الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بن الدخشم ومعن بن عدي فَقَالَ: «انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فاهدماه وحرقاه بالنار» ، فخرجا مسرعين، حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرق عنه أهله، فأنزل الله سبحانه فِيهِ:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107](1) فلما دنا مِنَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا
…
مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
…
مَا دَعَا لله داع
وبعضهم يروي هذا عند مقدمه مهاجرا وهو وَهْم (2) ؛ لأن ثنيات الوداع من ناحية الشَّامِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ:«هَذِهِ طابة» ، وقال «هذا أُحد جبل يحبنا ونحبه» فلما دخل بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، وكانت تلك عادته صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، فجاءه المخلفون يعتذرون إليه، ويحلفون له، فقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى خالقهم، وفيهم نزل قوله تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94](3) الآية وما بعدها.
[فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد]
فصل
في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد فَمِنْهَا جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِنْ كَانَ خُرُوجُهُ فِي رَجَبٍ مَحْفُوظًا عَلَى مَا قاله ابن إسحاق، ومنها إعلام الإمام القوم بالأمر الذي يضرهم إخفاؤه، وستره عنهم لِلْمَصْلَحَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ لزم لهم النَّفِيرُ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ التَّخَلُّفُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، ولا يشترط في الوجوب تعيين كل واحد منهم بعينه، وهذا أحد المواضع الثلاثة التي يصير الجهاد فيها فرض عين، والثاني: إذا حاصر الْعَدُوُّ الْبَلَدَ، وَالثَّالِثُ: إِذَا حَضَرَ بَيْنَ الصَّفين.
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ كَمَا يَجِبُ بِالنَّفْسِ، وهذا هو الصواب الذي لا ريب
(1) سورة التوبة، الآية:108.
(2)
وإصرار البعض على أنه عند الهجرة تعنت بلا دليل.
(3)
سورة التوبة، الآية: 94 - 98.
فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقين: الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ وَقَرِينُهُ، بَلْ جَاءَ مُقَدَّمًا عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِلَّا مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنه آكد من الجهاد بالنفس، وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ بِالْمَالِ عَلَى الْعَاجِزِ بِالْبَدَنِ، فوجوب الجهاد بالمال أولى.
ومنها ما برز به عثمان من النفقة العظيمة، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاجِزَ بِمَالِهِ لَا يُعذر حَتَّى يبذل جهده، فإنه سبحانه إنما نفى الحرج عن العاجزين بعد أن أتوا رسوله ليحملهم، ثم رجعوا باكين.
وَمِنْهَا اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ إِذَا سَافَرَ رَجُلًا مِنَ الرعية، ويكون مِنَ الْمُجَاهِدِينَ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ لَهُمْ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي بِآبَارِ ثَمُودَ لَا يجوز شربه، ولا الطهارة به، ولا الطبخ به ولا العجين بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْقَى الْبَهَائِمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ بِئْرِ النَّاقَةِ، وَكَانَتْ مَعْلُومَةً بَاقِيَةً إِلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَمَرَّ عِلْمُ النَّاسِ بِهَا قَرْنًا بعد قرن إلى وقتنا هذا، فلا ترد الركبان بئرا غيرها.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ مَرَّ بِدِيَارِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والمعذبين لا ينبغي لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَلَا يُقِيمَ بِهَا بَلْ يُسْرِعُ السَّيْرَ، وَيَتَقَنَّعُ بِثَوْبِهِ حَتَّى يُجَاوِزَهَا، وَلَا يدخل عليهم إلا أن يكون باكيا معتبرا.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ، وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ في هذه القصة في حديث معاذ، وذكرنا علته، ولم يجئ عنه جمع التقديم فِي سَفَرٍ إِلَّا هَذَا، وَصَحَّ عَنْهُ جَمْعُ التقديم بعرفة قبل دخوله عرفة.
ومنها جواز التيمم بالرمل، فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه قطعوا تلك الرمال، ولم يحملوا معهم ترابا، وتلك مفاوز معطشة، وشكوا فِيهَا الْعَطَشَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنه أقام بتبوك بضعة عشر يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقُلْ لِلْأُمَّةِ: لَا يقصر رجل إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن انقضت إِقَامَتُهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَهَذِهِ الْإِقَامَةُ فِي حَالِ السَّفَرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ السَّفَرِ سَوَاءٌ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَوْطِنٍ ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع، قال ابن المنذر: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ مَا لَمْ يُجْمِعْ إِقَامَةً، وَإِنْ أَتَى عَلَيْهِ سنون.
وَمِنْهَا جَوَازُ بَلِ اسْتِحْبَابُ حِنْثِ الْحَالِفِ فِي يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها، وإن شاء قدّم الكفارة، وإن شاء أخرها.
وَمِنْهَا انْعِقَادُ الْيَمِينِ فِي حَالِ الْغَضَبِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ بِصَاحِبِهِ إِلَى حَدٍّ لَا يَعْلَمُ مَعَهُ مَا يَقُولُ، وَكَذَلِكَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَتَصِحُّ عُقُودُهُ، فَلَوْ بَلَغَ
بِهِ الْغَضَبُ إِلَى حَدِّ الْإِغْلَاقِ لَمْ تَنْعَقِدْ يمينه، ولا طلاقه.
ومنها قوله: «مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَبْرِيُّ، وَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ بِهِ، وإنما هو مِثْلُ قَوْلِهِ:«وَاللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا أَمْنَعُ، وَإِنَّمَا أَنَا قاسمٌ أضعُ حَيْثُ أُمرت» ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ، فَإِذَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِشَيْءٍ نَفَّذَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِعُ وَالْحَامِلُ، وَالرَّسُولُ مُنَفِّذٌ لِمَا أمر به.
ومنها أن أهل العهد إذا أحدث أحدهم حدثا فيه ضرر على الإسلام وأهله، انتقض عهده في ماله ونفسه، وإذا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فَدَمُهُ وَمَالُهُ هَدْرٌ، وهو لمن أخذه كما في صلح أهل أيلة.
وَمِنْهَا جَوَازُ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ كَمَا دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذا البجادين إذا كان لضرورة أو مصلحة راجحة.
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمَتْ غَنِيمَةً أَوْ أَسَرَتْ أَسِيرًا أَوْ فَتَحَتْ حِصْنًا، كَانَ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ الخمس، فإنه صلى الله عليه وسلم قسم غنيمة دومة الجندل بين السرية بخلاف ما إذا خرجت السرية من الجيش في حال الغزو، وأصابت ذلك بقوة الجيش، فإن ما أصابوه يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْجَمِيعِ بَعْدَ الْخَمْسِ وَالنَّفْلِ، وَهَذَا كَانَ هَدْيَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ» فَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ هِيَ بقلوبهم وهممهم، وَهَذَا مِنَ الْجِهَادِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ أَحَدُ مَرَاتِبِهِ الأربع، وهي القلب والسان والمال والبدن.
ومنها تحريق أمكنة المعصية كما حرق مسجد الضرار، وكل مكان مثله فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق، وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ صُورَتِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَمَّا وُضع لَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَمَشَاهِدُ الشرك أحق وأوجب، وكذا بيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر قَرْيَةً بِكَمَالِهَا يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ، وَحَرَقَ حَانُوتَ رويشد الثقفي وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا، وَحَرَقَ قَصْرَ سعد لما احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ تَارِكِي الجمعة والجماعة، وإنما منعه من فيها ممن لا تجب عليهم.
ومنها أن الوقوف لا يصح على غير قربة، وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ كَمَا يُنْبَشُ الْمَيِّتُ إِذَا دفن في المسجد، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الْآخَرِ مَنَعَ مِنْهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلسَّابِقِ، فَلَوْ وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْوَقْفُ وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ