الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذا وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات وأما قولهم: في حديث العباس فطفق الناس يتمسحون به فلم نقف لها على أصل ولا رأيناها في شيء من الكتب وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.
فصل: في قوله إن سلمنا هذا القول وظهر دليله فالجاهل معذور لأنه لم يدر ما الشرك والكفر ومن مات قبل البيان فليس بكافر
…
(فصل)
وأما قوله إن سلمنا هذا القول وظهر دليله فالجهل معذور لأنه لم يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرةن لأن قصة ذات أنواط وبني إسرائيل حين جاوزوا البحر تدل على ذلك إلى آخره.
فالجواب أن يقال: أن الله تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . وقد أجمع العلماء على أنه من بلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه، ومعلوم بالإضرار من الدين أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده لا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلا هو ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف خوف السر إلا منه، والقرآن مملوء من هذا قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة.
والله تعالى لا يعذب خلقه إلا بعد الاعذار فأرسل رسله وأنزل كتبه لئلا ويقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} . وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام قد بينها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام حجته، على عباده، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم الحجة من الله تعالى مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه: فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .. والآيات في هذا المعنى كثيرة يخبر سبحانه أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه وأنه عاقبهم بالأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم
وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم، فلم يعذرهم مع هذا كله بل حكم بكفرهم وأمر بقتالهم، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بكفرهم، فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع وفهمها نوع آخر.
وقد سئل شيخنا رحمه الله تعالى عن هذا الآية فأجاب السائل بقوله: من العجب العجاب كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مراراً، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحمها في كتابه فإن حجة الله في القرآن فمن بلغه فقد بلغته الحجة وبلوغها نوع وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم مع كونهم لم يفهموها.
وإن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتوهم فاقتلوهم" مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر معهم الإنسان عمل الصحابة، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشديد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم مطيعون لله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم وهم أيضاً يظنون أنهم على حقن وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية وغيرهم مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل أنهم لم يفهموا فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا انتهى كلامه.
إذا تقرر هذا فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، بل نقول: من بلغته هذه الدعوة، المحمدية وانقاد لها، ووحد الله وعبده وحده لا شريك له، والتزم شائع الإسلام وعمل بما أمره الله به وتجنب ما نهاه عنه فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة في كل زمان وفي كل مكان، وأما من كانت حاله حال أهل الجاهلية لا يعرف التوحيد الذي بعث الله ورسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله ورسوله ينهى عنه ويقاتل عليه، فهذا لا يقال أنه مسلم لجهله، بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله فظاهره الكفر فلا يستغفر له ولا يتصدق عنه ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر ويعلم ما تخفي الصدور.
ولا نقول: فلان مات كافراً لأنا لا نفرق بين المعين وغيره فلا نحكم على معين بكفر لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره بل نكل ذلك إلى الله، ولا نسب الأموات بل نقول أفضوا إلى ما قدموا، وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك بعدما ندعوه إلى ما دعا إليه