكايات والخنرعات والأحاديث المكذوبات كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه، ومنها حكايات لهم عن تلك القبور أن فلاناً
استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلان دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلاناً نزل به ضر فأتى صاحب ذلك القبر فكشف ضره ونحو ذلك مما هو مضاد لما بعث الله بمحمداً صلى الله عليه وسلم من الدين.
ومن له معرفة بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم أنه حمى جانب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به فيستدل في حديث الأعمى بقوله يا محمد على أنه أمر بدعائه في حال غيبته فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب وكذلك قوله: "يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك أيضاً هذا من أعظم المحال وأبطل الباطل، بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحي عليه يصدقه ولا يكذبه فإنهما من مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} ونحن نجيب عن هذين الحديثين بعون الله وتأكيده من وجوه.
الوجه الأول: أن القرآن الكريم فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فيرد المتشابه إلى المحكم ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض، وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه فيرد متشابهها إلى المحكم ولا يضرب بعضها ببعض، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضاً، والسنة توافق القرآن ولا تناقضهن وهذا أصل عظيم يجب مراعاته من أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري، من المعلوم أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله متظاهرة مع وضوحها وبيانها كقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات.
فمن أعرض عن هذا كله وتعامى عنه وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد وأبطال الشرك وسد ذرائعه وتعلق بحديث ضعيف بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر وهو قوله: "إذا انفلتت دابة أحدكم فلينادي عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى الذي فيه يامحمد وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله في حال غيبته لم يكن هذا إلا من زيغ في قلبه قد تناوله قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وقوله: صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم".
الوجه الثاني: أن يقول لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك وقد نهى عنه وقد جرد التوحيد لله ونهى عن دعوة غير الله؟ وقال: "إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه يأمر بالتوحيد، ويحذر من الإشراك ثم يأمر أمته بعين ما حذرهم عنه فمن زعم أن قوله:"يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى فمن زعم هذا
فقد حاد الله ورسوله، حيث زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهي عنه.
الوجه الثالث: أن يقال وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر فيظن من في قلبه رائحة الإيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر الذي قد حرمه الله ورسوله، بل إذا علم الإنسان أن هذا الشرك أصغر ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته به كان كافراً وقد قال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك ولو كان أصغر.
ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين فهو بين أمرين لا محيد له عنهما، أما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحب أو جائز ومن قال ذلك: فقد خالف إجماع المسلمين ومرق من الدين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين أن دعاء الموتى جائز، أو مستحب، وأما أن يقول أن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شرك أصغر لا أكبر ومن قال ذلك فقد تناقض في استدلاله حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه، وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستدل بأمره على نهيه؟ ثم يقال: لهذا المستدل بقوله: " فليقل يا عباد الله احبسوا" أخبرنا عن هذا الأمر هل هو للوجوب، أو الاستجابة أو الإباحة؟ وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروه أو محرماً فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال
الوجه الرابع: أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من رواية معروف بن حسان وهو منكر الحديث قاله ابن عدي.
الوجه الخامس: أن يقال إن صح الحديث فلا دليل على دعاء الميت الغائب، فإن الحديث ورد في أذكار السفر. ومعناه أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها فقد جعل الله عباداً من عباده الصالحين أي صالحي الجن أو الملائكة أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} أما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عباداً قد وكلهم لهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حبسوا عليه دابته، فإن هؤلاء عباد الله أحياء قد جعل الله لهم القدرة على ذلك، كما جعل الله لإنس فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه ويرى بعينه كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس، فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور.
بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء قفان الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم ثم بموسى، ثم بعيسى حتى يأتوا نبينا
محمداً صلى الله عليه وسلم بل هذا من جنس استغاثته برفقته من الإنس، فإذا انفلتت دابته ونادى رفقته يا فلان ردوا الدابة لم يكن في هذا بأس، فهذا الذي ورد في الحديث من جنس هذا بل قد يكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من استغاثة العبادة؟ بأن ينادي ميتاً، أو غائباً في قطر شاسع سواء كان نبياً أو عبداً صالحاً.
الوجه السادس: ان الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} فبعد أن أكمله بفضله ورحمته فلا يحل له أن يخترع فيه ما ليس منه، ونقيس عليه ما لا يقاس عليه، بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: كما أمر به فإذا نادى شخصاً معيناً باسمه فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود وإنما ذلك في أمر مخصوص.
وأما حديث الأعمى فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به فانهم قالوا: أن حد الحديث الصحيح إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة، فهذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب، لمخالفته لقواعد الشرع وأصوله، بل من احتج به على دعاء الميت والغائب فقد خالف نصوص الكتاب والسنة مع أنه بحمد الله يواقف ذلك ولا يخالفه، فليس فيه دليل على ما ذكره السائل كما سننبه عليه أن شاء الله تعالى وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام!.
الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في اليوم والليلة والبهيقي وابن شاهين في دلائلهما عندهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة أعني قوله يا محمد ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا نبي الله قد أصبت في بصري فادع الله لي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم اني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"أي أتشفع به إليك "في رد بصري اللهم شفع نبيي في" ففعل ذلك فرد الله عليه بصره" وقال له: "إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل" انتهى.
فهذا الحديث بهذا اللفظ لا حجة للمبطل فيه، لأن غايته أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وساقه الترمذي بسياق قريب من هذا فقال: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني قال "أن شئت دعوت وان شئت صبرت فهو خير لك" قال: فادعه فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء "اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في " هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر وهو غير الخطاء انتهى.
هذا لفظه بحروفه وفي نسخة أخرى إني توجهت إلى ربي، وليست هذه اللفظة في سياق هؤلاء الأئمة أعني قوله: يا محمد التي غاية ما يتعلق به المبطلون.
الوجه الثالث: أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان فيها ما يدل على ذلك لفعله الصحابة رضي الله عنهم، فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه علمنا أنه ليس في ذلك دليلاً فبقي أن يقال ما معناه؟ فنقول ذكر العلماء في معناه قولين أحدهما انه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيدل على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مما بعد مماته إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له، ولا استغاثة به وإنما سأل الله بجاهه وهذا ذكره الفقيه أبو محمد بن عبد السلام، فإنه أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم فيجوز إن صح الحديث فيه يعني حديث الأعمى.
قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى: أم التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلم نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روى فيه أثراً ولا نعلم فيه، إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن وهو حديث الأعمى الذي أصيب بصره، فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به، وللناس في معنى هذا الحديث قولان: أحدهما أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استقى بالعباس فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ثم توسلوا بعم العباس بعد موته، وتوسلهم به استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعاً لهم داعياً، ولهذا قال: في حديث الأعمى اللهم فشفعه في فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له فسأل الله أن يشفعه فيه.
والثاني: أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد وفاته انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى، فتبين بهذا أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حضوره أم التوسل بذاته أن يسأل الله بجاهه والتوسل غير الاستغاثة فإنه لم يقل أحد: أن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان أنه استغاث به بل إنما استغاث بمن دعاه بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان أو بحرمته أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له والمتوسل به لا يدعي، ولا يسأل ولا يطلب منه، وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسؤول والمسئول به.
فالحديث على هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عبد السلام لا حجة فيه لمن جاوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولين الذين ذكرناهما أحدهما: ما ذهب
إليه ابن عبد السلام، والثاني: ما ذهب إليه الأكثرون أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته بحضوره. كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم انا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقنا وانا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فبين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وتوسلهم به هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو معه، فيتوسلون بدعائه كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: "اللهم أغثنا" الحديث بطوله، ففي هذا أنه قال ادع الله أن يغيثنا فلما كثر الغيث قال ادع الله أن يمسكه عنا، فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه، فلما مات صلوات الله وسلامه عليه لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به، فلو كان ذلك مشروعاً لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم ويعدلون إلى العباس؟ وكذلك معاوية رضي الله عنه استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يدك إلى الله فرفع يده ودعا ودعوا فسقوا.
وقال الشيخ الإمام أبو العباس تقي الدين بن تيمية: في رده على ابن البكري لما تكلم على حديث الأعمى قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء، وقوله: أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته، ولهذا قال في تمام الحديث اللهم فشفعه في، فالذي في الحديث متفق على جوازه وليس هو مما نحن فيه انتهى، وقال رحمه الله تعالى: في موضع آخر لفظ التوجه والتوسل يرد به: أن يتوجه به ويتوسل إلى اله بدعائهم وشفاعتهم فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف من الصحابة رضي الله عنهم كقول عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فهذا أخبار من عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلونه وتوسلوا بالعباس كمكا كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد.
ومن هذا الباب ما في البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش الميزاب.
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومن هذا الباب حديث الأعمى فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال "إن شئت دعوته وإن شئت صبرت فهو خير لك" قال: ادع الله فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك