الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» رَوَاهُ أَهْلُ " السُّنَنِ " وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية ذكره مسلم ولم يكن من هديه صيام الدَّهْرِ، بَلْ قَدْ قَالَ: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لا صام ولا أفطر.
» «وكان يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَإِنْ قَالُوا: لَا قَالَ: إِنِّي إِذًا صَائِمٌ» وَكَانَ أَحْيَانًا يَنْوِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ، ثُمَّ يُفْطِرُ.
وأما حديث عائشة أنه قال لها ولحفصة اقضيا يوما مكانه فهو حديث معلول، وكان إذا نزل على قوم وهو صائم أتم صيامه، كما فعل لما دخل على أم سليم ولكن أم سليم عنده بمنزلة أهل بيته.
وفي الصحيح عنه أنه قال: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فليقل: إني صائم وكان من هديه كراهة تخصيص يوم الجمعة بالصوم» .
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ لَمَّا كَانَ صَلَاحُ القلب، واستقامته في طريق ومسيره إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مُتَوَقِّفًا عَلَى جَمْعِيِّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ على الله، وكانت فضول الشراب والطعام، وفضول مخالطة الأنام، وفضول المنام، وفضول الكلام مِمَّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتِّتُهُ فِي كُلِّ وَادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، ويضعفه، أو يعوقه ويوقفه، اقتضت حكمة الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الصَّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنَ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشَّهَوَاتِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ عَنْ سيره إلى الله، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهِ الْعَبْدُ في دنياه وأخراه، ولا يضره، وَشَرَعَ لَهُمُ الِاعْتِكَافَ الَّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ القلب على الله، والانقطاع عن الخلق، والاشتغال به وحده، فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاللَّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي القبر.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ مَعَ الصَّوْمِ، شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وهو العشر الأخير من رمضان، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إِلَّا مَعَ الصَّوْمِ، وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم.
وَأَمَّا الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ شُرِعَ
لِلْأُمَّةِ حَبْسُ اللِّسَانِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا فُضُولُ الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السَّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً، وَهُوَ السَّهَرُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَلَا يَعُوقُ العبد عن مصلحته، وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ وَالسُّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا المنهاج المحمدي، فلم يَنْحَرِفِ انْحِرَافَ الْغَالِينَ، وَلَا قَصَّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرِّطِينَ، وقد ذكرنا هديه فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ، فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ.
«كَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ» (1) حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، وَتَرَكَهُ مَرَّةً فَقَضَاهُ فِي شَوَّالٍ، وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَوْسَطِ، ثم العشر الأواخر يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا في العشر الأواخر، فداوم على الاعتكاف حَتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عز وجل، وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ، فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ لربه عز وجل، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَهُ، فَأَمَرَ بِهِ مَرَّةً، فَضُرِبَ له، فَأَمَرَ أَزْوَاجُهُ بِأَخْبِيَتِهِنَّ فَضُرِبَتْ، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ، نظر فرأى تلك الأخبية، فأمر بخبائه ففوض، وترك الاعتكاف في رمضان حتى اعتكف الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ سنة عشرة أيام، «فلما كان الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا» (2) وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبَّتَهُ وَحْدَهُ، وَكَانَ لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان، ويخرج رأسه إلى بيت عائشة فترجله وهي حائض، وكان بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ، قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، ولم يكن يُبَاشِرِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ له فراشه وسريره فِي مُعْتَكَفِهِ.
وَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، مَرَّ بالمريض وهو في طريقه، فلا يعرج عليه إلا أن يَسْأَلْ عَنْهُ، وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وجعل على سدتها حصيرا، كل هذا تحصيل لمقصود
(1) متفق عليه.
(2)
رواه البخاري.