الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ النَّارَ أَوَّلُ مَا تُسعر بِالْعَالِمِ وَالْمُنْفِقِ وَالْمَقْتُولِ فِي الْجِهَادِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في القتال]
فَصْلٌ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ الْقِتَالَ أَوَّلَ النَّهَارِ، كَمَا يستحب الخروج للسفر، فإذا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ، أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر.
وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يَفِرُّوا، وَرُبَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْمَوْتِ، وَبَايَعَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، كَمَا بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَبَايَعَهُمْ عَلَى الهجرة، وَبَايَعَهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْتِزَامِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا، وَكَانَ السَّوْطُ يَسْقُطُ مِنْ يد أحدهم، فينزل له فَيَأْخُذُهُ، وَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِي إِيَّاهُ.
وَكَانَ يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدو، وتخيّر المنازل، وَكَانَ يَتَخَلَّفُ فِي سَاقَتِهِمْ فِي الْمَسِيرِ، فَيُزْجِي الضَّعِيفَ، وَيُرْدِفُ الْمُنْقَطِعَ، وَكَانَ أَرْفَقَ النَّاسِ بِهِمْ في المسير، وإذا أراد غزوة، ورّى بغيرها ويقول:«الحرب خدعة» ، وكان يبعث العيون يأتون بخبر عدوه، ويطلع الطلائع، ويبث الحرس، وإذا لَقِيَ عَدُوَّهُ، وَقَفَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ، وَأَكْثَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَخَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ.
وكان يرقب الْجَيْشَ وَالْمُقَاتِلَةَ، وَيَجْعَلُ فِي كُلِّ جَنَبَةٍ كُفْئًا لَهَا، وَكَانَ يُبَارَزُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ لِلْحَرْبِ عُدَّتَهُ، وَرُبَّمَا ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وكان له ألوية، وكان إذا ظهر على قوم، نزل بِعَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَفَلَ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغِيرَ، انْتَظَرَ، فَإِنْ سَمِعَ فِي الْحَيِّ أذانا، لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيّت عَدُوَّهُ، وَرُبَّمَا فَاجَأَهُمْ نَهَارًا، وَكَانَ يُحِبُّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بُكْرَةَ النَّهَارِ، وَكَانَ الْعَسْكَرُ إِذَا نزل انضم بعضهم إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى لَوْ بُسط عَلَيْهِمْ كِسَاءٌ لعمهم.
وكان يرتب الصفوف، ويُعبئُهم للقتال، وَيَقُولُ: تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ، تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ، وكان يستحب للرجل أَنْ يُقَاتِلَ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ.
وَكَانَ إِذَا لقي العدو يقول: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» وَرُبَّمَا قَالَ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45 - 46](1) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ» ، وكان يقول: «اللهم
(1) سورة القمر، الآية 45، 46.
أنت عضدي وأنت نصيري، بك أقاتل» وكان إذا اشتد البأس وَقَصَدَهُ الْعَدُوُّ يُعْلِمُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ:«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب» ، وإذا اشتد البأس، اتقوا به.
وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ يَجْعَلُ لِأَصْحَابِهِ شِعَارًا فِي الْحَرْبِ يُعرفون بِهِ إِذَا تَكَلَّمُوا، وكان شعاره مرة: أمت أمت، ومرة: يا منصور أمت، وَمَرَّةً: حم لَا يُنصرون. وَكَانَ يَلْبَسُ الدِّرْعَ وَالْخُوذَةَ، وَيَتَقَلَّدُ السَّيْفَ، وَيَحْمِلُ الرُّمْحَ وَالْقَوْسَ الْعَرَبِيَّةَ ويتترس بالترس، ويحب الْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ، وَقَالَ:«إِنَّ مِنْهَا مَا يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ، فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ الله عز وجل، فاختيال الرجل في البغي والفجور» ، وقاتل مرة بالمنجنيق، فنصبه مرة عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ النساء والولدان، وينظر في المقاتلة، فمن رآه أنبت، قتله، وإلا اسْتَحْيَاهُ.
وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً يُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَيَقُولُ:«سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ الله، قاتلوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَغْدُرُوا ولا تغلوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ، وَكَانَ يَنْهَى عَنِ السَّفَرِ بالقرآن إلى أرض العدو، ويأمر أمير السرية أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ، إِمَّا إِلَى الإسلام والهجرة، أو الْإِسْلَامِ دُونَ الْهِجْرَةِ، وَيَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لهم نصيب في الفيء، أَوْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوا إِلَيْهِ، قَبِل مِنْهُمْ، وَإِلَّا اسْتَعَانَ بِاللَّهِ وَقَاتَلَهُمْ.
وَكَانَ إِذَا ظَفِرَ بِعَدُوِّهِ أَمَرَ مُنَادِيًا، فَجَمَعَ الْغَنَائِمَ كُلَّهَا، فَبَدَأَ بِالْأَسْلَابِ فَأَعْطَاهَا لِأَهْلِهَا، ثُمَّ أَخْرَجَ خُمُسَ الْبَاقِي، فَوَضَعَهُ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ بِهِ، مِنْ مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَرْضَخُ مِنَ الْبَاقِي لِمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ، ثُمَّ قَسَمَ الْبَاقِي بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ الجيش للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، هذا هو الصحيح.
وَكَانَ يُنَفِّلُ مِنْ صُلْبِ الْغَنِيمَةِ بِحَسَبِ مَا يراه من المصلحة، وَجَمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ بين سهم الراجل والفارس فأعطاه خمسة لعظم غنائه، وكان يسوي بين الضعيف والقوي في القسم مَا عَدَا النَّفَلَ، وَكَانَ إِذَا أَغَارَ فِي أرض العدو، وبعث سَرِيَّةً بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا غَنِمَتْ أَخْرَجَ خُمُسَهُ، وَنَفَّلَهَا رُبُعَ الْبَاقِي، وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَيْشِ، وَإِذَا رَجَعَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَنَفَّلَهَا الثلث، ومع ذلك كان يَكْرَهُ النَّفَلَ وَيَقُولُ: «لِيَرُدَّ
قوي المؤمنين على ضعيفهم» ، وكان له سَهْمٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُدْعَى الصَّفِيَّ إِنْ شَاءَ عبدًا، وإن شاء فرسا يختاره قبل القسم.
قالت عائشة: كانت صفية منه، أي: من الصفي رواه أبو داود، وَكَانَ سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ مِنَ الصَّفِيِّ، وَكَانَ يُسْهِمُ لِمَنْ غَابَ عَنِ الْوَقْعَةِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، كما أسهم لعثمان من بدر لتمريض ابنته، فَقَالَ:«إِنَّ عثمان انْطَلَقَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وحاجة رسوله، فضرب له بسهمه وَأَجْرَهُ» .
وَكَانُوا يَشْتَرُونَ مَعَهُ فِي الْغَزْوِ وَيَبِيعُونَ وهو يراهم ولا ينهاهم، وكانوا يستأجرون الأجراء للغزو، وذلك عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ، وَيَسْتَأْجِرَ من يخدمه. في سفره. الثاني: أن يستأجر من يخرج للجهاد، ويسَمُّون ذلك الجعائل، وفيها قال صلى الله عليه وسلم:«لِلْغَازِي أَجْرُهُ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ، وَأَجْرُ الْغَازِي» ، وَكَانُوا يَتَشَارَكُونَ فِي الْغَنِيمَةِ، وهو عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ بَعِيرَهُ إِلَى الرَّجُلِ أَوْ فَرَسَهُ يَغْزُو عَلَيْهِ عَلَى النِّصْفِ مِمَّا يَغْنَمُ حَتَّى رُبَّمَا اقْتَسَمَا السَّهْمَ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قِدْحَهُ، والآخر نصله وريشه.
قال ابْنُ مَسْعُودٍ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وعمار وسعد فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سعد بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أجئ أنا وعمار بشيء.
وكان يبعث السرية فرسانا تارة، ورجالة أخرى، ولا يُسْهِمُ لِمَنْ قَدِمَ مِنَ الْمَدَدِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وكان يعطي سهم ذوي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ إخوتهم من عبد شمس ونوفل، وَقَالَ:«إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَالَ:«إِنَّهُمْ لَمْ يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُصِيبُونَ مَعَهُ فِي مَغَازِيهِمُ الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ وَالطَّعَامَ، فَيَأْكُلُونَهُ وَلَا يَرْفَعُونَهُ فِي الْمَغَانِمِ.
وقيل لابن أبي أوفى: هل كنتم تخمسون الطعام؟ فقال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَأْكُلُ الْجَوْزَ فِي الْغَزْوِ، وَلَا نَقْسِمُهُ، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِحَالِنَا، وَأَجْرِبَتُنَا مِنْهُ مَمْلُوءَةٌ وكان ينهى عن النهبى وَالْمُثْلَةِ، وَقَالَ:«مَنِ انْتَهَبَ نُهْبَةً فَلَيْسَ مِنَّا» . وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَرْكَبَ الرَّجُلُ دَابَّةً مِنَ الفيء، فإذا أعجفها ردها فيه، وأن يلبس ثَوْبًا مِنَ الْفَيْءِ، حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الحرب، وكان يشدد في الغلول جدا ويقول:«عارٌ ونارٌ وشنارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، ولما أصيب غلامه مِدعَم، قال بعض الصحابة: