الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سواه. وحديث عائشة: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي» -غريب، لا يعارض بمثله الحديث الصحيح. وكره قوم من السلف الكنية بأبي عيسى، وأجازه آخَرُونَ، فَرَوَى أبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم أن عمر ضرب ابنا له تكنى بأبي عيسى، وكني المغيرة بأبي عيسى فقال عمر: أَمَا يَكْفِيكَ أَنْ تُكْنَى بأبي عبد الله؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كناني بذلك، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قد غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وإنا لفي جلجلتنا (1) . فَلَمْ يَزَلْ يُكَنَّى بأبي عبد الله حَتَّى هلك. ونهى عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا، وَقَالَ:«الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ» (2) وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تَدُلُّ عَلَى كثرة الخير والمنافع، وقال:«لا يغلبنكم الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا وَإِنَّهَا الْعِشَاءُ، وإنهم يسمونها العتمة» . وقال: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا ولو حبوا» . والصواب أنه لم ينه عن إطلاق هذا الاسم بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَنْ يُهْجَرَ اسْمُ العشاء، وهذا محافظة منه على الاسم الذي سمى به الْعِبَادَاتِ، فَلَا تُهْجَرُ وَيُؤَثِّرُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هِجْرَانِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ، وَإِيثَارِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا، وَنَشَأَ بِسَبَبِ هَذَا مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَهَذَا لمحافظته على تقديم ما قدمه الله. وبدأ في العيد بالصلاة ثم نحر، وَبَدَأَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْوَجْهِ، ثُمَّ الْيَدَيْنِ، ثم الرأس، ثم الرجلين، وقدم زكاة الفطر على صلاة العيد؛ لقوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14 - 15](3) وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ كَانَ يَتَخَيَّرُ فِي خِطَابِهِ، وَيَخْتَارُ لِأُمَّتِهِ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء وَالْفُحْشِ، فَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا وَلَا فَظًّا. وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظِ الشَّرِيفِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وأن
(1) بفتح الجيم وسكون اللام ثم جيم مفتوحة، قال ابن قتيبة: معناه: وبقينا نحن في عدد من أمثالنا من المسلمين لا ندري ما يصنع بنا.
(2)
رواية مسلم.
(3)
سورة الأعلى، الآية: 14، 15.
يستعمل اللفظ الْمَكْرُوهُ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فمن الأول منعه أن يقال للمنافق: سيد، ومنعه أن يسمى العنب كرما، ومنعه من تَسْمِيَةَ أبي جهل بأبي الحكم، وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُهُ لِاسْمِ أبي الحكم مِنَ الصَّحَابَةِ بأبي شريح، وَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ» ، ومنه نهيه المملوك أن يقول لسيده: ربي، وللسيد أن يقول لمملوكه: عبدي وأمتي. وقال لمن ادعى أنه طبيب: «أنت رَفِيقٌ، وَطَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا» . وَالْجَاهِلُونَ يُسَمُّونَ الْكَافِرَ الَّذِي لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ: حَكِيمًا، ومنه قوله للذي قال: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» . ومنه قَوْلُهُ: «لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فلان» ، وفي معناه قَوْلُ مَنْ لَا يَتَوَقَّى الشِّرْكَ: أَنَا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَأَنَا فِي حَسْبِ اللَّهِ وَحَسْبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى الله وعليك، وهذا من الله ومنك، ووالله وحياتك، وأمثال هذه الألفاظ التي يجعل قائلها المخلوق ندا لله، وَهِيَ أَشَدُّ مَنْعًا وَقُبْحًا مِنْ قَوْلِهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. فَأَمَّا إِذَا قَالَ: أَنَا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شئت - فلا بأس، كَمَا فِي حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ:«لَا بَلَاغَ لِيَ اليوم إلا بالله ثم بك» . وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذَّمِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِثْلُ نهيه عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ، وَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدهر» ، وفيه ثلاث مفاسد، أحدها: سب من ليس بأهل. الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه ما سبه إلا لظنه أنه يضر وينفع، وأنه ظالم، وأشعار هؤلاء فِي سَبِّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يصرح بلعنه. الثالثة: أن السب إنما يقع على فاعل هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ فِيهَا أهواءهم لفسدت السماوات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر، وأثنوا عليه. ومن هذا قوله:«لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حتى يكون مثل البيت ويقول: صرعته بقوتي، ولكن ليقل: باسم اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ الشيطان يقول: إنك لتلعن ملعنا» . وهذا قول: أَخْزَى اللَّهُ الشَّيْطَانَ، وَقَبَّحَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُفْرِحُهُ، وَيَقُولُ: عَلِمَ ابْنُ آدَمَ أني نلته بقوتي. وذلك ما يعينه على إغوائه، فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ: أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ، وَيَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ
أنفع له، وأغيظ للشيطان. ومن ذلك نهيه أن يقول الرجل: خبثت نفسي، ولكن يقول: لَقِسَتْ نَفْسِي، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، أَيْ: غَثَّتْ نَفْسِي، وَسَاءَ خُلُقُهَا، فَكَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْخُبْثِ؛ لِمَا فيه من القبح والشناعة. ومنه نهيه عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ: لَوْ أني فعلت كذا وكذا، وقال:«إنها تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى مَا هُوَ أنفع منها، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ:«قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» (1) وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كذا لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ - كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فائدة، فإنه غير مستقبل لما استدبر، وغير مستقيل عثرته بـ " لو "، وفي ضمنها أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدَّرَهُ فِي نفسه لكان غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر مُحَالٌ، فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا، وَإِنْ سَلِمَ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ، لَمْ يَسْلَمْ من معارضته بـ " لو ". فإن قيل: فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضا، قِيلَ: هَذَا حَقٌّ، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وقوع القدر المكروه، فإذا وقع فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفِّفَ أَثَرَ مَا وَقَعَ، وَلَا يَتَمَنَّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، وهو مباشرة الأسباب، فهي تفتح عمل الخير، وأما العجز فيفتح عَمَلَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَمَّا يَنْفَعُهُ صار إلى الأماني الباطنة؛ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، وَهُمَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمُّ وَالْحَزَنُ، وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فَمَصْدَرُهَا كُلُّهَا عَنِ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَعُنْوَانُهَا " لَوْ "؛ فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» . فَالْمُتَمَنِّي مِنْ أعجز الناس وأفلسهم، وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الْعَجْزُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْجِزُ عن أسباب الطَّاعَاتِ، وَعَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُبْعِدُهُ عَنِ الْمَعَاصِي وتحول بينه وبينها، فجمع في هذا الحديث الشريف أصل الشر وفروعه، ومبادئه وغاياته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خِصَالٍ، كُلُّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا قَرِينَتَانِ، فَقَالَ:«أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ» وَهُمَا قَرِينَانِ، فَإِنَّ المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمرا ماضيا،
(1) ولا يقول: لو، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان (مسلم) .
فَهُوَ يُحْدِثُ الْحَزَنَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَقُّعُ مستقبل، فهو يورث الْهَمَّ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا مَضَى لَا يُدْفَعُ بِالْحُزْنِ، بَلْ بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، وَالصَّبْرِ، وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ. وَقَوْلِ الْعَبْدِ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شاء فعل، وما يستقبل لا يدفع بالهم، بل إما أن تكون لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ، فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ، وإما أن لا يكون له حيلة في دفعه، فلا يجزع، ويلبس له لباسه من التوحيد والتوكل والرضى بالله ربا فيما يحب ويكره، والهم والحزن يُضْعِفَانِ الْعَزْمَ، وَيُوهِنَانِ الْقَلْبَ، وَيَحُولَانِ بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعه، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر. ومن حكمة العزيز الحكيم تسليط هذين الجنديين على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله، ولا سبيل إلى خلاص القلب من ذلك إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَا بَلَاغَ إِلَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوصِلُ إِلَيْهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يدل عليه إلا هو. وإذا أقام العبد في أي مقام كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقا هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إِلَيْهِ وَلِيُعِزَّهُ بِالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَلِيُغْنِيَهُ بِالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليوليه بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ، وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي قُدْرَتِهِ، ورحمته في عزته، وإن منعه عطاء، وعقوبته تأديب، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه، والله أعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث يجعل رسالته {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] (1) فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص، فمن رده المنع إليه، انقلب عطاء، ومن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعا، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة، وَاتِّخَاذَ السَّبِيلِ إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ هَذَا الْمُرَادَ لَا يَقَعُ حَتَّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ إِعَانَتَنَا ومشيئتنا له، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 29](2) . فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ رُوحٌ أُخْرَى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يَسْتَدْعِي بِهَا إِرَادَةَ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ فَاعِلًا، وَإِلَّا فَمَحَلُّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَطَاءِ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْعَطَاءُ، فَمَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إناء رجع
(1) سورة الأنعام، الآية:53.
(2)
سورة التكوير، الآية:29.
بالحرمان، فلا يلومن إلا نفسه. والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَهُمَا قَرِينَانِ، وَمِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَهُمَا قرينان، فإن تخلف صلاح العبد وكماله عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فهو عجز، أو يكون قادرا لكن لا يريده، فَهُوَ كَسَلٌ، وَيَنْشَأُ عَنْ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فَوَاتُ كُلِّ خَيْرٍ، وَحُصُولُ كُلِّ شَرٍّ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّرِّ تَعْطِيلُهُ عَنِ النَّفْعِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ الْجُبْنُ، وَعَنِ النَّفْعِ بِمَالِهِ وَهُوَ الْبُخْلُ، ثُمَّ يَنْشَأُ له من ذلك غَلَبَتَانِ غَلَبَةٌ بِحَقٍّ وَهِيَ غَلَبَةُ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةٌ بباطل وهي غلبة الرجال، وكل هذه ثَمَرَةُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الحديث الصحيح للذي قَضَى عَلَيْهِ، فَقَالَ:«حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ونعم الوكيل» فهذا قالها بَعْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْكَيْسِ الَّذِي لَوْ قَامَ بِهِ لَقُضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ، فَلَوْ فَعَلَ الأسباب ثم غلب فقالها، لوقعت مَوْقِعَهَا، كَمَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ لَمَّا فَعَلَ الأسباب المأمور بها ولم يعجز بترك شيء منها، ثم غلبه العدو، وألقوه في النار قال: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ -فَوَقَعَتِ الْكَلِمَةُ مَوْقِعَهَا، فأثرت أثرها. وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ أُحُدٍ:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] فتجهزوا وخرجوا لهم، ثم قالوها، فأثرت أثرها؛ ولهذا قال الله تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3](1) وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11](2) فالتوكل والحسب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، ولا عَجْزَهُ تَوَكُّلًا، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الأسباب الَّتِي لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إِلَّا بِهَا كُلِّهَا. ومن هنا غلط طائفتان، إِحْدَاهُمَا: زَعَمَتْ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ، فعطلت الأسباب التي اقتضتها حكمة الله. الثانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم أَرْشَدَ الْعَبْدَ إِلَى ما فيه غاية كماله، أن يحرص على ما ينفعه ويبذل
(1) سورة الطلاق، الآية: 2-3.
(2)
سورة المائدة، الآية:11.