الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي حَقِّ الْجِهَادِ، فَقَالَ ابْنُ عباس: هو استفراغ الطاقة فيه، وأن لا يخاف في الله لومة لائم. وقال ابن الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ وَالْهَوَى. وَلَمْ يُصِبْ من قال: إن الآيتين منسوختان؛ لظنه تضمنهما ما لَا يُطَاقُ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ وَحَقُّ جِهَادِهِ: هُوَ مَا يُطِيقُهُ كُلُّ عَبْدٍ فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يختلف باختلاف أحوال المكلفين. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ عَقَّبَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78](1) والحرج: الضيق. وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» ، فَهِيَ حَنِيفِيَّةٌ فِي التَّوْحِيدِ، سَمْحَةٌ فِي الْعَمَلِ، وقد وسع الله سبحانه عَلَى عِبَادِهِ غَايَةَ التَّوْسِعَةِ فِي دِينِهِ وَرِزْقِهِ وعفوه ومغفرته، فبسط عَلَيْهِمُ التَّوْبَةَ مَا دَامَتِ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ، وجعل لكل سيئة كفارة، وجعل لكل ما حرم عوضا من الحلال، وَجَعَلَ لِكُلِّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ ويسرا بعده، فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ، فَضْلًا عَمَّا لا يطيقونه.
[فصل في أنواع الجهاد]
فصل إذا عرف هذا، فالجهاد على أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس وهو أيضا أربع مراتب:
أحدها: أن يجاهدها على تعلم الهدى. الثانية: على العمل به بعد علمه. الثالثة: على الدعوة إليه، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله. الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، وَيَتَحَمَّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ على أن العالم لا يكون رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، ويدعو إليه. المرتبة الثانية: جهاد الشيطان، وهو مرتبتان: أحداهما: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات. الثانية: على دفع ما يلقي من الشهوات، فالأول يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ، وَالثَّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ، قال تعالى:{مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24](2) . والمرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد
(1) سورة الحج، الآية:78.
(2)
سورة السجدة، الآية:24.
الْكُفَّارِ أَخَصُّ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخَصُّ بِاللِّسَانِ. المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع، وهو ثلاث مَرَاتِبَ: الْأُولَى بِالْيَدِ إِذَا قَدَرَ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إِلَى اللِّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ. فهذه ثلاث عشرة مَرْتَبَةً مِنَ الْجِهَادِ، وَ «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شعبة من النفاق» . وَلَا يَتِمُّ الْجِهَادُ إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، وَلَا الْهِجْرَةُ والجهاد إلا بالإيمان، والراجون لرحمة اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ قَامُوا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 218](1) . وَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ: هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص، وهجرة إلى رسوله بالمتابعة، وفرض عليه جهاد نفسه وشيطانه فَهَذَا كُلُّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَأَمَّا جِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، فقد يكتفى فيه ببعض الأمة.
وأكمل الخلق عند الله عز وجل، من أكمل مراتب الجهاد كلها؛ ولهذا كان أكمل الخلق عند الله وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه محمد، فإنه كمل مراتبه، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع فيه من حين بعثه الله إلى أن توفاه، فإنه لما أنزل عليه:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 1 - 4](2) شَمَّرَ عَنْ سَاقِ الدَّعْوَةِ، وَقَامَ فِي ذَاتِ اللَّهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ ليلا ونهارا، سرا وجهارا، ولما أنزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] (3) صدع بأمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فدعا إلى الله الكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَلَمَّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَصَرَّحَ لقومه بالدعوة، وبادأهم بِسَبِّ آلِهَتِهِمْ، وَعَيْبِ دِينِهِمْ، اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ ولمن استجاب له، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ عز وجل فِي خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43](4) . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112](5) وقال تعالى:
(1) سورة البقرة، الآية:218.
(2)
سورة المدثر، الآية 1، 4.
(3)
سورة الحجر، الآية:94.
(4)
سورة فصلت، الآية:43.
(5)
سورة الأنعام: 112.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53](1) . فعزى الله سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تقدمه، وَعَزَّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142](2) وَقَوْلِهِ: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]-إلى قوله -: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10](3) . فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمِ الرُّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقولوا ذلك، بل يستمر على السيئات، فمن قال: آمنا، فتنه ربه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليبين الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ: آمَنَّا، فلا يحسب أنه يفوت الله ويسبقه، فمن آمن بالرسل، عاداه أعداؤهم، وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، ومن لم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة. فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلِّ نَفْسٍ، لكن المؤمن يحصل له الألم ابْتِدَاءً، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، والمعرض تَحْصُلُ لَهُ اللَّذَّةُ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْأَلَمِ الدَّائِمِ، وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: أَيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ، أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ: لا يمكن حتى يبتلى. والله عز وجل ابتلى أولي العزم من رسله، فَلَمَّا صَبَرُوا مَكَّنَهُمْ، فَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الْأَلَمِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ، فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا عظيما مستمرا بألم منقطع يسير، وأسفههم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم المستمر العظيم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ: الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقْدُ وَالنَّسِيئَةُ، والنَّفْسُ موكلة بالعاجل {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21] (4){إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27](5) . وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النَّاسِ، ولهم إرادات يطلبون منه موافقتهم عليها، فإن لم يفعل آذَوْهُ وَعَذَّبُوهُ، وَإِنْ وَافَقَهُمْ حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ، تَارَةً مِنْهُمْ، وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلَّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجَّارٍ ظلمة لا يتمكنون من
(1) سورة الذاريات، الآية: 52، 53.
(2)
سورة آل عمران، الآية:142.
(3)
سورة العنكبوت، الآية: 1-10.
(4)
سورة القيامة، الآية: 20، 21.
(5)
سورة الدهر، الآية:27.
فجورهم وظلمهم إلا بموافقة لهم، أو سكوته عنهم، فإن فعل سَلِمَ مِنْ شَرِّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابتداء لو أنكر عليهم، وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُهَانَ على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم: الأخذ بما قالته عائشة رضي الله عنها لمعاوية: مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ، رَأَى هَذَا كَثِيرًا، فيمن يعين الرؤساء وأهل البدع هربا من عقوبتهم، فمن وقاه الله شر نفسه، امتنع من الموافقة على المحرم، وصبر على عداوتهم، ثُمَّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كما كانت للرسل لمن ابتلي من العلماء وغيرهم. ولما كان الألم لا مخلص مِنْهُ الْبَتَّةَ، عَزَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنِ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرِّ بِقَوْلِهِ:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5](1) . فضرب لهذا الألم المنقطع أجلا وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم لذة بما تحمل من الألم لأجله، وأكد هذا العزاء برجاء اللقاء؛ ليحمل العبد اشتياقه إلى ربه على تحمل الألم العاجل، بل ربما غيبه الشوق عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ الشَّوْقَ إِلَى لقائه، وشوقه من أعظم النعم، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الأقوال، عليم بتلك الأعمال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53](2) فإذا فاقت العبد نعمة، فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53](3) . ثُمَّ عَزَّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ، وَهُوَ إنما جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وأنه غني عن العالمين، فمصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا له سُبْحَانَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه يجعل فتنة الناس - أي أذاهم له ونيلهم إياه بالألم الذي لا بد منه - كعذاب الله الذي فر منه
(1) سورة العنكبوت، الآية:5.
(2)
سورة الأنعام، الآية:53.
(3)
سورة الأنعام، الآية:53.