المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في حديث الثلاثة الذين خلفوا] - مختصر زاد المعاد

[محمد بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة الناشر مختصر زاد المعاد]

- ‌[ترجمة المؤلف]

- ‌[ترجمة الإمام ابن القيم]

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[فصل اختص الله نفسه بالطيب]

- ‌[فصل في وجوب معرفة هدي الرسول]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْوُضُوءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[فصل في قراءة صلاة الفجر]

- ‌[فصل في هديه في القراءة في باقي الصلوات]

- ‌[فصل في ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم]

- ‌[فَصْلٌ في كيفية سجوده]

- ‌[فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في سجود السهو]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب والتطوعات]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الجمعة]

- ‌[فصل في تعظيم يوم الجمعة]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي صلاة العيدين]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في سفره وعباداته فيه]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في زيارة المرضى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الزكاة]

- ‌[فَصْلٌ في من يعطى الصدقة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الصيام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته]

- ‌[فصل في إحرامه]

- ‌[فصل قد تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صلى الله عليه وسلم سِتَّ وقفات للدعاء]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأضاحي]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في العقيقة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الذكر]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم عند دخوله مَنْزِلِهِ]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأذان]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في آداب الطعام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذان]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاسْتِئْذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في آداب السفر]

- ‌[فصل فيما يقوله ويفعله من بلي بالوساوس]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يقوله عند الغضب]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظٍ كَانَ صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات]

- ‌[فصل في أنواع الجهاد]

- ‌[فَصْلٌ في دعوة الرسول قومه إلى دينه]

- ‌[فصل في الهجرة إلى الحبشة]

- ‌[فصل في الإسراء]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بها بين أوليائه وأعدائه]

- ‌[فصل في قدوم النبي الْمَدِينَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في القتال]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأسارى]

- ‌[فصل في حكم الأراضي التي يغنمها المسلمون]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأمان والصلح]

- ‌[فصل في ترتيب هَدْيِهِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ بالدين إلى أن لقي الله عز وجل]

- ‌[فصل في سياق مغازيه]

- ‌[فصل في غزوتي بدر وأحد]

- ‌[فصل في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام]

- ‌[فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ]

- ‌[فصل في قصة الحديبية]

- ‌[فصل في غزوة خيبر]

- ‌[فصل في غزوة الفتح العظيم]

- ‌[فصل في غزوة حنين]

- ‌[فصل في غزوة الطائف]

- ‌[فصل في غزوة تبوك]

- ‌[فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد]

- ‌[فصل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا]

- ‌[فصل في حجة أبي بكر رضي الله عنه]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والحزن]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي علاج الفزع والأرق]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[فصل في حكمه بالغنائم]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال]

- ‌[فصل حكمه فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لِعَدُوِّهِ وَفِي رُسُلِهِمْ أَنْ لا يقتلوا ولا يحبسوا]

- ‌[فصل في أحكامه في النكاح وتوابعه]

الفصل: ‌[فصل في حديث الثلاثة الذين خلفوا]

فِي هَذَا الْمَسْجِدِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَلَعْنِهِ مَنِ اتخذ القبر مسجدا، فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رسوله، وَغُرْبَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَرَى.

[فصل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا]

فصل

في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا (1) قال بعض الشارحين: أول أسمائهم مكة، وآخر أسمائهم عكة.

روينا في " الصحيحين " واللفظ للبخاري رحمه الله تعالى عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: «لم أتخلف عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري حين تخلفت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة.

وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، وعدوا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان -. قال كعب رضي الله عنه: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل فيه وحي الله تعالى، وغزا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، وتجهز رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُسْلِمُونَ معه، فطفقت أعدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ.

فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غاديا، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، ولم أقض شيئا، فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل

(1) وهم كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.

ص: 180

فأدركهم، فليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بَعْدَ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء، ولم يذكرني رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:" ما فعل كعب بن مالك "؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرده والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ما علمنا عليه إلا خيرا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، فأقول: بم أخرج من سخطه غدا، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.

وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلما سلّمت عليه تبسَّمَ تبسُّم المغضب ثم قال:" تعال " فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي:" مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظهرك " فقلت: بلى إني والله يا رسول الله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لرأيت أني أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولكني والله إني لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عليَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فيه عفو الله تعالى، لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذر، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَمَّا هَذَا، فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ "، فَقُمْتُ، وَثَارَ رجال من بني سلمة، فاتبعوني فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، فقد

ص: 181

كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ استغفارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنبونني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قلت: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صالحين قد شهدا بدرا رضي الله عنهما ففيهما أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِيَ في نفسي الأرض فما هي التي أَعْرِفُ.

فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أنا فكنت أشبَّ القوم، وأجلدهم، وكنت أَخْرُجُ فأشهدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأُسَلِّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بردِّ السَّلَامِ عليَّ أَمْ لَا، ثُمَّ أُصلي قَرِيبًا مِنْهُ، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ إلى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تسورتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قتادة رضي الله عنه، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا ردَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ له: يَا أبا قتادة: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، فعدت فناشدته، فقال رضي الله عنه: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تسورتُ الجدار، فبينما أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نبط أهل الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ:

أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك. فقلتُ لما قرأته: وهذا أيضا من البلايا فتيمّمتُ بها التنور، فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي، إِذَا رسولُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني فيقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطلقها أَمْ ماذا أفعل؟ فقال: لا بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك،

ص: 182

فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هلال بن أمية شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أن أخدمه؟ قال: " لا ولكن لا يقربنك "، قالت: والله ما به حركة إلى شيء، ووالله ما زال يبكي مذ كان إلى يومه هذا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ فقد أَذِنَ لِامْرَأَةِ هلال بن أمية أَنْ تَخْدُمَهُ، فقلت: والله لا استأذنت فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. فلبثت بذلك عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفجر صبْح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ; فبينما أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل، قَدْ ضَاقَتْ عليَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عليَّ الْأَرْضُ بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يقول: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررت ساجدا، وعلمت أن قد جاء فرج، وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إلي فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الجبل، فكان الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ.

فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سمعت صوته يبشِّرني، نزعت له ثوبَيَّ، فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لتهنك توبة الله تعالى عليك يا كعب. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جالس حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ الله رضي الله عنه يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إليَّ رجل من المهاجرين غيره - وكان كعب لا ينساها لطلحة - فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ:" أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مرَّ عَلَيْكَ مذُ ولدتك أُمك " قال: قلت: أَمِنْك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ".

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ توبتي

ص: 183

أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدِّث إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، وما تعمدت مذ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لَأَرْجُوُ أَنْ يحفظني الله تعالى فيما بقيت، وأنزل اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119](1) .

فوالله ما أنعم الله عليَّ من نِعْمَةً قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ ما قال لأحد فقال الله عز وجل:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96](2) » .

اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من العمل أن في حديث كعب هذا فوائد:

منها: استحباب رد غيبة المسلم كما فعل معاذ رضي الله عنه.

ومنها: ملازمة الصدق، وإن شق فعاقبته إلى خير.

ومنها: استحباب ركعتين في المسجد عند القدوم من السفر قبل كل شيء.

ومنها: أنه يستحب للقادم من سفر إذا كان مقصودا أن يجلس لمن يقصده في موضع بارز كالمسجد ونحوه.

ومنها: جريان أحكام الناس على الظاهر، والله يتولى السرائر.

ومنها: هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة، وترك السلام عليهم تحقيرا لهم وزجرا.

ومنها: استحباب بكائه على نفسه إذا

(1) سورة التوبة، الآية: 117 - 119.

(2)

سورة التوبة، الآية 95، 96.

ص: 184

بدرت منه معصية، وحق له أن يبكي.

ومنها: جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة، كما فعل كعب رضي الله عنه.

ومنها: أن كنايات الطلاق كقوله: الحقي بأهلك. لا يقع إلا بالنية.

ومنها: جواز خدمة المرأة زوجها من غير إلزام ووجوب.

ومنها: استحباب سجود الشكر عند حصول نعمة، أو اندفاع نقمة ظاهرة، والتصدق عند ذلك.

ومنها: استحباب التبشير والتهنئة، وإكرام المبشر بكسوة ونحوها.

ومنها: استحباب القيام للوارد إكراما له إذا كان من أهل الفضل بأي نوع كان، وجواز سرور القوم بذلك كما سر كعب بقيام طلحة رضي الله عنهما، وليس بمعارض بحديث:«من سره أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار» ؛ لأن هذا الوعيد للمتكبرين ومن يغضب إذا لم يقم له، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضي الله عنها سرورا بها، وتقوم له كرامة، وكذلك كل قيام أثمر الحب في الله تعالى، والسرور لأخيك بنعمة الله، والبر لمن يتوجه بره، والأعمال بالنيات، والله أعلم.

ومنها: مدح الإنسان نفسه بما هو فيه إذا لم يكن فخرا.

ومنها: أن العقبة كانت من أفضل المشاهد.

ومنها: أن ديوان الجيش لم يكن في حياته صلى الله عليه وسلم، وأول من دوّن الدواوين عمر.

ومنها: أن الرجل إذا أتيحت له فرصة القربة فالحزم كل الحزم في انتهازها، فإن العزائم سريعة الانتقاض قلما تثبت، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا إلى الخير فلم ينتهزه بأن يحول بينه وبين قلبه وإرادته. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24](1) وصرح سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: 110](2) وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصَّفِّ: 5](3) وَقَالَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التَّوْبَةِ: 115](4) وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَمِنْهَا أَنَّهُ لم يتخلف عنه صلى الله عليه وسلم إلا من هو مَغْمُوصٌ عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ أَوْ مَنْ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

ومنها:

(1) سورة الأنفال، الآية:24.

(2)

سورة الأنعام، الآية:110.

(3)

سورة الصف، الآية:5.

(4)

سورة التوبة، الآية:115.

ص: 185

أن الإمام لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُهْمِلَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بَلْ يُذَكِّرُهُ لِيُرَاجِعَ الطاعة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل كعب "؟ ولم يذكر سواه استصلاحا له وإهمالا للمنافقين.

ومنها: جواز الطعن في رجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن ذَبًّا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمِنْ هَذَا طَعْنُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِيمَنْ طَعَنُوا فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ، وطعن أهل السنة في أهل البدع.

ومنها: جواز الرد على هذا الطَّاعِنِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّادِّ أَنَّهُ وَهَم وغلط كما رد معاذ ولم ينكر صلى الله عليه وسلم عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

ومنها: أن السنة للقادم من سفر أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ عَلَى وُضُوءٍ، وَأَنْ يَبْدَأَ ببيت الله قبل بيته فيصلي ركعتين.

ومنها: ترك الإمام رَدَّ السَّلَامِ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا تَأْدِيبًا له وزجرا لغيره.

وَمِنْهَا: مُعَاتَبَةُ الْإِمَامِ وَالْمُطَاعِ أصحابَه وَمَنْ يَعِزُّ عليه، فإنه عاتب الثلاثة دون غيرهم. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ عِتَابِ الْأَحِبَّةِ وَاسْتِلْذَاذِهِ وَالسُّرُورِ بِهِ، فَكَيْفَ بِعِتَابِ أَحَبِّ الْخَلْقِ على الإطلاق إلى المعتوب عليه، فلله مَا كَانَ أَحْلَى ذَلِكَ الْعِتَابَ وَمَا أَعْظَمَ ثَمَرَتَهُ وَأَجَلَّ فَائِدَتَهُ وَلِلَّهِ مَا نَالَ بِهِ الثلاثة من أنواع المسرات، وحلاوة الرضى وَخِلَعِ الْقَبُولِ.

وَمِنْهَا تَوْفِيقُ اللَّهِ لكعب وَصَاحِبَيْهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الصِّدْقِ، وَلَمْ يَخْذُلْهُمْ حَتَّى كَذَبُوا وَاعْتَذَرُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَصَلُحَتْ عَاجِلَتُهُمْ، وفسدت عاقبتهم وَالصَّادِقُونَ تَعِبُوا فِي الْعَاجِلَةِ بَعْضَ التَّعَبِ، فَأَعْقَبَهُمْ صلاح العاقبة، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمرارات المبادئ حلاوات في العواقب، وحلاوات المبادئ مرارات في العواقب.

وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن كلامهم بَيْنِ سَائِرِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ وَكَذِبِ الْبَاقِينَ، فَأَرَادَ هَجْرَ الصَّادِقِينَ وَتَأْدِيبَهُمْ على هذا الذنب. وأما المنافقون فهذا الدواء لا يعمل في مرضهم، وَهَكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ فِي عُقُوبَاتِ جَرَائِمِهِمْ، فَيُؤَدِّبُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَهُوَ كَرِيمٌ عِنْدَهُ بِأَدْنَى زَلَّةٍ وَهَفْوَةٍ، فَلَا يَزَالُ مُسْتَيْقِظًا حَذِرًا، وَأَمَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ وَهَانَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ، فكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة.

وقوله: " حتى تسوَّرتُ حَائِطِ أبي قتادة " فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ الرجل دار صاحبه وجاره، إذا علم رضاه بلا إذن، وفي أمره لهم باعتزال النساء كالبشارة بالفرج من جهة كلامه لهم، ومن أمره لهم بالاعتزال.

وفي قوله: " الحقي بأهلك " دليل على

ص: 186

أنه لا يَقَعْ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ وَأَمْثَالِهَا طَلَاقٌ مَا لَمْ ينوه، وفي سجوده لما سمع صوت البشير دليل أن تلك عادة الصحابة، وهو استحباب سُجُودُ الشُّكْرِ عِنْدَ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَالنِّقَمِ الْمُنْدَفِعَةِ، وقد سجد صلى الله عليه وسلم حِينَ بَشَّرَهُ جِبْرِيلُ أن مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَسَجَدَ حِينَ شَفَعَ لِأُمَّتِهِ، فَشَفَّعَهُ الله فيهم ثلاث مرات، وسجد أبو بكر لما جاءه قتل مسيلمة، وسجد علي حين وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وَفِي اسْتِبَاقِ صَاحِبِ الْفَرَسِ وَالرَّاقِي عَلَى سِلَعٍ دَلِيلٌ عَلَى حِرْصِ الْقَوْمِ عَلَى الْخَيْرِ، وَاسْتِبَاقِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَنَافُسِهِمْ فِي مَسَرَّةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَفِي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما دليل على أن إعطاء المبشِّر من مكارم الأخلاق، وجواز إعطاء البشير جميع ثيابه، واستحباب تَهْنِئَةِ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دِينِيَّةٌ، وَالْقِيَامِ إليه، وَمُصَافَحَتِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ. وَأَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يقال: لِيَهْنِكَ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ وَنَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ، فَإِنَّ فِيهِ تَوْلِيَةَ النِّعْمَةِ رَبَّهَا، وَالدُّعَاءَ لِمَنْ نَالَهَا بِالتَّهَنِّي بِهَا.

وفيه أن خير أيام العبد على الإطلاق يوم توبته، وقبول الله لها، وفي سروره صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ وَفَرَحِهِ بِهِ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ في قلبه من كمال شفقته على الأمة.

وفيه اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ بِمَا قُدِرَ عَلَيْهِ من المال، وفي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» دليل على أن من نذر ماله كله يلزمه إخراج جميعه، وفيه عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدارين به، وقد قسم سبحانه الخلق قسمين سعداء، وهم أهل الصدق والتصديق، وأشقياء وهم أَهْلَ الْكَذِبِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ مُطَّرِدٌ منعكس.

وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117](1) هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعَرِّفُ الْعَبْدَ قَدْرَ التوبة، وأنها غاية كمال المؤمن، فإن الله سبحانه وتعالى أَعْطَاهُمْ هَذَا الْكَمَالَ بَعْدَ آخِرِ الْغَزَوَاتِ بَعْدَ أن قضوا نحبهم، وبذلوا أنفسهم وَأَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ لِلَّهِ، وَكَانَ غَايَةَ أَمْرِهِمْ أَنْ تَابَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تَوْبَةِ كَعْبٍ خَيْرَ يَوْمٍ مر

(1) سورة التوبة، الآية:117.

ص: 187