الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد مع تطيينها بطين طاهر وهذا باطل قطعاً، وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزماً لا يحتمل النقيض ان هذه المبالغة واللعن والنهي ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك فان هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للاخر مناقضاً له: فانه نهى عن الصلاة اليها وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى أن ايقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على ايقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذا عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً، ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها وهؤلاء يرفعونها ويبنون عليها القباب، ونهى عن الكتاب عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها وهؤلاء يزيدون سوى التراب الآجر والاحجار والجص، فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور وفي ما نهى عنه محادون له في ذلك.
فاذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها واسراجها، والبناء عليها والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك مثل بناء المساجد عليها، ودعائها وسؤالها قضاء الحاجات، واغاثة اللهفات غضب المشركون واشمأزت قلوبهم، وقالوا قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعطائم ونفروا الناس عن دين الاسلام، ووالوا أهل الشرك، وعظموهم {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
فصل: قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى إليه من النواحي وقد يحضره بعض العلماء ولا ينكر
…
(فصل)
وأما قوله: فالكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم يؤتى اليه من النواحي وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر.
فنقول أما قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم فقد قدمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعياداً، وإنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان، ومكان فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم:"يوم عرفة وأيام النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام " رواه أبو داود وغيره، وأما المكان فكما روى أبو داود في سننه أن رجلاً قال يا رسول الله: أنى نذرت
أن انحر إبلا ببوابة فقال: " أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم"؟ قال لا قال: "فأوف بنذرك" وكقوله: " لا تجعلوا قبري عيداً" فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فاذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، واتيانه للعبادة ولغيرها، كما ان المسجد الحرام ومنى ومزدلفة، وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء كما جعل أيام التعبيد فيها عيداً فاتيان القبور في يوم معلوم من شهر معلوم والاجتماع لذلك بدعة لم يشرعها رسول الله، ولم يفعلها الصحابة، ولا التابعون لهم باحسان سواء كان ذلك في البلد أو خارجا عنه.
وأما قوله: يؤتي إليه من النواحي.
فنقول: وهذا أيضاً بدعة مزعومة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان، وبين ذلك أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية فالزيارة الشرعية مقصودها ثلاثة أشياء: أحدهما تذكير الآخرة، والاتعاظ والاعتبار، والثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيهجره ويتناساه، فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة سر الميت بذلك كما يسر الحي من يزوره ويهدي له، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة، والرحمة لوم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعوا بهم، ولا يصلي عندهم، والثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة والوقوف عند ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيحسن إلى نفسه وإلى المزور.
وأما الزيارة البدعية الشركية: فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام، وهو أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده أو الدعاء عنده به أو طلب الحوائج منه، والاستغاثة به ونحو ذلك من البدعة التي لم يشعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان كما تقدم بيانه مبسوطاً.
ثم أعلم أن الشرعية هي التي لا تشد الرحال فإن كانت بشد رحل فهي زيارة بدعية لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة، بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال:"لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد المسجد الأقصى ومسجدي هذا" وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد ويعتكف فيه أو يسافر إليه لم يجب عليه في ذلك باتفاق الأئمة، حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قبا لأنه ليس من الثلاثة مع أن مسجد قبا تستحب زيارته لمن كان بالمدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الصحيح "من تطهر في بيته ثم أتى قبا لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة".
قالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين لم يفعلها أحد من الصحابة التابعين، ولا أمر بها رسول صلى الله عليه وسلم، ولا استحسنها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة، وإنما اختلف العلماء اتباع الأئمة في الجواز بعد اتفاقهم على أنه ليس مشروعاً ولا مستحباً فالمتقدمون منهم قالوا:
لا يجوز السفر اليها ولا تقصر الصلاة في هذا السفر لأنه معصية وهذا قول: أبى عبد الله بن بطه وأبى الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة، وذهب طائفة من المتأخرين أصحاب أحمد والشافعي إلى جواز السفر إليها كأبي حامد الغزالي وابن عبدوس وأبي محمد المقدسي وأجابوا عن حديث "لا تشد الرحال" بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة ورد عليهم الجمهور من وجهين:
أحدهما: أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قرية ولا طاعة، ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاده أنه طاعة فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضاً من الأغراض المباحة فهذا جائز.
الوجه الثاني: أن النفي يقضي النهي والنهي يقتضي التحريم، والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ولا حسن، ولا روى أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي في ذلك شيئاً، بل ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد، وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة كموطأ مالك وغيره، بل لما سئل الإمام أحمد وغيره وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة عن هذه المسألة لم يكن عنده ما يعتمد عليه إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام" وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه، وكذلك مالك في الموطأ روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبة ثم ينصرف.
واتفقت الأمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصاً عنه، قال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه، وقال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي ومن رخص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعوا مستقبل القبلة، أما مستدبر القبر، وأما منحرفاً عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر، وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس فيهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر أعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين مشهد يقصد بالزيارة لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن ولا العراق، ولا خرسان ولا مصر، بعدما فتح الله هذه البلاد وصارت بلاد إسلام، وإنما حدث فيها بعد
انقراض عصر السلف، فصار يوجد في كلام بعض الناس فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعي عند قبره، وبعضهم يقول قبر فلان الترياق، المجرب ونحو ذلك، مما لم يكن معروفاً في عهد الصحابة والتابعين، وقائل هذا أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً فيعفو الله عنه، أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا، بل يقال هذه زلة فلا يجوز تقليده فيها إذا عرف أنها زلة لأنه اتباع للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر من العارف وكلاهما مفرط فيما أمر به وقال الشعبي قال عمر رضي الله عنه يفسد الزمان ثلاثة أئمة مضلون وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وزلة العالم وقال معاذ رضي الله عنه احذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق، وقال اجتبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.
واعلم رحمك الله أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفرة والزلة وهو فيها معذور بل مأجور لاجتهاد، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يهدر مكانه وإمامته منزلته من قلوب المسلمين، قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهما: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله، وقدر روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة: قال وما هي يا رسول الله قال "أخاف عليهم من زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى الحق منار كأعلام الطريق".
ويكفي اللبيب في هذا ما قصه الله في كتابه عن بني إسرائيل مع صلاحهم، وعلمهم أنهم بعدما فلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم أتوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قائلين اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكذلك ما رواه الترمذي وغيره أن أناساً من الصحابة في غزوة حنين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم".
فإذا كان قد خفي عليهم مع صلاحهم ووضوحه وبيانه وقبلهم قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم وقد اختارهم الله على عالمي زمانهم وخفي عليهم هذا وقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري فيفيد الحرص بذل الجهد في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا وأبى الله أن يصح إلا كتابه وأن يعصم إلا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا اشتبه عليه الحق في هذا الباب أو غيره، فليدع بما رواه في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام من الليل: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
قال شيخ الإسلام علم الهداة الأعلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام بن عبد الوهاب أجزل الله لهم الثواب وأدخلهم الجنة بغير حساب.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قال الله خطاباً له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه ومن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
أما بعد فإني وقفت على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وقد سئل عن أبيات من البردة وما فيها من الغلو والشرك العظيم المضاهي لشرك النصارى ونحوهم ممن صرف خصائص الربوبية والألوهية لغير الله كما هو صريح الأبيات المذكورة، ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه وأن الجنة عليه حرام، وذكر الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك وصرف خصائص الربوبية والألوهية لغير الله، فأعترض عليه جاهل ضال فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشفاعة قوله أول المنظومة.
دع ما ادعته النصارى في نبيهم.
البيت المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم".
الجواب: إن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور فلو عرف الناظم وهذا المعترض ومن سلك سبيلهم حق الله على عباده وما اختص به من ربوبيته وألوهيته وعرفوا معنى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لما قالوا هم وأمثالهم ممن جهل التوحيد كما قال تعالى في حق من هذا وصفه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} فالجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيراً من
هذه الأمة فظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال (فمن) ونحو ذلك من الأحاديث.
وقوله ويكفيك في نفي هذه الشفاعة قوله أول المنظومة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم -البيت.
الجواب: إن هذا يزيده شناعة ومقتاً لأن هذا تناقض بين وبرهان أنه لا يعلم ما يقول فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو العظيم الذي نهى عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله أو فعل ما يوصل إليه بقوله:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" وقوله لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت: قال: "أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده" وقال: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" فلقد حذر أمته وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دق منه وجل، ودعا الناس إلى التوحيد ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك حتى أزل الله به الشرك والأوثان من جميع الجزيرة وما حولها من نواحي الشام واليمن وغير ذلك.
وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها كما هو مذكور في كتب الحديث، والتفسير والسير كما في حديث أبي الهياج الأسدي الذي في الصحيح قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم مناة، وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهم اللات فهدمها وأزال من جزيرة العرب وما حولها جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله، والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر واعتنوا به بإزالته أعظم الاعتناء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف كما في حديث العرباض بن سارية قال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً" الحديث، فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة كما هو معلوم عند العلماء، ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه لخرج بنا عن المقصود من الاختصار، فانظر إلى ما وقع اليوم من البناء على القبور، والمشاهد وعبادتها، فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينسبون إلى العلم، قال سليمان التيمي لو أخذت بزلة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله، فإنا لله وإنا غليه راجعون.
وقوله المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم".
أقول لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في النهي عنه لا في المنهى، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء طابقته الأبيات من قوله:
يا أكرم الخلق مالي من الوذ به
…
سواك
…
إلى آخرها
فقد تضمنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم، فإنه قصر خصائص الالهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفها لغير الله، فإن الدعاء مخ العبادة واللياذ من أنواع العبادة، وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله، فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب إنما هو الدعاء واللياذ بالقلب واللسان، وهذه هي أنواع العبادة التي ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وشكرها لمن قصرها على الله ووعده على ذلك الإجابة والإثابة كقوله تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} الآية فهذا هو الدين الذي بعث الل به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقول لهم:{إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (الجن:20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} إلى آخر الآيات وهذا هو توحيد الربوبية فوحد الله في الهيتة وربوبيته وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (الشرح:7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أمره بقصر الرغبة على به تعالى وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .
ونهى عن الاستعاذة بغيره بقوله تعالى عن مؤمن الجن {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} واحتج الإمام أحمد رحمه الله وغيره على القائلين بخلق القرآن بحديث خولة بنت حكيم مرفوعاً "من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" الحديث على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك من القرآن والحديث كثير يظهر بالتدبر.
وأما قول المعترض أن النصارى يقولون: أن المسيح ابن الله نعم قاله طائفة، وطائفة قالوا: هو الله والطائفة الثالثة قالوا هو ثالث ثلاثة، وبهذه الطرق الثلاثة عبدوا المسيح عليه السلام فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح، وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح والأحبار والرهبان، وأما المسيح فعبادتهم له بالتأله وصرف خصائص الالهية له من دون الله كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} فأخبر أن الالهية وهي العبادة حق الله لا يشركه فيها أولوا العزم ولا غيرهم يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
وأما عبادتهم للأحبار فإنهم أطاعوهم فيما حللوه لهم من الحرام وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال، ولما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره من الشام، وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانياً فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم تلا عليه هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال يا رسول الله لسنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه" قال: بلى "قال: فتلك عبادتهم" ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته وأطاع غير الله في معصيته فقد اتخذه رباً ومعبوداً وهذا بين بحمد الله.
فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى قولهم، وفعلهم وعلى كل من عبد معه غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة، لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه، وأحبوا أهله فترامى بهم هذا الداء العضال إلى ما ترى من التخليط والضلال والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان " فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
ولا شفاء لهذا الداء العظيم إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية، والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ومثل قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحد من خلقه، فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم كالمسيح بن مريم، ويعبدون أحبارهم ورهبانهم.
وتأمل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقوله: {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} تعم كل شرك دق أو جل كثر أو قل، قال العماد بن كثير في تفسيره هذا الخطاب مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم وقوله:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} لا وثناً ولا صنماً، ولا صليباً ولا طاغوتاً، ولا ناراً، ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، قلت وهذا هو معنى لا إله إلا الله، ثم
قال وهذه دعوة جميع الرسل قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} انتهى المقصود.
وقال رحمه الله: في تفسير قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية قال محمد بن إسحق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام أتريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى بن مريم فقال رجل من أهل نجران يقال له الرئيس: أو ذاك منا يا محمد وإليه تدعونا أو كما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله، وما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله عز وجل في ذلك {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون الله أي مع الله.
وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا مرسل فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى، ولهذا قال الحسن البصري لا ينبغي هذا للمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، وذلك أن القوم كان يفسد بعضهم بعضاً يعني أهل الكتاب وقوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ} -بعبادة أحد غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي لا يفعل ذلك، لأن من دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء، إنما يأمرونكم بالإيمان وعبادة الله وحد لا شريك له كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} انتهى وهو في غاية الوضوح، وبيان التوحيد وخصائص الربوبية، والالهية ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن وفي السنة من الأحاديث كذلك.
فإذا كان من المستحيل عقلاً وشرعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين أن يأمروا أحداً بعبادتهم فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة أن يقبلوا قول صاحب البردة.
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة، وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستغاثة، والالتجاء إلى غير الله وهذه هي معظم العبادة كما أشير إلى ذلك كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وعن أنس رضي الله عنه مرفوعاً "الدعاء مخ العبادة" رواه الترمذي وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
…
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} الآية وفي الحديث الصحيح قال لأبنته فاطمة وأحب الناس إليه: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك الله من شيء" فتأمل ما بين هذا وبين قول الناظم من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره اله تعالى وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ، وتأمل ما ذكره العلماء في سبب نزول هذه الآية وأمثال هذا الآية كثير لم ينسخ حكمها ولم يغير، ومن دواعي ذلك فقد افترى على الله كذباً وأضل الناس بغير علم كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة والله أعلم.
وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها.
فمن المعلوم أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقها لهم، بل أدخلهموها غيره {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} وفي الحديث الصحيح "لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال:"ولا أنا إلا أن يتغمدني اله برحمته" وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالأُولَى} فلا شريك لله في ملكه كما لا شريك له في ألهيته، وربوبيته، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم:
وهذا أيضاً كالذي قبله لا يجوز أن يقال: إلا في حق الله تعالى: الذي أحاط علمه بكل شيء كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} وقال
تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر، وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والالوهية التي بعث الله رسله وأنزل كتبه لبيانها واختصاصها لله سبحانه دون كل من سواه، وقال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} كقوله في آية الكرسي: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله على ما شاء من الغيب بوحيه اليهم، فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة وما جرى عليهم كما قال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}
وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك أطلع الله عليه رسوله والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وأما احاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن فذاك إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من خلقه، فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فما أجرأ هذا القاتل على الله في سلب حقه وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، فمن لا يعرف والشرك وما عابه القرآن وذمة وقع فيه، وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف انه الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الايمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً والله المستعان انتهى.
قلت وقد رأينا ذلك والله عياناً من هؤلاء الجهلة الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة اشربت قلوبهم بالشرك والبدع واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فضلوا وأضلوا.
وأما قول الناظم:
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً
…
............... البيت
فهذه من جهله إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل أن الاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين، واتباع السنة فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه، والعمل بسنته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ (لأعراف:156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ} إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم، وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد علمو أن أبننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعنى بقول إلا باطل
حدبت بنفسي دونه وحميته
…
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لاستفغرن لك ما لم أنه عنك" أنزل الله سبحانه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا وسيلة للعبد لنيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه، وتعظيم أمره ونهيه والدعوة إلى ما بعث به من دين الله والنهي عما نهى عنه من الشرك والبدع، وما لا فلا، فعكس الملحدون الأمر فطلبوا الشفاعة الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره، وقتال أهله، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله من قوله: ويكفر الرجل بمحض الايمان وتجريد التوحيد إلى آخر كلامه.
وأما قول الناظم: ولن يضيق رسول الله جاهك بي البيت
فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين من اتخاذ الشفعاء ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (الزمر:2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحدا دينا سواه، ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين فقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . فتأمل قول الله تعالى كفرهم بقولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال آخر هذه السورة {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (الزمر:43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} قلت وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء بدعائهم وطلبهم ورغبتهم والالتجاء إليهم وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه.
وقد أخبر تعالى (أن الشفاعة ملكه لا ينالها من أشرك به غيره وهو الذي له ملك
السموات والأرض كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وأسجل عليهم بالضلال، ولهذه الآية نظائر كثيرة كقوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فبين أن دعوتهم غير الله شرك باللهن وأن المدعو غيره لا يملك شيئاً، وأنه لا يسمع دعاء الداعي ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه ومن صاحبه يوم القيامة، فمن تأمل هذه الآيات انزاحت عنه وتوفيق اله وفتحه جميع الشبهات.
ومما يشبه هذه الآية في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعاً من دون الله بتوجيه قلبه وقالبه إليه واعتماده في حصول الشفاعة عليه كما قد تضمنه بيت الناظم قول الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأنظر كيف حرمهم الشفاعة لما طلبوها من غير الله؟ وأخبر كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها الشرك.
وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له، وهو لا يرضى من الاديان الستة المذكورة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية الا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد، والإخلاص كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .. إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته قال: "وهي نائلة ان شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً" وقال أبو هريرة: "من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "من قال لا اله الا الله خالصاًمن قلبه" قال شيخ الاسلام في هذا الحديث: "فتلك الشفاعة لأهل الاخلاص باذن الله ولا تكون لمن أشرك بالله".
وقد كشفنا بحمد الله بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه وافتراءه على الله ورسوله، فان دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وان اتخاذ الشفعاء انما هو بدعائهم والالتجاء اليهم وسؤالهم أن يشفعوا للداعي، وقد نهى الله عن ذلك، وبين أن الشفاعة له فاذا كانت له وحده فلا تطلب الا ممن هي
ملكه فيقول اللهم شفع نبيك في لأنه تعالى هو الذي أذن للشفيع يرضى دينه وهو الاخلاص كما تقدم بيانه.
وأما قول المعترض ان المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين.
فأقول لا ريب أن قولهم هذا: بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان مع المعتزلة في طرفي نقيض تقول: ان الشفاعة تثبت لمن طلبها، وسألها من الشفيع فجعلت طلبها موجباً لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله في مواضع كثيرة بحمد الله، والحق انها لا تقع الا لمن طلبها من الله وحده، ورغب اليه فيها، واخلص له العبادة بجميع أنواعها، فهذا هو الذي تقع له الشفاعة قبل دخول النار أو بعده ان دخلها بذنوبه، فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له بما معه من الاخلاض كما صرحت بذلك الاحاديث والله أعلم، وقد قدمنا ما دل عليه الكتاب والسنة أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفياً واثباتاً فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق، فالشفاعة المنفية انما هي في حق المشرك الذي اتخذ له شفيعاً يطلب الشفاعة منه فيرغب إليه في حصولها كما في البيت المتقدم، وهو كفر كما صرح به القرآن، وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين، وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص واعتقده أهل السنة والجماعة ودانوا به.
والحديث الذي أشار اليه المعترض من قوله "أنا لها أنا لها" لا ينافي ما تقرر، وذلك أن الناس في موقف القيامة اذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله في اراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب وكل نبي ذكر عذره قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"فيأتون فأخر بين يدي الله ساجداً" أو كما قال " فأحمده بمحامد يفتحها علي ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واسأل تعطه واشفع تشفع قال فيحد لي حداً فادخلهم الجنة" فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع الا بعد السجود لله ودعائه وحمده والثناء عليه بما هو أهله، وقوله "فيحد لي حداً" فيه بيان ان الله هو الذي يحد له، وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل هو من باب سؤال الحي الحاضر والتوسل إلى الله بدعائه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء كما في حديث الاستسقاء وغيره.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئاً من ذلك البتة ففرق أصحاب رسول الله وهم أعلم الأمة وأفضلها بين حالتي الحياة والممات وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلوات والخطب وعند ذكره امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني أينما كنتم" ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم انا كنا إذا أجدبنا توسلنا اليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا
فيدعو، فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، فلما عدلوا عنه إلى العباس علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعاً منهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله به وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، قال أبو الحسن أما المسألة بغير الله فتكره في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله على خلقه، وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق لمخلوق على الخالق، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.
فإذا قرر الشيطان عنده أن الاقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وانجع لقضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعاءه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف عليه، ويوقد عليه القناديل ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد ويعبده في السجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.
قال شيخنا قدس الله روحه وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس، قال وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثل لهم الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي أن يسأل الله به وقال: هو بدعة باتفاق المسلمين، والثالثة أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك انتهى.
ففرض على كل أحد أن يعلم ما أمر الله به ورسوله من إخلاص العبادة لله وحده فإنه الدين الذي بعثه به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه كما قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دله الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون أمعه يطير مع كل ريح، فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها، قد تنازعوا في ربهم وأسمائهم وصفاته وما يجب له علة عباده
وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة، فإن العلم معرفة الهدى بدليله وما ليس كذلك فجهل وضلال.
وأما قول المعترض: فأنظر إلى الشفاء تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة أي الكلمة التي ذكرها المجيب في معنى قوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} الآيات ذكر عبارات النسفي في معناها، وهي قوله: هو إظهار للعبودية وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أبا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر إلى آخر كلامه.
إذ من عادة هذا المعترض الجاهل رد الحق، والمكابرة في دفعه والغلو المتناهي وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام أن المجيب إنما أتى في جوابه بتحقيق التوحيد ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو، ولما قيل له صلى الله عليه وسلم، أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا قال:"يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض لكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله تعالى" والنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه وفي الحديث "فإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك" الحديث، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه وهو الصادق المصدوق، فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر به عن نفسه لم يكن منتقصاً له بل هذا من تصديقه والإيمان به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب، ونفي خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سواء عبارة في حق دون الله من الأنبياء، والملائكة، فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريراً لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب كما في الصحيحين في حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت واله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أياكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على لهذا الكلام الذي نفت فيه أن نحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى بحمد الله لا بحمدك، ولم يقل أحد أن هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم، وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم سمعت حبان صاحب ابن المبارك يقول قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة الحمد أهله، وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: اللهم أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله".
وهذا المعترض وأمثاله ادعوا تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله وتنقصوا الهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله من العبادة التي خلق لها عبادة نهباً بين الأحياء والأموات هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك وهذا لصالح أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أنداداً لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله، فإن عبادتهم للأنبياء والصالحين إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين وأمرهم بها كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} ونحو هذا الآية كثير في القرآن.
ولما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله ما وقع في زمانه من الشرك بالله قال: وهذا هضم للربوبية وتنقص للألهية وسوء ظن برب العالمين وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة كما قال تعالى عنهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وأما ذكره عن خالد الأزهري فخالد وما خالد أغرك منه كونه شرح التوضيح والآجرومية في النحو، وهذا لا يمنع كونه جاهلاً بالتوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما جهله من هو أعلم منه، ممن لهم تصانيف في المعقول كالفخر الرازي وأبي معشر البلخي ونحوهما ممن غلط في التوحيد، وقد كان خالد يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره فما أنكر في ذلك في شيء من كتبه ولا نقل عنه أحد أنكاره فلو صح ما ذكر خالد من حال الناظم لم يكن جسراً تذاد عنه النصوص من الآيات المحكمات القواطع والأحاديث الواضحات البنات كقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار".
وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم يظنونها كرامات عقوبة لهم، وكثير منها أحوال شيطانية أعانوا بها أولياءهم من الإنس كما قد يقع كثيراً لعباد الأصنام، وما أحسن ما قال بعضهم شعراً:
تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا
…
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص ينصره
…
إما عن الله أو عن سيد البشر
وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها نص فيما دلت عليه من الشرك، والالهية مشاركة الله في علمه، وملكه وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال والزور والمحال، ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم الذي وقع فيه.
وأما قول المعترض ورد في الحديث لولا حبيبي محمد ما خلقت سمائي ولا أرضي ولا جنتي ولا ناري فهذا من الموضوعات لا أصل له ومن ادعى خلاف ذلك فليذكر من رواه من أهل الكتاب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك، بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين، وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السموات والأرض في كثير من سور القرآن كما قال في الآية التي تأتي بعد وهي قول الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ولها نظائر تبين حكمة الرب في خلق السموات والأرض.
وقوله كيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله من الدنيا في حياته أو في الآخرة بعد وفاته.
أقول هذا كلام من اجترى، وافترى وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة، وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو من بعدهم من أئمة الإسلام أن أحد يتصرف يوم القيامة صلى الله عليه وسلم ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاه كل لمعبوده من نبي أو ملك أو صالح أنه يشفع له إذا دعاه {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} وقال تعالى {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وقال:{لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} وهذا القول الذي قاله الجاهل قد شافهنا به جاهل مثله بمصر يقول الذي يتصرف في الكون سبعة البدوي والإمام الشافعي والشيخ الدسوقي حتى أكمل السبعة من الأموات، هذا يقول هذا ولي له شفاعة، وهذا صالح كذلك وقد قال تعالى:{لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} إلى قوله {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ظلم أعظم من الشرك بالله، ودعوى الشريك في الملك والتصرف وهذا غاية الظلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: في معنى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا لشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمد لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له ارفع رأسك وقل تسمع وسأل تعطه واشفع تشفع، وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: من أسعد الناس بشفاعتك قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة
التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي إنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم في مدارج السالكين وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعاً فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فالمشرك إنما يتخذه معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع أما مالك لما يريده عابده منه، فان لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فان لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً فان لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة، والمظاهر والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية برهانا ونجاة وتجريداً للتوحيد وقطعاً لأصول الشرك، ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا فم ذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن ولعمر الله ان كان أولئك ـ إلى أن قال ـ
ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه اليهم وهذا أصل شرك العالم فان الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع أو المشفوع له عنده فانه لا يقدر أن يشفع عند الله الا باذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لأذنه، وانما السبب لأذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع هذا الاذن هو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له، بذمهم، وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص اذ ظنوا انهم راضون منهم بهذا وانهم يوالونهم عليه وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم؟ قال وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر الا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه والهه ومعبوده، فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله، وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله فهو بالله ومع الله انتهى.
فرحم الله هذا الامام وشيخه، فلقد بين للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله، وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" ولم يقل فاسألني واستعن بي فقصر السؤال
والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه كما في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن صرف ذلك لغير الله فقد عصى الله ورسوله وأشرك بالله.
وللمعترض كلام ركيك لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه وانما نتتبع من كلامه ما يحتاج إلى رده وابطاله جنس ما تقدم.
وأعلم أنه قال لما ذكر قول المجيب: انه لا يجتمع الايمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات لما بينهما من التنافي والتضاد قال المعترض: أقول: يجتمعان بأن يفرد الله بالعبادة ولا يقدح فيه تشفعه باحباب حبه إليه وكيف يحكم عليه بالضلال بمجرد طلبة الشفاعة ممن هو أهل لها كما في الحديث " أنا لها أنا لها" ومعلوم أن الضلال ضد الحق.
فالجواب لا يخفي ما في كلامه من التخليط والتلبيس والعصبية المشوبة بالجهل المركب لايدري ولا يدري أنه لا يدري، وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وان اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى انما هو بدعائهم والالتجاء اليهم، والرغبة اليهم فيما أراده الراغب منهم من الشفاعة التي لا يقدر عليها الا الله وذلك ينافي الاسلام والايمان بلا ريب، فان طلبها من الأموات والغائبين طلب لما يقدر عليه الا الله، وهو خلاف لما أمر الله تعالى به، وارتكاب لما نهى عنه كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .
فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بعد وفاته وبعده عن الداعي لا يحبه الله تعالى، ولا يرضاه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم وشيخه وصرحاً بأنه شرك.
وللعلامة ابن القيم أبيات في المعنى وهي قوله:
والشرك فهو توسل مقصوده
…
الزلفى من الرب العظيم الشان
بعبادة المخلوق من حجر ومن
…
بشر ومن قبر ومن أوثان
والناس في هذا ثلاث طوائف
…
ما أربع أبداً بذي امكان
احدى الطوائف مشرك بالهه
…
فاذا دعاه دعا الها ثان
هذا وثاني هذه الاقسام
…
لك جاحد يدعو سوى الرحمن
هو جاحد للرب يدعو غيره
…
شركاً وتعطيلاً له قدمان
هذا وثالث هذه الاقسام خيـ
…
ـر الخلق ذاك خلاصة الانسان
يدعو اله الحق لا يدعو ولا
…
أحد سواه قط في الاكوان
يدعوه في الرغبات والرهبات والحالات من سر ومن اعلان
وقد أنكر الله ذلك الدعاء على من زعم في الرسل والملائكة وذلك كما قال تعالى:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وأمه وعزيرا والملائكة فأنكر الله ذلك، وقال: هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في انكار دعوتهم من أوليائه وأحبابه، وقد تقدم ان الدعاء وجميع أنواع العبادة حق الله المحض كما تقدم في الآيات.
والحاصل أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعاً من دونه يسأله، ويرغب اليه ويلتجىء اليه، وهذا هو العبادة، ومن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد أشرك مع الله غيره كما دلت عليه الآيات المحكمات، وهذا ضد أفراد الله بالعبادة، وكيف يتصور أفراد الله بالعبادة؟ وقد جعل العبد ملاذا ومفزعاً سواه، فان هذا ينافي الافراد، فاين ذهب عقل هذا وفهمه؟ قال شيخ الاسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الاقوال والاعمال الباطنة والظاهرة انتهى وقد تبين ان الدعاء مخ العبادة وهو مما يحبه الله وبأمر به عباده أن يخلصوه له، وقد تقدم من الآيات ما يدل على ضلال من فعل ذلك وكفره، وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض ان الشفاعة المنفية انما هي في حق الكفار فنقول فمن اتخذ معبوداً سوى الله يرجوه أو يخافه فقد كفر.
وتأمل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعي من دون الله، وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الالهية، والقرآن من أوله إلى آخره يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الملحدين محجوبون عن فهم القرآن كما حجبوا عن الايمان بجهلهم وضلالهم واعراضهم عما أنزل الله في كتابه من بيان دينه الذي رضيه لنفسه ورضيه لعباده.
قال شيخ الاسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وحقيقة التوحيد أن يعبد الله وحده لا يدعى الا هو ولا يخشى، ولا يتقي الاهو ولا يتوكل الا عليه، ولا يكون الدين الا له، وأن لا يتخذ الملائكة والنبيون أرباباً فكيف بالأئمة والشيوخ، فاذا جعل الامام والشيخ كأنه اله يدعى مع غيبته وموته، ويستغاث به ويطلب منه الحوائج كأنه مشبهاً بالله، فيخرجون عن حقيقة التوحيد الذي أصله شهادة أن لا اله الا الله، وأن محمداً رسول الله انتهى.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله واستعانته على الله وحده، وابن عباس أحق الناس بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة، فلو جاز صرف ذلك لغير الله لقال: واسألني واستعن بي؟ بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الارشاد، والابلاغ والنصح لأبن عمه
بتجريد اخلاص السؤال لله، والاستعانة بالله تعالى فاين ذهبت عقول هؤلاء الضلال عن هذه النصوص والله المستعان؟
وقال الشيخ رحمه الله: وأعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة ودعاء المسألة وكل عابد سائل، وكل سائل عابد وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، واذا جمع بينهما، فانه يراد بالسائل الذي يطلب ذلك لجلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الامر وان لم يكن هناك صيغة سؤال، ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع انتهى، فتبين ان الأبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها تنافي الحق وتناقضه وماذا بعد الحق الا الضلال.
وقول المعترض: لا سيما وللناظم جانب عظيم من الزهد، والورع والصلاح، بل وله يد في العلوم كما حكى ذلك مترجموه، وهذا كله صار هباء منثوراً حيث لم يرضوا عنه.
أقول هذا دعوى تحتمل الصدق والكذب، والظاهر انه لا حقيقة لذلك فانه لا يعرف الا بهذه المنظومة، فلو أقدر أن لذلك أصلاً فلا ينفعه ذلك مع تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال كما قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقد صار العمل مع الشرك هباء منثوراً قال سفيان بن عيينة: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فان فتنتهم فتنة لكل مفتون، فان كان للرجل عبادة فقد فتن بأبياته كثيراً من الجهال وعبادته ان كانت فلا تمنع كونه ضالاً كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة قال سفيان بن عيينة من فسد من من علمائناً ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، فالواجب علينا أن نبين ما في كلامه مما يسخط الله ورسوله من الشرك والغلو وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات فيسعنا السكوت عنه لأنا لا ندري ما آل أمره إليه وما مات عليه.
وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه، وأهل الغلو والشرك ليس عندهم الا المنامات والأحوال الشيطانية التي يحكيها بعضهم عن بعض، كما قال لي بعض علماء مصر: أن شيخاً مشى بأصحابه على البحر فقال: لا تذكروا غيري وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر فأخذه بيده الشيخ فقال: الم أقل لكم لا تذكروا غيري فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان، أو انها حال شيطانية، وأسألك أيها الحاكي لذلك أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله فأقر وقال: لا حجة فيها على ذلك.
والمقصود بيانه أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه أو كذبوه، وما قال الله وقال رسوله، فهذا بحمد الله كله عليهم لا لهم، ومل حرفوه من ذلك رد إلى صحيح معناه الذي دل عليه لفظه مطابقة وتضمناً والتزاماً قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} .
وذكر المعترض حكاية يقول عن غير واحد من العلماء العظام: انهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه إلى قوله لكن الخصم مانع ذلك كله بقوله انهم كفار.
فالجواب أن يقال ليس هذا وجه المنع، وانما وجهه انما حكاية مجهولة عن مجهول، وهذا جنس اسناد الأكاذيب، فلو قيل من هؤلاء العظام، وما أسماؤهم، وما زمنهم وما طبقتهم لم يدر عنهم، وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة ولا رواية يقظة فكيف إذا كانت أحلاماً، والمعترض كثيراً ما يحكي عن هيان بن بيان.
ثم قال المعترض على قول المجيب وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعاً وعقلاً قال المعترض: من أين هذا الامتناع وما دليله من العقل والسمع؟
فالجواب أن يقال: معلوم ان دليله من الجهتين لا تعرفه أنت ومن مثلك وانما معرفتك في اللجاج الذي هو كالعجاج الذي يحرم في الفجاج أما دليله من السمع فقد تقدم في آيات الزمر ويونس وغيرهما، وقد بسطنا القول في ذلك بما يغني عن اعادته فليرجع إليه، وأما دليل من العقل فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله لا يحصل الا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، واخلاص الدعاء له والالتجاء إليه، لأن الخير كله بيده وهو القادر عليه، وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى:{يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فالذي له الخلق والامر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه لا يستغنى عنه طرفه عين هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه، ويرهب منه، ويتخذ معاذا وملاذا، ويتوكل عليه وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
وقال المفسرون المحققون السلفيون المتبعون في قول الله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يبرحون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج الا منه، ولا يرعبون الا إليه ويعملون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ولهذا قال سعيد عن صاحب ياسين من قوله:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فهذا دليل فطري عقلي سمعي.
وأما قول المعترض أن قال الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم
ان من بيانية
فالجواب أنه ليس كما قال: بل هي تبغيضية ثم لو كانت بيانية فما ينفعه والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وقد صرح المعترض بذلك فقال: ولا شك انه أوتي علم الأولين والآخرين وعلم ما كان وما يكون فالجواب هذه مصادمة لما هو صريح في كتاب الله وسنة رسوله.
بان الاحاطة بما في اللوح المحفوظ علماً ليس إلا لله وحده كذلك علم الأولين والآخرين، ليس إلا لله وحده إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه، كما قال الله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} فالرجال في عمى عن قول الله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وتقدم لهذه الآيات نظائر، فاحاطة العلم بالموجودات أو المعدومات التي وجدت أو ستوجد لله وحده لم يجعل ذلك لأحد سواه وقال تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ} فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وأمثال هذه الآيات، مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله الا
ما استثناه بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ومن تبيغيضية هاهنا بلا نزاع، وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام:"ما نقص علمي وعلمك في علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" فتأمل هذا وتدبر.
وأما قول المعترض، وتأويله لقوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} فتأويل فاسد ما قاله غيره، ولا يقوله مسلم من أنه يعلم الغيب بتعليم الله له، والنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله بذلك فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل، وما أجهله بالله وبكتابه؟
فيقال في الجواب: لا ينفعك هذا التأويل الفاسد اذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعلم الله لصدق عليه أن يقال هذا يعلم الغيب كله الذي يعلمه الله فما بقى على هذا القصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى وحصل الاشتراك نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابه وخرق ما لم ينزل الله به سلطاناً وأما قوله في قول الناظم: ان لم تكن في معادي آخذا بيدي.
ان الأخذ باليد بالشفاعة.
فالجواب أن الحقيقة هذا القول: وصريحة طلب ذلك من غير الله، فلو صح هذا الحمل فالمحذور بحاله لما قد عرفت من أن الاستغاثة بالأموات والاستشفاع بهم في أمر هو في يد الله ممتنع حصوله، لكونه تألها وعبادة، وقد أبطله القرآن، فهذا المعترض الجاهل يدور على منازعة الله في حقه، وملكه وشمول علمه، والله يجزيه بعمله.
وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} فقيل: المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان، وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علمه كل شيء حتى الخمس.
فالجواب انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات بجميع ما اختلقه وافتراه وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم، فان قوله: ذكر عامة أهل العلم انه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس، فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم من هذه المقالة، وعامة أهل العلم، بل كلهم على خلاف ما ادعاه سلفاً وخلفاً. قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله في تفسيره الكبير الذي فاق على التفاسير: ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} التي تقوم فيها القيامة لا يعلم ذلك أحد غيره {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء لا يقدر على ذلك أحد غيره {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أرحام الاناث {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل غد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} يقول: وما تعلم نفس حي بأي أرض يكون موتها {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يقول: أن الذي يعلم ذلك كله هو الله، دون كل أحد سواه وذكره سنده عن مجاهد {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فمتى أموت فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخر السورة قال: فكان مجاهد يقول هن مفاتح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} .
وأخرج بسنده عن قتادة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية، خمس من الغيب استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وبسنده عن عائشة رضي الله عنها من قال: أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقد كذب وأعظم الفرية على الله قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وبالسند عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله"{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية ثم قال: " لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت" وبسنده عن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} " الآية انتهى ما ذكره ابن جرير.
وذكر البغوي في تفسيره حديث ابن عمر وعائشة المتقدم ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل ومفاتح الغيب خزائن الأرض. وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب وقيل: انقضاء الأجل وقيل أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وخواتيم أعمالهم وقيل:
ما لم يكن بعد أن يكون أولا يكون، وما لا يكون كيف يكون انتهى قلت ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجمع عليه العلماء، فإن الله استأثر بعمله عن خلقه ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال الافتراء والتكذيب.
وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم مثل البيضاوي وأبي السعود والقسطلاني وأمثالهم تجدى إليكم شيئاً لذكرناها لكنها تحمى بلفظة واحدة وهي أنهم كلهم كفار فلا نقبل مهم أحداً ومن هذه حالة فلا حيلة به.
فالجواب أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات ومعاذ الله أن يقول المجيب: أن هؤلاء كفار ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كفر أحداً قد مات من هذه الأمة فمن ظاهره الاسلام فلو وجد في كلامه زلة من شرك، أو بدعة.
فالواجب التنبيه على ذلك، والسكوت عن الشخص لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته، وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين فأنهم من المتأخرين الذين نشئوا في اغتراب من الدين.
والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام مخالفة لما عليه السلف وأئمة الاسلام من الارجاء، ونفى حكمة الله، وتأويل صفات الله وسلب معانيها ما يقارب ما في كشف الزمخشري، والارجاء والجبر يقابل ما فيه من نفى القدر، وكلاهما في طرفي نقيض، وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك، ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة وأرسخ قدماً منهم في فنون من العلم، ومع هذا فقال شيخ الاسلام البلقيني استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف وما فيه من لطيف المعنى ثم قال:
ولكنه فيه مجال لناقد
…
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلاً
…
ويغزو إلى المعصوم ما ليس لا ئقاً
وينسب ابداء المعاني لنفسه
…
ليوهم اغمارا وأن كان سارقاً
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
…
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلاً
…
وكان محباً في المخاطب وامقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
…
ولا سيما أن أو لجوه المضائقا
لئن لم تداركه من الله رحمة
…
لسوف يرى للكافرين مرافقاً
فاذا كان هذا في تفسير مشهور وصاحبه معروف بالذكاء والفهم فما دونه من
المتأخرين أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول إلا ما وافق تفسير السلف وقام عليه الدليل.
وهنا المعترض من جهله يحسب كل بيضاء شحمة يعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل، ولو كان له أدني مسكة من فهم ومعرفة بالعلماء، ومصنفاتهم لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثالثة التي نقلنا منها تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد اسماعيل بن كثير فهذه أجل التفاسير، ومصنفوها أئمة مشهورون أهل سنة ليسوا بجهيمة، ولا معتزلة ولا قدرية، ولا جبرية ولا مرجئة بحمد الله، وأكثر ما في هذه التفاسير الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة وأقوال النابغين وأتباعهم، فلا يرغب عنها إلا الجاهلون الناقضون المنقوصون والله المستعان، والمصنفون في التفسير وغيره غير ما ذكر المعترض كثيرون، وأحسن من البيضاوي وأبي السعود البحر لأبي حيان، لأنه كثيراً ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن.
وبالجملة فمن كان من المصنفين أبعد تقليد المتكلمين، وذكر عباراتهم، ويعتمد أقوال السلف فهو الذي ينبغي النظر إليه والرغبة فيه، وعلى كل حال فليس في تفسير البيضاوي وأبي السعود وشرح القسطلاني، ومواهبه ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله.
وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شر من تحت أديم السماء.
فيقال: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق فهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتى فهذه شفاعة على غالب علماء الأمة، ومنهم الامام أبو حنيفة والامام أحمد وأمثالهم، فالجواب أن هذا كلام من لا يعقل ولا يفهم شيئاً ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة وأهل البدعة والضلالة ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" رواه البرقاني في صحيحه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفرق كما افترقت اليهود والنصارى فاليهود افترقت على احدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة.
وأول من فارق الجماعة في عهد الصحابة رضي الله عنهم الخوارج قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان والقدرية في أيام ابن عمر وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون، ومن دعاتهم معبد الجهني، وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك، وكذلك الغلاة في على الذين خذلهم علي الاخاديد وحرقهم بالنار، ومنهم المختار بن أبي عبيد الذي قتله مصعب بن الزبير ادعى النبوة وتبعه خلق، ثم ظهر فتنة الجهيمة،
وأول من ظهر الجعد بن درهم قتله خالد بن عبد الله القسري، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة متوافرون وقت ظهور مبادىء هذه البدع لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شفاعة، ولا غضاضة، لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق، وصح من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" سمعته من نبيكم.
وظهرت بدعة جهم بن صفوان في زمن أبي حنيفة وأنكرها وناظرهم، وانتشرت في زمن الامام أحمد رحمه الله والفقهاء، وأهل الحديث، وامتحن الامام فتمسك بالحق وصبر، وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار في الرد على الجهمية بخلق القرآن المعطلين لصفات الملك الديان، كالامام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله وعبد العزيز الكناني في كتاب الحيدة، وأبي بكر الاثرام والخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي، وامام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي، وأبي عثمان الصابون، وقبلهم وبعدهم ممن لا يحص وهذا كله انما هو في القرون الثلاثة المفضلة، ثم بعدها ظهرت كل بدعة: بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الاسماعيلية، وبدعة النصيرية والقرامطة ونحوهم.
وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله، فالأئمة متمسكون بالحق في كل زمان ومكان، والبلد الواحد من هذه الامطار يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء، ويناضلوهم بالحجج والبراهين، وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل" وقال: "بدأ الاسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية "يصلحون ما أفسد الناس".
وقد صنف العلماء رحمهم الله مصنفات وبينوا ما تنتحله كل فرقة من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية، وليس على الفرقة الناجية شفاعة، ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها، وانما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته، وما ظهر فضل الامام أبي حنيفة والامام أحمد ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما إلا بتمسكهم بالحق، ونصرته وردهم الباطل؟ وما ضر شيخ الاسلام أحمد بن تيمية وأصحابه حين جلب عليهم أهل البدع وآذوهم، بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدقة في الأمة، وكذلك من قبلهم ومن بعدهم كشيخنا شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى،
لما دعا إلى التوحيد وبين أدلته، وبين الشرك وما يبطله، وفيه قال الامام العلامة الأديب أبو بكر ابن غنام رحمه الله تعالى:
وعاد به نهج الغواية طامساً
…
وقد كان مسلوكاً به الناس تربع
وجرت به نجد ذيول افتخارها
…
وحق لها بالألمعي ترفع
فآثاره فيها سوام سوافر
…
وأنواره فيها تضيء وتسطع
فهذا المعترض لو تصور وعقل لتبين له ان ما احتج به ينقلب حجة عليه.
وقول المعترض وان كان قد ورد في حق أهل الحرمين فهذا ظاهر البطلان اذ هي مهبط الوحي ومنبع الايمان ولو قيل ان هذا الحديث وأمثاله ورد في ذم نجد وأهلها فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لا يزالون في شر من كذبهم إلى يوم القيامة.
فالجواب أن نقول: الاحاديث التي وردت في غربة الدين، وحدوث البدع وظهورها، لا تختص بمكة والمدينة ولا غيرهما من البلاد والغالب أن كل بلد لا تخلو من بقايا متمسكين بالسنة فلا معنى لقوله: وان كان قد ورد في حق أهل الحرمين في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل في وقت الخلفاء الراشدين ما هو معروف عند أهل العلم مشهور في السير والتاريخ، وأول ذلك مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن، وصار الغلبة في الحرمين وغيرها لأهل الأهواء فاذا كان هذا وقع في خير القرون فما ظنك فيما بعد حين اشتدت غربة الاسلام، وعاد المنكر معروفاً والمعروف منكراً فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
وأما قوله إذ هي مهبط الوحي ومنبع الايمان.
فالجواب أن نقول مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فهذا محل الوحي ومستقره، وقوله: ومنبع الايمان: الايمان ينزل به الوحي من السماء لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين، وهذه السور المكية التي في القرآن معلومة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر من مكة المشركون، وفيها ذمهم والرد عليهم كقوله {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وقال:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ونحو هذه الآيات كما في فصلت والمدثر وغيرهما.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدنية، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله وأصحابه من دخولها بالوحي، وقاتلوهم ببدر وأحد والخندق، وهم كانوا من آخر العرب دخولاً في الاسلام حاشاً من هاجر، وكل هذا بعد نزول الوحي، ونحن بحمد الله لا ننكر فضل الحرمين، بل ننكر على من أنكره، ولكن نقول
الأرض لا تقدس أحداً، وانما يقدس المرء عمله، فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل كما تقدم، فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل لكثرة ثوابه، وأهل الباطل لا يزدهم إلا شراً تعظم فيه سيآتهم كما قال تعالى في حرم مكة:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فاذا كان هذا الوعيد في الارادة فعمل السوء أعظم، فالمعول على الايمان والعمل الصالح، ومحله قلب المؤمن والناس مجزيون بأعمالهم أن خيراً فخير وأن شراً فشر.
وقوله ولو قيل أن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها إلى آخره.
فأقول الذم انما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم بارك لنا في يمننا اللهم بارك لنا في شامنا" قالوا وفي نجدنا قال "هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان" قيل: انه أراد نجد العراق لأن في بعض الفاظه ذكر المشرق، والعراق شرقي المدنية، والواقع يشهد له لأن نجد الحجاز ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير، والتاريخ، كخروج الخوارج بها الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الاشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير، وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتل والسفك وغير ذلك مما يطول عده، وعلى كل حال فالذم يكون في حال دون حال ووقت دون وقت بحسب حال الساكن، لأن الذم انما يكون للحال دون المحل، وان كانت الأماكن تتفاضل وقد تقع المداولة فيها، فان الله يداول بين خلقه حتى في البقاع فمحل معصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر.
وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: لا يزالون في شر من كذابهم
فالجواب ان هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهله بالعلم لا يميز بين الحديث وغيره، وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، وكانوا في مسجد من مساجدها فيسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة فأخذهم عبد الله بن مسعود وقتل كبيرهم ابن النواحة وقال في الباقين: لا يزالون في بلية من كذابهم يعني ذلك النفر يذم نجدا بنفر أحدثوا حدثا في العراق وقد أفنى كل من حضر مسيلمة في القرن الأول ولم يبق بنجد من يصدق الكذاب، بل من كان في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم بنجد يكفرون مسيلمة ويكذبونه فلم يبق بنجد من فتنة مسليمة لا عين ولا أثر.
فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الاسود العنس دعواه النبوة وما ضر المدينة سكن اليهود فيها وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعقد الاسلام وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عداوتهم له بلى هي أحب أرض الله إليه فاذا كان الأمر
كذلك فارض اليمامة لم تعص الله، وانما ضرت المعصية ساكنيها بتصديقهم كذابهم، وما طالت مدتهم على ذلك الكفر بحمد الله فطهر تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الاسلام فصارت بلادهم بلاد اسلام بنيت فيها المساجد، وأقيمت الشرائع وعبد الله فيها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم، ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد لقتال العجم فقاتلوامع المسلمين.
فنال تلك البلد من الفضل ما نال غيرها من بلاد أهل الاسلام على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة لأصحابه: " أريت دار هجرتكم" فوصفها ثم قال: "فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو يثرب" ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وكفى بهذا فضلاً لليمامة، وشرفاً لها على غيرها، فان ذهب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر فظهر ذلك الفضل بحمد الله في القرن الثاني عشر، فقام الداعي يدعو الناس إلى مادمت إليه الرسل من أفراد الله العبادة، وترك عبادة ما سواه، واقامة الفرائض والعمل بالواجبات، والنهي عن مواقعة المحرمات، وظهر فيها الاسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الازمان ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة.
إذا عرف ذلك فليعلم ان مسيلمة وبني حنيفة انهما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلاً وعناداً، وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله من التوحيد الذي دلتعليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو، والشرك، فجوزوا أن يدعى مع الله غيره، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك في أكثر سور القرآن، وجوزوا أن يستعان بغير الله ورسوله نهى عن ذلك أشد النهي، وجعلوا لله شريكاً في ملكه وربوبيته كما جعلوا له شريكاً في الالهية، وجعلوا له شريكاً في احاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وقد قال تعالى مبيناً لما اختص به من شمول علمه {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} إلى قوله:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية.
وهذه الاصول كلها في الفاتحة يبين تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} اختصاص الله بالحمد لكماله في ربوبيته والهيته وملكه، وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم، ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته، ومشيئته ليس ذلك إلا له {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه تفرده بالملك كقوله:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة وفي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أيضاً توحيد الربوبية.
وهذه الأصول أيضاً في: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم والمدبر لهم {مَلِكِ النَّاسِ} هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار " لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" وقوله:{إِلَهِ النَّاسِ} هو مألوههم ومعبودهم لا معبود لهم سواه، فأهل الإيمان خصوه بالالهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكاً يؤلهونه بالعبادة كالدعاء، والاستعانة والاستغاثة والالتجاء، والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (الكافرون:1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى قوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} فهذا هو التوحيد العملي وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطناً وظاهراً.
وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} توحيد العلم والعمل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعني هو الله الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير ولا ند، بل ولا شبيه له ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ في الاثبات إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله وقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم، ومسائلهم، قلت: وفيه توحيد الربوبية، وتوحيد الالهية، وقال الأعمش عن شقيق عن أبي وائل: الصمد السيد الذي قد انتهى سؤدده، وقال الحسن أيضاً الصمد الحي القيوم الذي لا زوال له، وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد كأنه جعل ما بعده تفسيراً له، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: الصمد المصمت لا جوف له قال أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة: وكل هذا صحيحة وهي صفات ربنا عز وجل.
وقال مجاهد {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} يعني لا صحابة له وهذا كما قال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو مالك كل شيء، وخالقه فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه تعالى وتقدس وتنزه، قلت فتدبر هذه السورة وما فيها من توحيد الالهية والربوبية وتنزيه الله عن الشرك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله ونعوت جلاله، ومن له بعض تصور يدري هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وأما قول المعترض على قول المجيب ونوع الشرك جرى في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية أقول هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام ومع هذا لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة.
بالجواب تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام ان كان كذلك فماذا يجدي عليه، وما الحجة منه على جواز الشرك وأيضاً فشهادته هذه على شيخ الإسلام غير محصورة فلا تقبل، وهولم يطلع إلا على النزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما أطلع عليه، وهو في شق وشيخ الإسلام في شق، وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض، لكنه يتعلق في باطله بمثل خيط العنكبوت، فان
كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله المؤيد بالبرهان فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي في تمييز الحق من الباطل، وكلامه رحمه الله في أكثر كتبه يبين هذا الشرك وينكره، ويرده كما قد رد على ابن البكري حين جوز الاستغاثة بغير الله، ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم ان كلام صاحب البردة داخل تحت كلام شيخ الإسلام في الرد عليه والإنكار وأنا أورد هنا جواباً لشيخ الإسلام عن سؤال من سأله عن نوع هذا الشرك وبعض أفراده فأتى بجواب عام شامل كاف واف.
قال السائل ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم ويقول يا سيدي أنا في حسبك؟ وفيمن يستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ ونحو ذلك.
الجواب الحمد لله رب العالمين الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} الآيات وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيات قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا، والملائكة قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فاذا كان هذا حال من يدعو الانبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟ قال تعالى:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} الآية وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
فبين سبحانه ان من دعى من دون الله من جميع المخلوقات الملائكة، والبشر وغيرهم انهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وانه ليس له شريك في ملكه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وانه ليس له عون كما يكون للمك أعون وظهراء، وان الشفعاء لا يشفعون عنده الا لمن ارتضى، فنفى بذلك وجوه الشرك، وذلك أن من دعى من دونه أما يملكون مالكاً، وأما أن لا يكون مالكا واذا لم يكن مالكا فأما أن يكون شريكاً، وأما أن لا يكون شريكاً، واذا لم يكن شريكاً فأما أن يكون معاوناً، وأما أن يكون سائلاً طالباً، فأما الرابع فلا يكون الا من بعد اذنه، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وكما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً
لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
فبين سبحانه أن من أتخذ الملائكة والنبيين أرباباً كان كافراً فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أرباباً: فلا يجوز أن يقول لملك ولا لنبي، ولا لشيخ سواء كان حيا أو ميتاً اغفر ذنبي، أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي، أو ما أشبه ذلك، ومن سأل ذلك مخلوقاً كائناً من كان فهو مشرك بر به من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والانبياء، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وان قال ان اسأله لأنه أقرب إلى الله مني ليشفع لي لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه يستشفعون بهم في مطالبهم، ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقد قال سبحانه {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} فبين الفرق بينه وبين خلقه فان من عادة الناس أن يستشفع إلى الكبير بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته أما رغبة وإما رهبة وأما أحياء وأما غير ذلك فالله لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن اذنه والأمر كله له فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} والرهبة تكون منه قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقد أمرنا أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب أجابة دعائنا.
وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه لا يمكن أن ندعوه الا بهذه الواسطة ونحو ذلك هو من قول المشركين فان الله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقد روى أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يارسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته، وأمر كلا منهم أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ثم يقال لهذا المشرك أنت اذا دعوت هذا فان كنت تظن أنه أعلم بحالك، أويقدر على سؤالك وارحم بك من ربك فهذا جهل وضلال، وكفر، وان كنت تعلم ان الله أعلم وأقدر وأرحم فلماذا عدلت عن سؤال غيره، وان كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق أريد به باطل، فانه اذا كان أقرب منك وأعلى درجة فان معناه أن يثيبه، ويعطيه ليس معناه أنك دعوته كان الله يقضى
حاجتك أعظم مما يقضيها اذا دعوته أنت، فانك أن كنت مستحقاً للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكره الله ولا يسعى فيما يبغضك إليه وان لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول منه.
فان قلت هذا دعاء الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب اذا دعوته انا فهذا هو القسم الثاني وهو أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له كما يقال للحي ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في الحي، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم وفلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا ولا أسأل لنا ربك ونحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة ولا التابعين. ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد بذلك حديث، بل الذي ثبت في الصحيح انهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى بالعباس رضي الله عنهما فقال: اللهم انا كنا اذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وأنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يارسول الله ادع الله، أو استسقى لنا ونحن نشكو إليك ما أصابنا، ونحو هذا، ولم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر بل ينحرفون فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما كانوا يدعونه في سائر البقاع، وفي المؤطا وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد""اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وفي السنن أيضاً أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث ما كنتم فان صلاتكم تبلغني" وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لابرز قبره لكن خشى أن يتخذ مسجداً وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
ولهذا قال العلماء لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: أنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئاً لا من دراهم، ولا زيت ولا شمع ولا حيوان، ولا غير ذلك كله لأنه نذر معصية، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عند القبور في المشاهد مستحبة، ولا أن الدعاء هناك أفضل، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد وفي البيوت أفضل من الصلات عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح سواء سميت مشاهد أم لا وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد وقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية.
وذكر البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا
لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية قالوا هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الامد فاتخذوا تماثيلهم أصناماً، فالعكوف على القبور، والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها، هو أصل الشرك وعبادة الاوثان، ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء الصالحين، فانه لا يتمسح به ولا يقبله، وليس في الدنيا ما شرع تقبيله الا الحجر الأسود، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لأعلم حجر لا تضر ولا تنفع ولو أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، ولهذا يسن أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت الذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين انتهى.
وقال رحمه الاله في الرد على ابن البكري بعد كلام له سبق: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق، ودعاءه سبب في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، ومن الذي قال إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر سواء كان نبياً أو غير نبي كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به، ومن الذي يفعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين إحداهما أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله والثانية أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها فإنه ليس كلما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه -إلى أن قال:
وهذا المقام يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمرا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتاً أو غائباً وأن يستغيثوا به سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره، بل نقول سؤال الميت أو الغائب نبياً كان أو غير نبي من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاصطرار من دين المسلمين، فان أحداً منهم ما كان يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من المؤتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الانبياء الا عند قبورهم، ولا اذا بعدوا عنها بل، ولا أقسم بمخلوق على الله أصلاً، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الانبياء، ولا قبور غير الانبياء ولا الصلاة عندها.
وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا ان هذا من البدع التي لم يفعلها السلف، وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب وقول بعضهم: فلان يدعي عند قبره وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستعثت بي أو قال استغث عند قبري ونحو ذلك فان هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الاسلام بعد القرون المفضلة.
وكذلك المساجد المبينة على القبور التي تمسى المشاهد محدثة في الاسلام، والسفر إليها محدث في الاسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً، وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس:"ان من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فأني أنهاكم عن ذلك" وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا استسقى بالعباس فقال اللهم انا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وانا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، فلم يذهبوا إلى القبر ولا توسلوا بالعباس وكان توسلهم به توسلاً بدعائه كالامام مع المأموم وهذا تعذر بموته.
فأما قول القائل عن ميت من الانبياء والصالحين اللهم اني أسالك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز فكيف بقول القائل للميت: أنا أستغيث بك أو أستجير بك، وأنا في حسبك أوسل الله لي، ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة لو قدر أنه له تأثير، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت له صورة ذلك الغائب وربما كلمته، وربما قضت له بعض أحياناً بعض حوائجه كما تفعل له شياطين الأصنام.
فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهي عن ذلك وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهي فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثناً يعبد ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد انتهى ملخصاً.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزبير أنه رأى قوماً يمسحون المقام فقال لم تؤمروا بهذا إنما أمرتم بالصلاة عنده، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قول الله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلهم، فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام، فهذا صريح كلامه المؤيد بالأدلة والبراهين، وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا كثير جداً لو ذكرناه لطال الجواب.
وأما قول المعترض بل مدح الصرصري وأثنى عليه بقوله قال الفقيه الصالح يحيى بن يوسف الصرصري في نظمه المشهور.
فالجواب أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ الإسلام وغيره، وقد كذب على الإقناع والشفاء، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله، وفي الحديث:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وإلا فكلام الشيخ في رد ما يقوله الصرصري وانكاره موجود بحمد الله.
قال رحمه الله في رده عللاى ابن البكري بعد وجهين ذكرهما: الثالث أنه ادرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته بنقل أحد من العلماء، ولكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة وكمحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم دين وصلاح، لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقلعن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وأكثر منه يأتي إلى قبر الشيخ يدعو به ويدعو عنده.
وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أوسنة، أو قول عن الصحابة والأئمة وليس عندهم إلى قول طائفة أخرى قبر معروف ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ مجاب ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيراًما تتمثل لهم فيرونها وقد تخاطب أحدهم ولا يراها، ولو ذكرت ما أعلم من الواقائع الموجودة في زماننا لطال المقال، وكل ما كان القوم أعظم جهلاً، وضلالاً كانت هذه الأحوال الشيطانية أكثر.
وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال، أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحد أتاه به فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان، وسببه شركه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة الشيطان فأضلتهم الشياطين بذلك، كما كانت تضل عباد الاصنام انتهى ما ذكره شيخ الاسلام رحمه الله من انكاره ما في شعر الصرصري وغيره من هذه الامور الشركية وبيان أسبابها.
وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم ان لم يزد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه.
فالجواب أن هذا من عدم بصيرته، وكبير جهله، فان من له أدنى معرفة وفهم، يعلم أن بين قول صاحب البردة وقول الصرصري في أبياته تفاوتاً بعيداً، فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة من قصر الالهية والربوبية والملك وشمول العلم على عبد شرفه الله بعبوديته، ورسالته ودعوة الخلق إلى عبادته وحده وجهاد الناس على ذلك، وبلغ الأمة ما أنزل الله تعالى عليه في الآيات المحكمات من تجريد التوحيد والنهي عن الشرك ووسائله كما قدمنا الإشارة إليه.
وأما الصرصري ففي كلامه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به بلا قصر ولا حصر، للاستغاثة والاستعانة في جانب المخلوق وقد أنكره شيخ الاسلام رحمه الله، وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وقد بين رحمه الله ان استغاثة الحي بالحي انما هي بدعائه وشفاعته، وأما الميت والغائب فلا يجوز أن يستغاث به، وكذلك الحي فيما لا يقدر إلا الله، وأن أهل الاشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤا عليها بلا برهان، وقد عرفت ان هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهبة، وحكايات سوفسطائية أومنامات تضليلية كما قال كعب بن زهير:
فلا يغرنك ما منت وما وعدت
…
أن الأماني والأحلام تضليل
وليس مع هؤلاء المشركين الادعوى مجردة محشوة بالأكاذيب، وليس معهم بحمد الله دليل من كتاب أو سنة، أو قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة وبسطنا القول لاحتمل مجلداً ضخما.
وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين كقصائد البوصيري، والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك وكعب بن زهير وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، وفيها من شواهد اللغة والبلاغة ما لم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار، وما ذاك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فزينها الشيطان في نفوس الجهال، والضلال فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة، التي ليس فيها إلا الحق والصدق وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحروا فيها ما يرضيه، وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه من الغلو فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل، وهو في القرن الخامس، لما صعبت التكاليف على الجهال، والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم اذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع إلى آخره.
ومما يتعين أن نختم به هذا صلى الله عليه وسلم: فصل ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله ونفعنا بعلومه، قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور: وأن مقصودها ثلاثة أشياء: أحدها: تذكير الآخرة والاعتبار والاتعاظ، الثاني: الاحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيتناساه، فاذا زاره وأهدى إليه هدية من دعاء أوصدقة ازداد بذلك سروره وفرحه، ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور بالمغفرة، والرحمة وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم، الثالث: احسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا يزال تأتيه الالطاف من الله، وتفيض على روحه
الخيرات، فاذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الالطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء على الجسم المقابل له، قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله واقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه الالتفات إلى غيره وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم كان أقرب إلى الانتفاع به.
وقد ذكر هذه الزيارة ابن سيناء والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها وايقاد السرج، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله قالوا: فان العبد اذا تعلق روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحضرة وقرب من السلطان وهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من الأنعام والأفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بابطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم وأوجب لهم النار.
والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وأبطاله مذهبهم قال الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو ملك السموات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة انما هي له، والذي يشفع عنده انما يشفع باذنه وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي ارادته من نفسه أن يرحم عبده وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون، ومن وافقهم، وهي التي أبطلها الله سبحانه وتعالى بقوله:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} .
وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد من دونه، بل أراد سبحانه رحمة بعبده اذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} فالشفاعة باذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل يشفع باذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك، والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فانه لا شريك له، والتي أثبتها
شفاعة العبد المأمور الذي يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهو الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} فأخبر أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضى قول المشفوع له، واذنه للشافع، فأما المشرك فانه لا يرضاه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه، فانه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، واذنه للشافع فمتى لم يوجد مجوع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الامر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً الا من بعد اذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره، واذنه، فاذا أشركهم به المشرك واتخذهم شفعاء من دونه ظناً منه أنه اذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له وما يمتنع عليم فان هذا محال ممتنع يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبد ت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي، والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والملوك والغني والفقير، الذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فان قيام مصالحهم بهم وهم أعوانهم، وأنصارهم الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم والسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم وان لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهمعلى الكره والرضاء، فأما الذي غناه من لوازم ذاته وكل ما سواه فقير إليه لذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون لقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه، وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال في سيدة آي القرآن أية الكرسي: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فأخبر ان ملكه السموات والأرض. يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وان أحداً لا يشفع عنده الا باذنه، فانه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدينا بعضهم عند بعض.
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعرفة
عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع الا باذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فانه هو الذي قبل والذي أذن والذي رضى عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة، وقوله فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع ليشفع له قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فبين سبحانه ان متخذي الشفعاء مشركون وان الشفاعة لا تحصل باتخاذهم.
وسر الفرق بين الشفاعتين: ان شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقاً ولا أمراً ولا اذناه، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمر ان فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح.
وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فانه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر، فان أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة، ولا غيرها الا بمشيئة الله وخلقه، فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو أن مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من رزق او نصر أو غيره فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله لفهم هذا الموضوع تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بيت ما أثبت الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وانهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغرباً
…
شتان بين مشرق ومغرب
والأمر والله أعظم مما ذكرنا انتهى وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.