المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة] - مختصر زاد المعاد

[محمد بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة الناشر مختصر زاد المعاد]

- ‌[ترجمة المؤلف]

- ‌[ترجمة الإمام ابن القيم]

- ‌[مقدمة المؤلف]

- ‌[فصل اختص الله نفسه بالطيب]

- ‌[فصل في وجوب معرفة هدي الرسول]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْوُضُوءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[فصل في قراءة صلاة الفجر]

- ‌[فصل في هديه في القراءة في باقي الصلوات]

- ‌[فصل في ركوعه صلى الله عليه وآله وسلم]

- ‌[فَصْلٌ في كيفية سجوده]

- ‌[فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في سجود السهو]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السنن الرواتب والتطوعات]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الجمعة]

- ‌[فصل في تعظيم يوم الجمعة]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي صلاة العيدين]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في سفره وعباداته فيه]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في زيارة المرضى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الزكاة]

- ‌[فَصْلٌ في من يعطى الصدقة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في صدقة التطوع]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الصيام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته]

- ‌[فصل في إحرامه]

- ‌[فصل قد تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ صلى الله عليه وسلم سِتَّ وقفات للدعاء]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأضاحي]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في العقيقة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأسماء والكنى]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الذكر]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم عند دخوله مَنْزِلِهِ]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأذان]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في آداب الطعام]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذان]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الاسْتِئْذَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في آداب السفر]

- ‌[فصل فيما يقوله ويفعله من بلي بالوساوس]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يقوله عند الغضب]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظٍ كَانَ صلى الله عليه وسلم يكره أن تقال]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الجهاد والغزوات]

- ‌[فصل في أنواع الجهاد]

- ‌[فَصْلٌ في دعوة الرسول قومه إلى دينه]

- ‌[فصل في الهجرة إلى الحبشة]

- ‌[فصل في الإسراء]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَبْدَأِ الْهِجْرَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بها بين أوليائه وأعدائه]

- ‌[فصل في قدوم النبي الْمَدِينَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ]

- ‌[فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في القتال]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأسارى]

- ‌[فصل في حكم الأراضي التي يغنمها المسلمون]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في الأمان والصلح]

- ‌[فصل في ترتيب هَدْيِهِ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ بالدين إلى أن لقي الله عز وجل]

- ‌[فصل في سياق مغازيه]

- ‌[فصل في غزوتي بدر وأحد]

- ‌[فصل في ما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام]

- ‌[فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ]

- ‌[فصل في قصة الحديبية]

- ‌[فصل في غزوة خيبر]

- ‌[فصل في غزوة الفتح العظيم]

- ‌[فصل في غزوة حنين]

- ‌[فصل في غزوة الطائف]

- ‌[فصل في غزوة تبوك]

- ‌[فصل في الإشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من الفوائد]

- ‌[فصل في حديث الثلاثة الذين خُلِّفُوا]

- ‌[فصل في حجة أبي بكر رضي الله عنه]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والحزن]

- ‌[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي علاج الفزع والأرق]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم أَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[فصل في حكمه بالغنائم]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم في قسمة الأموال]

- ‌[فصل حكمه فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ لِعَدُوِّهِ وَفِي رُسُلِهِمْ أَنْ لا يقتلوا ولا يحبسوا]

- ‌[فصل في أحكامه في النكاح وتوابعه]

الفصل: ‌[فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة]

ذكر نعمه عليهم بإرسال رسوله، وإنزال كتابه، يزكيهم به، وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمَهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يعلمون.

ثم أمرهم بذكره وشكره إذ بهما يستوجبون لهم محبته لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ، وأخبر أنه مع الصابرين، وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقِبْلَةِ بِأَنْ شَرَعَ لَهُمُ الْأَذَانَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَزَادَهُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ بعد أن كانت ثنائية، وكل هذا بعد مقدمه المدينة.

[فصل في أحوال رسول الله والمسلمين عندما استقر بالمدينة]

فَصْلٌ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وأيده الله بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم بعد العداوة، فَمَنَعَتْهُ أَنْصَارُ اللَّهِ، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَسْوَدِ والأحمر، وبذلوا أنفسهم دُونَهُ، وَقَدَّمُوا مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَزْوَاجِ، وَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ وَالْيَهُودُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَشَمَّرُوا لَهُمْ عن ساق العداوة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله تعالى يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ حَتَّى قَوِيَتِ الشَّوْكَةُ، وَاشْتَدَّ الْجَنَاحُ، فَأُذِنَ لَهُمْ حِينَئِذٍ فِي الْقِتَالِ، وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39](1) وقيل: إن هذا بمكة، لأن السورة مَكِّيَّةٌ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ لم يأذن في القتال بمكة.

الثاني: أن السياق يدل على أن الإذن بعد إخراجهم من ديارهم بغير حق.

. الثالث: أن قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الْحَجِّ: 19] نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ.

الرابع: أنه خاطبهم فيها بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، والخطاب بذلك كله مدني.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ الَّذِي يَعُمُّ اليد وغيره، ولا ريب أن الأمر المطلق بالجهاد إنما كان بعد الهجرة.

السادس: أن الحاكم روى في " مستدركه " عن ابن عباس بإسناده على شرطهما، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ، قَالَ أبو بكر: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيَهْلِكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية

(1) سورة الحج، الآية:39.

ص: 119

وهي أول آية نزلت في القتال. انتهى.

وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْمَكِّيَّ والمدني، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنيته مكية، والله أعلم.

ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190](1) ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً وَكَانَ مُحَرَّمًا، ثُمَّ مَأْذُونًا بِهِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ، لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، إِمَّا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أو كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ، إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا باليد، وإما بالمال، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هذه الأنواع، وأما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما بِالْمَالِ، فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ بِهِ وَبِالنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ سَوَاءٌ، وعلق النجاة من النار والمغفرة، ودخول الجنة به، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10](2) الآيات، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم، وأعاضهم عنها الْجَنَّةَ، وَأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ وَالْوَعْدَ قَدْ أَوْدَعَهُ أفضل كتبه، ثم أكده بِإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ تبارك وتعالى، ثم أكده بأن أمرهم أن يستبشروا بذلك، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فليتأمل العاقل مع ربه ما أجل هذا العقد، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل هُوَ الْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنُ الجنة، والذي جرى على يديه هَذَا الْعَقْدُ أَشْرَفُ رُسُلِهِ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الملائكة ومن البشر، وَإِنَّ سِلْعَةً هَذَا شَأْنُهَا لَقَدْ هُيِّئَتْ، لِأَمْرٍ عظيم.

قد هيؤوك لِأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ

فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ ترعى مع الهمل

مهر الجنة والمحبة بذل النفس والمال لمالكهما، فَمَا لِلْجَبَانِ الْمُعْرِضِ الْمُفْلِسِ، وَسَوْمِ هِذِهِ السِّلْعَةِ بالله ما هزلت فيسنامها المفلسون، وما كَسَدَتْ فَيَبِيعَهَا بِالنَّسِيئَةِ الْمُعْسِرُونَ، لَقَدْ أُقِيمَتْ لِلْعَرْضِ فِي سُوقِ مَنْ يُرِيدُ، فَلَمْ يَرْضَ رَبُّهَا لَهَا بِثَمَنٍ دُونَ بَذْلِ النُّفُوسِ، فَتَأَخَّرَ الْبَطَّالُونَ، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن تكون نَفْسُهُ الثَّمَنَ، فَدَارَتِ السِّلْعَةُ بَيْنَهُمْ، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] (3) لما كثر المدعون للمحبة طولبوا

(1) سورة البقرة، الآية:190.

(2)

سورة الصف، الآية:10.

(3)

سورة المائدة، الآية:54.

ص: 120

بإقامة البينة، فلو يعطى الناس بدعواهم، لادعى الخلي حرقة الشَّجِيِّ، فَتَنَوَّعَ الْمُدَّعُونَ فِي الشُّهُودِ، فَقِيلَ: لَا نثبت هذه الدعوة إِلَّا بِبَيِّنَةٍ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31](1) فَتَأَخَّرَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، وَثَبَتَ أَتْبَاعُ الرسول في أفعاله وأقواله، وهديه وأخلاقه، وطولبوا بعدالة البينة، فقيل: لَا تُقْبَلُ الْعَدَالَةُ إِلَّا بِتَزْكِيَةٍ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54](2) فَتَأَخَّرَ أَكْثَرُ الْمُدَّعِينَ لِلْمَحَبَّةِ، وَقَامَ الْمُجَاهِدُونَ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّ نُفُوسَ الْمُحِبِّينَ وَأَمْوَالَهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ، فسلموا ما وقع عليه العقد، وَعَقْدُ التَّبَايُعِ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

فَلَمَّا رَأَى التُّجَّارُ عَظَمَةَ الْمُشْتَرِي، وَقَدْرَ الثَّمَنِ، وَجَلَالَةَ من جرى العقد عَلَى يَدْيِهِ، وَمِقْدَارَ الْكِتَابِ الَّذِي أُثْبِتَ فِيهِ، عرفوا أن لهذه السلعة شأنا ليس لغيرها، فرأوا من الغبن الْفَاحِشِ أَنْ يَبِيعُوهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ، تذهب لذتها، وتبقى تبعتها، فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضا واختيارا من غير ثبوت خيار، فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل: قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا، والآن قد رَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، وَأَضْعَافَ أَمْوَالِكُمْ مَعَهَا {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] (3) الآية لم نتبع مِنْكُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ طَلَبًا لِلرِّبْحِ عَلَيْكُمْ، بَلْ ليظهر أثر الجود والكرم في قبول البيع وَالْإِعْطَاءِ عَلَيْهِ أَجَلَّ الْأَثْمَانِ، ثُمَّ جَمَعْنَا لَكُمْ بين الثمن والمثمن.

وتأمل قصة جابر وجمله كيف وفاه الثمن، وزاده، ورد عليه البعير، فذكره بهذا الفعل حال الله مع أبيه، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، وَقَالَ:«يا عبدي تمن علي أعطيك» فَسُبْحَانَ مَنْ عَظُمَ جُودُهُ وَكَرَمُهُ أَنْ يُحِيطَ به علم الخلائق، لقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفقه لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعطى عَلَيْهِ أَجَلَّ الْأَثْمَانِ، وَاشْتَرَى عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَأَثْنَى عليه، ومدحه بهذا العقد، وهو الذي وفقه له وشاءه منه:

فحيهل إن كنت ذا همة فقد

حدى بك حادي الشوق فاطوي المراحلا

(1) سورة آل عمران، الآية:31.

(2)

سورة المائدة، الآية:54.

(3)

سورة آل عمران، الآية:169.

ص: 121

وقل لمنادي حبهم ورضاهم

اذا ما دعى لَبَّيْكَ أَلْفًا كَوَامِلَا

وَلَا تَنْظُرِ الْأَطْلَالَ مِنْ دُونِهِمْ فَإِنْ

نَظَرْتَ إِلَى الْأَطْلَالِ عُدْنَ حَوَائِلَا

وَخُذْ مِنْهُمْ زَادًا إِلَيْهِمْ وَسِرْ عَلَى

طَرِيقِ الهدى والحب تصبح واصلا

وَلَا تَنْتَظِرْ بِالسَّيْرِ رِفْقَةَ قَاعِدٍ

وَدَعْهُ فَإِنَّ الشوق يكفيك حاملا

واحيي بذكراهم سراك إذا ونت

رِكَابُكَ فَالذِّكْرَى تُعِيدُكَ عَامِلَا

وإِمَّا تَخَافَنَّ الْكلَالَ فَقُلْ لَهَا

أَمَامَكِ وَرْدُ الْوَصْلِ فَابْغِي الْمَنَاهِلَا

وَخُذْ قَبَسًا مَنْ نُورِهِمْ ثُمَّ سِرْ بِهِ

فنورهم يهديك ليس المشاعلا

وحي على واد الْأَرَاكِ فَقِلْ بِهِ

عَسَاكَ تَرَاهُمْ ثَمَّ إِنْ كنت قائلا

وإلا ففي نعمان عند معرف الأحـ

ـبة فَاطْلُبْهُمْ إِذَا كُنْتَ سَائِلَا

وَإِلَّا فَفِي جَمْعٍ بِلَيْلَتِهِ فَإِنْ

تَفُتْ فَمِنًى يَا وَيْحَ مَنْ كَانَ غَافِلَا

وَحَيِّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

مَنَازِلُكَ الْأُولَى بِهَا كُنْتَ نَازِلَا

وَلَكِنْ سَبَاكَ الْكَاشِحُونَ لِأَجْلِ ذَا

وَقَفْتَ عَلَى الْأَطْلَالِ تَبْكِي المنازلا

وحي على يوم المزيد بجنة الخـ

ـلود فَجُدْ بِالنَّفْسِ إِنْ كُنْتَ بَاذِلَا

فَدَعْهَا رُسُومًا دَارِسَاتٍ فَمَا بِهَا

مَقِيلٌ وَجَاوِزْهَا فَلَيْسَتْ مَنَازِلَا

وَخُذْ يَمْنَةً عَنْهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي

عَلَيْهِ سرى وفد المحبة آهِلَا

وَقُلْ سَاعِدِي يَا نَفْسُ بِالصَّبْرِ سَاعَةً

فَعِنْدَ اللِّقَا ذَا الْكَدُّ يُصْبِحُ زَائِلَا

فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي

وَيُصْبِحُ ذُو الْأَحْزَانِ فَرْحَانَ جَاذِلَا

لَقَدْ حَرَّكَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ السَّلَامِ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ، وَالْهِمَمَ الْعَالِيَةَ، وَأَسْمَعَ مُنَادِي الْإِيمَانِ مَن كَانَتْ لَهُ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ وَأَسْمَعَ اللَّهُ مَنْ كَانَ حَيًّا، فهزَّه السَّمَاعُ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ وَحَدَا بِهِ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ، فَمَا حَطَّتْ بِهِ رِحَالُهُ إِلَّا بِدَارِ الْقَرَارِ.

فَقَالَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أَرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» (1) وَقَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ،

(1) البخاري وأحمد ومسلم.

ص: 122

لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع»

وَقَالَ: «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خير من الدنيا وما فيها»

وقال: «الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» (1) وقال: «أنا زعيم، أي: كفيل - لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الْجَنَّةِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، يَمُوتُ حَيْثُ يشاء أَنْ يَمُوتَ» (2) .

وَقَالَ: «مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ - فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» (3) .

وَقَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومنه تفجر أنهار الجنة» (4) وَقَالَ: «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَارِمًا فِي غُرْمِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» (5) .

وَقَالَ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سبيل الله، حرّمها اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (6) وَقَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وإيمان في قلب رجل، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدُخَانُ جهنم في وجه عبد»

وَقَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجري عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفتان»

«وقال لرجل حرس المسلمين ليلة على ظهر فرسه من أولها إلى الصباح لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا لِصَلَاةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا» (7) وَذَكَرَ أبو داود عَنْهُ: «مَنْ لَمْ يَغْزُ، ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا، أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (8) وَفَسَّرَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التهلكة بترك الجهاد. وصح عنه:

(1) متفق عليه.

(2)

رواه النسائي وابن حبان.

(3)

أبو داود والترمزي وقال: حسن صحيح.

(4)

رواه البخاري.

(5)

أحمد والبيهقي.

(6)

ابن حبان في صحيحه.

(7)

النسائي وأبو داود.

(8)

رواه أبو داود وابن ماجه وفيه أبو عبد الرحمن فيه مقال.

ص: 123