الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصر وعاند كفرناه وقاتلناه، فينبغي للطالب أن يفهم الفرق بين المعين وغيره، فنكفر من دان بغير الإسلام جملة ولا نحكم على معين بالنار ونلعن الظالمين جملة ولا نخص معيناً بلعنة كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق وشار بالخمر، فنلعن من لعنه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم جملة ولا نخص شخصاً بلعنه، بين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة، ولما جلد رجلاً قد شرب قال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".
فصل: قوله أن كثير من العلماء فعلوا هذه الأمور أو فعلت بحضرتهم ولم تنكر
…
(فصل)
وأما قوله ومنها أن كثيراً من العلماء الكبار فعلوا هذه الأمور وفعلت بحضرتهم، ولم تنكر، ومن ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور واتخاذها أعياداً في الغالب فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى إليه من النواحي، وقد يحضرهم بعض العلماء فلا ينكر.
فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن يقال: قد افترض الله على الخلق طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين هل هو واجب أو محرم، أو جائز وجب رد ما وقع فيه الاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دعى إلى ذلك أن يقول سمعاً وطاعة قال الله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ..فنحن نحاكم من نازعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.
فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر وأسرجها وفرشها بالرخام وعلق عليها قناديل الفضة وبيض النعام وكساها كما يكس بيت الله الحرام هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحث عليه أم نهى عنه وأمر بازالة ما وضع من ذلك صلى الله عليه وسلمما أمرنا به ائتمرنا وما نهانا عنه انتهينا، وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النزاع، فنقول قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، وفي صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شفى الهمداني قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوى ثم قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأمر بتسويتها وفي صحيحه أيضاً عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه، وفي سنن أبي داود والترمذي حديث حسن صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها وأمر بهدمه بعد ما يبنى ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها، فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها وننهى عن البناء عليها كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه وأم غبره فيؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة فخذه ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير، وقال أيضاً لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذوا من حيث أخذوا.
والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن تعظيم القبور، وعقد القباب عليها من الجص والآجر، وإسراجها ولعن من أسرجها، ثم يقول فعلت هذه الأمور بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر، وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الأسناد وصحته ويذهبون إلى قول سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فإن كان هذا كلام ابن عباس فيمن عارض السنة لقول أبي بكر وعمر وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان فكيف بمن عارض السنة بقول فلان صلى الله عليه وسلموقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد ما أتخون على أمتي ثلاثة زلة العالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناق الرجال" ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء، فإنه اتباع للخطأ على عمد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يفسد الزمان ثلاثة أئمة مضلون وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم، فإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطىء لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقول لا يعرف وجهه فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن يقال: إذا لم تقنع ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله صلى الله وقلت العلماء أعلم منا وأطوع لله ولرسوله.
فنقول أعلم الناس بما أمر الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه أصحابه رضي الله عنهم فهم أعلم الناس بسنته، وأطوعهم لأمره، وهم الذين رضي الله عنهم عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة" وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير القرون قرني الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فان الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبه نبيه واقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديتهم فانهم كانوا على الصراط المستقيم، وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من قبلكم فوالله لقد سبقتم سبقاً بعيداً ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم صلالاً بعيداً.
فان احتج أحد علينا بما عليه المتأخرون قلنا الحجة بما عليه الصحابة، والتابعون والذين هم خير القرون لا بما عليه الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نقل عنهم انهم عقدوا القباب على القبور وأسرجوها، وخلقوها وكسوها الحرير أم هذا مما حدث بعدهم من المحدثات التي هي بدع صلى الله عليه وسلم معلوم أن عندهم من قبور الصحابة الذين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ما لا يحص هل بنوا على قبورهم وعمظوها ودعوا عندها.. صلى الله عليه وسلمضلاً عن أن يسألوها حوائجهم أو يسألوا الله بأصحابها، فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلفائه الراشدين.
وقد روى خالد بن سنان عن أبي العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فانا أول رجل من العرب قراه قرأته مثل ما أقرأ القرآن قال خالد: فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فما صنعتم بالرجل قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان بالليل دفناه، وواسينا القبور كلها مع الأرض لنعميه عن الناس لا ينبشونه فقلت وما يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم ابرزوا السرير فيمطرون فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت ما كان تغير منه شيء قال: لا: إلا شعرات من قفاه أن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.
ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من نعيمه قبره لئلا يفتتن به الناس،
ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به هؤلاء المشركون وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظموه، وزخرفوا قبره وأسرجوه، وجعلوه وثنا يعبد، فانهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً ممن لا يداني هذا ولا يقاربه، بل لعله عدو الله، وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد، واعتقدوا أن الصلاة عندها، والدعاء حولها والتبرك بها فضيلة مخصوصة ليست في المساجد، ولو كان الأمر كما زعموا بل لو كان مباحاً لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً ولما أخفوه خشية الفتنة به، بل دعوا عنده وبينوه لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من هؤلاء الخلوف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرفوا لغير الله جل العبادات وما أحسن ما قال الأمام مالك رحمة الله صلى الله عليه وسلمن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن لكل ما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه وسنة خلفائه الراشدين تعوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك، ومن له خبرة بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور وما يفعل بها وما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم وازن بين هدية صلى الله عليه وسلم وهدى أصحابه، وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور تبين له التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغرباً
…
شتان بين مشرق ومغرب
الوجه الثالث: أن يقال: قوله، أن كثيراً من العلماء فعلوا هذه الأمور وفعلت بحضرتهم فلم ينكروا، من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور.
فيقال: بل قد نهوا عن ذلك وصرحوا بكراهته والنهي عنه وهذه كتبهم بأيدنا مصرحة بما ذكرنا، ونحن نسوق عباراتهم بألفاظها، فأما كلام الحنابلة فقال في الإقناع: ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه، ويكره البناء عليه سواء لاصق البناء القبر أو لا، ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى، في إغاثة اللهفان: ويجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول انتهى، وهو في المسبلة أشد كراهة قال الشيخ: هو غاضب، وقال أبو حفص: تحرم الحجرة بل تهدم وهو الصواب انتهى كلامه في الإقناع، وهذا الذي ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة فلا حاجة إلى الاطالة بنقل عباراتهم.
وأما كلام الشافعية فقال الأذرعي رحمه الله تعالى: في قوت المحتاج إلى شرح المنهاج عند قول المؤلف رحمه الله تعالى: ويكره تجصيص القبر، والبناء والكتابة عليه، ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء، وفي الترمذي وغيره والنهي عن الكتابة، وعبارة الحلوانية ممنوعا منهما، وعبارة القاضي ابن كج ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة، وقال الحضرمي في شرح المهذب، وقد يقولون: يعني الأصحاب لا تبنى القبور وكأنهم يريدون لا تبنى القبور نفسها بآجر والبناء قبل فالمفهوم من كلامهم أن هذا كالتجصيص فيكره، ولا يحرم، إلا أن يريد في المقبرة المسبلة فيحرم قلت: وينبغي تحريمه في المسبلة مطلقاً
وان لم يضيق لأنه قد أبدى بالجص وإحكام البناء فيمنع من الدفن هناك بعد البلاء، ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره على من علم النهى عنه بل هو القياس الحق، قوله: ولو بنى في مقبرة مسبلة هدم أي بناء على القبر فيها، وعلى الفرق في التحريم بيت ملكه وملك غيره جرى كثيرون منهم القاضيان الحسين، والمارودي في موضع آخر فقال: يكره البناء على القبور كالقباب والبيوت، وان كان في غير ملكه لم يجز للنهي عن ذلك والتضييق، قال الشافعي رضي الله عنه: ورأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى منها ولم أر الفقهاء يعيبون في ذلك عليهم انتهى.
وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وانفاق الأموال الكثيرة عليها فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر ويعمل بالوصية بذلك مع قول الأصحاب: لا تنفذ الوصية حيث لا حاجة إليه ومن جوز البناء في الملك صرح بالكراهة فكيف تنفذ الوصية على المكروه؟ انتهى كلام الاذرعي رحمه الله: فصرح بأن البناء مكروه وساق عبارات الأصحاب، وهل الكراهة كراهة تحريم أم لا؟ أم يفرق بين المسألة وغيرها؟ واختار التحريم مطلقا في ملكه وغيره على من علم النهي وقال بل هو القياس الحق.
وأما المالكية، فقال القرطبي رحمه الله في شرح مسلم: لما ذكر قوله: صلى الله عليه وسلم: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" ظاهرة منع تسنيم القبور ورفعها اوان تكون لاطئة بالأرض، وقد قال به: بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بازالته ليس هو التسنيم ولا يعرف به القبر كي يحترم إنما هو الارتفاع الكثير الذي كانت الجاهلية تفعله، فانها كانت تعلى عليها وتبنى فوقها تفخيما لها وتعظيماً، وأما تسنيمها فذلك صفة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر على ماذكر في الموطأ، وقد جاء عن عمر أنه هدمها وقال ينبغي أن تسوى تسوية تسنيم وهذا معنى قول الشافعي تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع وتكون على وجه الأرض، وتسنيمها اختاره أكثر العلماء وجملة أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي، قلت والذي صار إليه عمر أولا فانه جمع بين التسوية والتسنيم.
وقوله نهى أن يجصص القبر ويبنى عليه التجصيص هو البناء بالجص وبظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره، وهذا حديث حجة عليه ووجه النهي على البناء، والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة واستعماله زينة الدنيا في أول منازل الآخر وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها، وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال هو حرام كما قد قال به: بعض أهل العلم انتهى كلام القرطبي رحمه الله.
وقال الشيخ سالم السنهوري: في كتابه تيسير الملك الجليل شرح مختصر خليل قال بعض: لا شك أن المعلاة والشبيكة من مقابر المسلمين المسبلة، المرصدة لدفن الموتى بمكة المشرفة وأما البناء بهما لا يجوز ويجب هدمه يدل له قول الشافعي: رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بنى بها، قال في المداخل: وقد جعل عمر رضي الله عنه القرافة بمصر لدفن موتى المسلمين واستمر الأمر على ذلك وأن البناء بها ممنوع وان
السلطان الظاهر أمر باستفتاء العلماء في زمانه في هدم ما بها من البناء فاتفقوا على لسان واحد يجب على ولي الأمر هدمه وأن يكلف أصحابه رمي ترابها في الكمارة، ولم يختلف في ذلك أحد منهم، ثم إن الظاهر سافر إلى الشام فلم يرجع انتهى، قال بعض ولم أحداً من المالكية أباح البناء حول القبور في مقابر المسلمين سواء كان الميت صالحاً، أو عالماً أو شريفاً أو سلطاناً أو غير ذلك.
وفي جواب ابن رشد عن سؤال القاضي له عن ذلك أما ما بني في مقبرة المسلمين ووقف، فإن وقفه باطل وأنقاضه باقية على ملك ربها إن كان حياً أو كان له ورثة، ويؤمر هو ووارثه بنقلها عن مقابر المسلمين، وإن لم يكن له وارث استأجر القاضي على نقلها منها وصرف الباقي في مصاريف بيت المال، ولا يؤخذ جواز البناء على القبور من قول الحاكم في مستدركه عقب مصاريف بيت المال، ولا يؤخذ جواز البناء على القبور عليه ليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين شرقاً وغرباً مكتوب على قبورهم، وأخذه الخلف عن السلف فيكون إجماعاً مستنداً إلى حديث آخر كخبر "لا تجتمع أمتي على ضلالة" ولا من وقل ابن قداح في مسائله: لا يجوز البناء على القبر وهل يكتب عليه أولا؟ لم يرد في ذلك عن السلف الصالح شيء ولكن إن وقع وعمل على قبر رجل من أهل الخير فخفيف لأن كلام الحاكم وابن قداح خاص بالكتابة لا يتعداها إلى البناء.
وقال ابن رشد كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة وهي من بدع أهل الطول وأحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة وهو مما لا اختلاف فيه ، انتهى.
فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور والمراد بالكراهة كراهة التحريم التي هي مقابلة ترك الواجب، وقد ذكروا من قواعدهم أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، وممن نبه على ذلك ابن نجيم في البحر وغيره حيث قال كلام السهنوري رحمه الله.
وأما كلام الحنفية فقال الزيلعي في شرحه: على الكنز عند قول الماتن ويسنم القبر ولا يربع ولا يجصص، لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنماً، وقال إبراهيم النخعي: أخبرني بعض من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنمة، وسنم محمد بن الحنفية قبر ابن عباس، ويسنم قدر شبر وقيل أربعة أصابع، ولا بأس برش الماء عليه حفاظاً لترابه عن الاندراس. وعن أبي يوسف أنه كرهه لأنه يجري مجرى التطيين، ويكره أن يبني على القبر، وفي الخلاصة ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء، وذكر أيضاً قاضي خان في فتاويه أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والتقصيص وعن البناء فوق القبر قالوا أراد بالبناء السفط الذي يجعل في ديارنا، وقال ابن الهمام في فتح القدير قال أبو حنيفة حدثنا شيخ لنا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها، وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن حماد ابن أبي سليمان
عن إبراهيم قال أخبرني من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر فانتزه من الأرض وعليها فلق أبيض من مدر.
فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور والمراد بالكراهة كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب، وقد ذكروا من قواعدهم أن الكراهة حيث أطلقت فالمراد منها التحريم، ومن نبه على ذلك ابن نجيم في البحر وغيره حيث قال وأفاد صحة إطلاق الحرمة على المكروه تحريماً، وتأمل كلام الزيلعي وما ذكره من الخلاف بين الأصحاب هل يسنم قدر شبر أو قدر أربع أصابع وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء لأنه يجري مجرى التطيين، وهل هذا منهم رحمهم الله إلا اتباع ما عليه السلف الصالح؟ من ترك تعظيم القبور التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك.
فتأمل رحمك الله كلام العلماء من أهل المذاهب الذين نقلنا عنهم، والموجود في كلام غيرهم يوافق ذلك ولا يخالفه، وكلامهم صريح في النهي عن البناء على القبور، لكن هل هو تحريم أو تنزيه اختلفوا في ذلك فبعضهم قال: هو حرام مطلقاً إتباعاً للنص ولم يفرق بين ملكه وغيره، وبعضهم صرح بالنهي مطلقاً، وجعل التحريم في البناء في المقبرة المسبلة، والقول بتحريمه في المسبلة هو قول الأئمة الأربعة وهذا صريح في إبطال ما ذكره القائل أن العلماء لم ينكروا ذلك فإذا كانوا مصرحين بالنهي عن ذلك في كتب أصحاب الأئمة الأربعة. فكيف يقال: لم ينهوا عن ذلك بل أقروهم وقد صرحوا بتحريمه، وجوب هدمه إذا بنى في مقابر المسلمين، ومع هذا فقد ضيقت المقابر بالقباب في كل مصر من الأمصار مع وجود النهي والإنكار، فظهر لك بهذا وتبين أنه ليس بناء هذه القباب وتعظيمها، وإسراجها بأمر من العلماء، ولا رضى منهم بذلك، بل هو بأمر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وشربوا الخمر والمسكرات وأعرضوا عن سماع الآيات، وأقبلوا على سماع الأبيات، فهل يقول أحد: أن هؤلاء الذين تركوا المأمور وارتكبوا كل محظور قد أقرهم العلماء على ذلك ورضوا به ولم ينكروه.
وهذا القائل الذي زعم أن بناء القباب جائز لأن العلماء لم ينكروه يقال له: هل وجد في زمانهم من ترك الصلاة ولا يؤدي الزكاة ويشرب الخمور ويجاهر بالفجور؟ فإن قال: لم يوجد فهذا مكابرة كمن ينكر الشمس بالهاجرة وإن قال: بل وجدت في سائر الأقطار وكثر في جميع الأعصار والأمصار، فيقال: هل أجازه العلماء ورضوا به، فإن كان وجود القباب يدل على رضاهم بها فهذا مثله، وكيف يقال: إن العلماء بذلك راضون وله فاعلون؟ وهذه كتبهم مشحونة بالنهي عن ذلك وتحريمه ويوجبون هدمه في المقابر المسبلة.
وهذه المقابر المسبلة بالقباب في الحرمين ومصر والشام والعراق وبلاد
العجم وكتبهم تنهى عن ذلك وتحرمه وتوجب هدمه ولا يقول: أن العلماء لم ينكروه إلا من قصر في العلم باعه وقل نظره واطلاعه هذا مع أنا نقول كما قال: صلى الله عليه وسلم: "خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"، فلو قدر أن المتأخرين فعلوا ذلك وحضروه وأقروه ولم ينكروه لم يكن قولهم: حجة {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وافق هديه فهو مقبول وما خالفه فهو مردود كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وكل قول يخالف سنته فهو مردود على قائله، وما أحسن ما قال الشافعي رحمه صلى الله عليه وسلمإذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاضربوا بقولي الحائط وقال أيضاً: "أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وصح عنه أنه قال: إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب، وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وان كان لسان الشافعي فهو لسان الجماعة كلهم.
وابلغ من هذا كله قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فهذا دليل على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله أصوله وفروعه إلى الله ورسوله لا إلى غير الله ورسوله، ولهذا قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد النزاع كان خارجاً عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي هذا الرد الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول خير لكم في معاشكم ومعادكم وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم وأحسن عاقبة فدل على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً.
وهذه قاعدة عظيمة مهمة يحتاج إليها كل أحد وطالب العلم إليها أحوج فانه في غالب الأحوال يرى نصوص أهل مذهبه قد خالفت نصوص غيرهم من أهل المذاهب فلا ينبغي له أن يهجم على كتب المذاهب، ويأخذ بعزائمها ورخصها بل الواجب عليه أن يطلب ما جاء في تلك المسائل عن الله ورسوله، ويعرض نصوص مذهبه ونصوص غيرهم من أهل المذاهب على ما جاء عن الله ورسوله فما وافقها قلبه وما خالفها رده على قائله كائناً من كان فيجعل ما جاء عن الله ورسوله هو المعيار ويدور معه حيث دار.
وكثير من الناس أو أكثرهم نكس هذا الحكم على رأسه وجعلوا الحكم للكتب التي
صنفها المتأخرون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، بل صرح بعضهم في مصنفاته بأنه يجب على العامي أن يتمذهب بمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، وان خالف نص الكتاب أو السنة وهذا من أعظم حيل الشيطان، وحبائله التي صاد بها كثيراً ممن ينتسب إلى العلم والدين فنبذوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وأقبلوا على الكتب التي صنفها متأخروهم. وقالوا هم أعلم به، ثم لم يكتفوا بها، ولم يعملوا بما فيها بل أن وافق ما فيها أهواءهم قبلوه وعملوا به، وقالوا نص عليه في الكتاب الفلاني، وان خالف ما فيها أهواءهم لم يعبأوا بها، ولم يحتجوا بها بل ربما جعلوا حجتهم ما فعله اخوان الشياطين من الرعايا والسلاطين الذين بنوا القباب على القبور وارتكبوا كل محظور فزخرفوا القبور بالبناء وكسوها كما يكسى البيت الحرام وفعلوا عندها ما يفعله عباد الأصنام حتى آل الأمر إلى أن صار فعلهم هذا حجة تعارض بها النصوص، فيقول قائلهم هذا موجود في كل عصر ومصر من غير نكير فيكون اجماعاً هذا مع علمه بما نص عليه الفقهاء من النهي عن ذلك، وتحريمه خصوصاً البناء في المقابر المسبلة فانهم اتفقوا على تحريم البناء فيها.
ثم لا يخفى ما في الحرمين الشريفين من القباب المبنية في المعلاة والبقيع ومقابر مصر كالقرافة وغيرها، ومقابر الشام وغيرها فهلا أنكر المتأخرون ما نهى عنه علماؤهم وحرموه، بل أعرضوا عن ذلك كأنهم لم يسمعوه، بل أعرضوا عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وغلبت عليهم العادة التي نشئوا عليها ووجدوا أهلهم عليها، واحتجوا بالحجة القرشية {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} والحجة الفرعونية {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} وقبلهم ابراهيم لما قال لهم عليه السلام:{أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
والمشركون في هذا الزمان يسلكون سبيلهم خذو القذة بالقذة لما أنكرنا عليهم الشرك بالله وتعظيم القبور، والبناء عليها، واسراجها ودعاءها، والدعاء عندها ولم يكن لهم حجة يحتجون بها إلا هذه الحجج التي حكى الله عن المشركين من قريش ومن قبلهم، فيقولون هذا قد وجد من ستمائة سنة فلم ينكر هذا عمل الناس في القديم والحديث هذا فلان قد نص على هذا في منسكه هذا صاحب البردة قد ذكره في بردته هذا فلان حضره فلم ينكره، وهذه الشبهة هي التي ملأت قلوبهم وأخذت أسماعهم وأبصارهم فلم يلتفتوا إلى غيرها، فإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
وغاية ما يحتج به أحدهم إذا قيل له انزل والجىء إلى المحاجة والمناظرة أن يقول القرآن لا يفسره إلا الصحابة كان ابن عباس لا يفسره إلا في الصحراء مخافة أن ينزل عليه العذاب، فإذا قيل له بيننا وبينكم تفاسير السلف كابن عباس قال لسنا أهلاً لذلك، بل فرضنا التقليد ومشائخنا أعلم منا بكتاب الله، فلو كان هذا شركاً لما ذكروه في مناسكهم وأشعارهم ثم ينشد من الأشعار ما تقشعر منه الجلود لما فيها من الشرك