الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع في دارة
حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ طولها ثلاثة أيام، وعرضها [مثله]«1» ، وهي أضعف أخواتها حالا، وأقلّها خيلا ورجالا، وعسكرها لا يزيد على ألفي فارس ومثلهم رجّالة، وهم في بقية أحوالهم وأحوالها مثل أخواتها ومعاملتها بالأعواض مثل بالي، وهي تليها.
وأهلها حنفيّة المذهب.
*** (484) هذه جملة ما علمنا من أحوال هذه [لممالك]«2» المسلمة في بلاد الحبشة، والمملكة منهم في بيوت محفوظة إلا بالي اليوم، فإنّ الملك بها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرب إلى صاحب أمحرة حتى ولّاه مملكة بالي فاستقلّ ملكا بها ولا يبالي، وقد ولي بالي ومن أهل بيت الملك بها رجال أكفاء، والأرض لله يورثها من يشاء، وجميع ملوك هذه الممالك وإن توارثوها لا تستقلّ منهم بملك إلا من أقامه صاحب أمحرة.
وإذا مات الملك منهم ومن أهله رجال قصدوا جميعهم صاحب أمحرة، وبذلوا المقدرة في التقرب إليه فيختار منهم رجلا يولّيه، فإذا ولّاه سمع البقية وأطاعوا لأنّ الأمر له فيهم، وهم كالنواب له، ومع هذا فإنّ جميع ملوك هؤلاء الملك تعظّم مكان صاحب أوفات، وتنقاد له بالمعاضدة في بعض الأوقات، والطريق إلى هذه البلاد من مصر شعبة من الطريق العظمى
الآخذة إلى أمحرة وسائر بلاد الحبشة، وتجار هذه البلاد الحبشية «1» ناصع «2» وسواكن «3» ودهلك «4» ، وليس بها مملكة مشهورة، ولا لها أخبار مذكورة، وكلّها مسلمون قائمون.
وأرضها أصعب مسلكا لكثرة جبالها الشامخة، وعظم أشجارها واشتباكها بعضها ببعض حتى أنه إذا أراد ملكها الخروج إلى جهة من جهاتها يتقدمه قوم مرصدون لإصلاح طرقها بآلات لقطع أشجارها ويطلقون فيها نارا لحريقها، وأولئك القوم كثير عددهم، ولم يملك بلادهم غيرهم من النوع الإنساني لأنهم أجبر بني حام، وأخبر بالتوغل في القتال والاقتحام، طول زمانهم مسافرون، وفي صيد وحش البرّ راغبون، ومما يدلّ على قوة جنانهم أنهم لا يلبسون ولا يلبسون خيلهم عند القتال شيئا، والمشهور عنهم مع ما لهم من الشجاعة (أنهم) يقبلون الحسب، ويصفحون عن الجرائم، والمصطلح بينهم أنّ من رمى سلاحه في القتال يحرّمون قتاله، والمجرم يتحسّب [ببرّ القادر]«5» (485) عليه فيتجاوز عن ذنبه، وقيل فيهم خلّة حسنة أيضا أنهم يحبون الغريب ويكرمون الضيف، ويحقق ذلك إكرام النجاشي قريشا عند ما هاجروا إليه، ويقال إنه قلّ أن يوجد عندهم رياء، والصديق عندهم
لا ينقض عهدا لصديقه، وإذا تعاهدوا أكدوا المحبة وأظهروها، وإذا تباغضوا أعلنوا المباينة وأجهروها، غالبا يوجدون أذكياء أقوياء الحدس لهم علوم وصناعات بهم خصيصة، ومع كونهم جنسا واحدا ينطقون بألسنة شتى تزيد على خمسين لسانا وقلم قراءتهم واحد وهو الحبشي يكتب من اليمين إلى الشمال، عدّته ستة عشر حرفا لكلّ حرف سبعة فروع، الجملة من ذلك مئة واثنان وثمانون حرفا خارجا عن حروف أخر (ى) مستقلة بذاتها لا تفتقر إلى حرف من الحروف المعدودة المتقدم ذكرها، [مضبوطة]«1» بحركات نحوية متصلة به لا منفصلة عنه.
وهي بلاد تنقسم عندهم أقاليم، كما تنقسم الديار المصرية والبلاد الشامية أعمالا وصفقات وممالك الإسلام المتقدمة الذكر في ذلك، ونحن نذكر هاهنا جملة حال بلاد الحبشة مسلمها وكافرها.
قيل: إن أول بلادهم من الجهة الشرقية المائلة إلى بعض الجهة الشمالية بحر الهند واليمن، وفيها يمرّ البحر الحلو المسمى سيحون الذي يرفد منه نيل مصر المحروسة، والجهة الغربية إلى بلاد التكرور مما يلي جهة اليمين، وأولها مفازة تسمى وادي بركة، قيل:
يتوّصل منه إلى إقليم يسمى سحرت «2» ويسمّى قديما تكراي وكانت مدينة المملكة بهذا الإقليم في ذلك الزمان تسمى أخشرم «3» بلغة أخرى من لغاتهم، وتسمى أيضا: زفرتا «4» ، وكان النجاشيّ الأقدم بها ملكا على جميع البلاد، ثم إقليم أمحرة وهو الذي به الآن مدينة
المملكة وتسمى بلغتهم مرعدي، ثم إقليم شاوه، ثم إقليم داموت، ثم إقليم لا منان، ثم إقليم السّيهو، ثم إقليم الزّنج، ثم إقليم عدل الأمراء، ثم إقليم حماسا، ثم إقليم باريا، ثم إقليم الطراز الإسلامي الداخلة في جملة جميع البلاد الحبشية (486) وملوكه سبعة كما تقدم تفصيلها إقليما إقليما، وكلّ إقليم من هذه الأقاليم له ملك وجيوش كما تقدم أيضا ذكره، وقيل: إنهم كلّهم تحت [سلطان]«1» ملكهم الأكبر المسمّى بلغتهم الحطّي، ومعناه السلطان، وهذا الاسم موضوع لكلّ من يقام عليهم ملكا كبيرا، واسم الملك المقام عليهم الآن عمد سيون وتأويله: ركن صهيون، وهي بيعة قديمة البناء بالإسكندرية معظمة عندهم يتعبّدون لله فيها، وقيل: إنه من الشجاعة على أوفر قسم وإنه أحسن السلوك عادل في رعيته يتفقد مساكنها، وقيل إن تحت يده من الملوك تسعة و [تسعين]«2» ملكا، وهو لهم تمام المئة في الأقاليم المذكورة والأقاليم المجهولة أسماؤها، لأنها كثيرة العدد غير مشهورة ولا معلومة، وقيل: إنّ الحطّيّ المذكور وجيشه لهم خيام ينقلونها معهم في السّرحات والأسفار، وإذا جلس يجلس حول كرسيّه أمراء مملكته وكبراؤها على كراسيّ حديد منها ما هو مطعم بالذهب، ومنها ما هو ساذج «3» على قدر مراتبهم.
والملك المذكور قيل إنه مع ما له من نفاذ الأمر يتثبت في أحكامه حتى يتبين.
فأما لباس أهل البلاد المذكورة في الشتاء فهو لباسهم في الصيف، الخواص منهم والأجناد قماش حرير وأبراد هندية وما شاكل ذلك، والعوام ثياب قطن منسوج غير مخيط لكل نفس ثوبان. واحد لشدّ وسطه، وآخر يلتحف به، وكذلك الخواصّ منهم في الحرير والأبراد يشتدّون
ويلتحفون بمنسوج غير مخيط.
وسلاح المقاتلين منهم القسيّ والنبال الشبيهة بالنشّاب والسيوف والمزاريق والحراب، ومنهم من يقاتل بالسيوف وأتراس طوال وقصار، وغالب سلاحهم مزاريق تشبه الحراب الطوال، ومنهم من يرمي عن قوس طويل يشبه قوس القطن بالنبال، وهي سهام قصار، وقيل: إن نبال المقاتلين من أجناد الطراز الإسلامي أكبر، ولهم أبواق من خشب القنا المجوّف ومن قرون البقر المجوفة.
ومأكلهم (487) شحوم البقر والماعز وبعض شحوم الضأن، ومشروبهم اللبن البقريّ، وفي ضعفهم يتداوون باللبن المداف بالماء وسمن البقر، وعندهم نبات يسمى [جات]«1» يتناولونه لتجويد الفهم وتقوية الحفظ، وهو أشجار صغار وكبار ثمرته تشبه قلوب شجر النارنج وقد تقدم ذكره.
وغالب أهل البلاد المذكورة يتعاملون مقايضة بالأغنام والأبقار والحبوب وغير ذلك إلا في خمسة أقاليم من الطراز الإسلاميّ، وهي إقليم مدينة أوفات يتعاملون بالذهب والفضة، وإقليم [دوارو]«2» وإقليم أرابيني، وإقليم شرحة، وإقليم هدية يتعاملون بشيء عندهم يسمى الحكنه، وهي حديد مضروب كالإبر الطّوال كلّ ثلاثة آلاف بالعدد قيمتها درهم واحد.
وكلّ البلاد المذكورة والطراز الإسلاميّ يزرعون على الأمطار في السنة مرتين، ويتحصل لهم مغلات، والزمان الذي يحصّل فيه المغلّ الأول يأتي فيه مطر ثان يزرع عليه المغلّ الثاني، والمطر الواقع من زمن الشتاء يسمى بل، والمطر الواقع في زمن الصيف يسمى كرم بلغة الزيالعة.
وأخبرني البطريرك بنيامين فيما حكى لي في كتابه عنهم أنه عند نزول الأمطار الكثيرة تقع صواعق، وأصناف زراعاتهم الغيطية القمح، والشعير، والحمص، والعدس، و [البسلّى]«1» ، والذرة، وبعض الباقلاء، وحبوب أخر (ى) غير ذلك منها حبّ يسمى قبانهلول «2» ، يستعملونه قوتا كالقمح، أما القمح فحبّه كالحنطة المالونه «3» ولونه كالقمح الشاميّ يباع منه في الطراز الإسلاميّ بالدرهم تقدير حمل بغل، والشعير ليس له قيمة، وحبّه أكبر مقدارا من حبّه بالديار المصرية، ومنه ضرب يسمى طمحة «4» ، و [لون]«5» الحمص [عندهم]«5» إلى الحمرة ما هو «6» ، والباقلّا «7» عزيز الوجود في أكثر البلاد، ولا يفتقر إليه دوابّهم في العلف لأنّ الأرض كثيرة المياه والمراعي.
وعندهم (488) حبّ يسمى بلغتهم طافي وحبّه بمقدار الخردل ولونه إلى الحمرة، ومكسره إلى السواد يتخذون منه خبزا، وهو يميل إلى القمح، وعندهم ببعض الأقاليم حبّ يسمى البنّ وهو شبه القمح، ولكنه بقشرين فينزعون قشوره بالهرس كالأرزّ ويتخذون منه طعاما ينوب عن القمح، وليس عندهم من أصناف المقاثي إلا القرع وفي بعض الأقاليم بطيخ
صغير، وبزر الكتّان وحبّ الرشاد «1» واللّفت والفجل ومن البقول أيضا الثوم والبصل والكزبرة الخضراء.
وأشجارهم البستانية العنب الأسود، وهو قليل والتين الوزيريّ، وأصناف الحوامض خلا النارنج والموز، ورياحينهم الريحان، والقرنفل، ونبات أيضا يسمّى بعتران «2» ، وعندهم الياسمين البريّ، ولكنه غير مشموم لهم.
ومن أشجارهم الزيتون، والصنوبر، والجمّيز، وفي بعض بلادهم الآبنوس «3» ، وهو كثير الأشجار والمقل أيضا ببعض الأقاليم، وكذلك أشجار القنا وهي صنفان: أحدهما صامت والآخر أجوف، وبالطراز الإسلاميّ قصب السكّر كثير جدا، ويتخذون منه القند، وذكر أن الذي يوجد عندهم من المعادن معدن الذهب والحديد.
وذكر السيد الشريف عزّ الدين التاجر أنّ في بعض بلادهم يوجد معدن الفضة.
وعندهم من ذوات الأربع الخيل والبقر والغنم والبغال وما أشبه ذلك، وأغنامهم تشبه أغنام عيذاب «4» واليمن، ووحوشهم البرية الأسد والنمر والفهد والفيل والغزال على اختلاف الألوان في ذلك، وبقر الوحش وحمر الوحش والزرافة والقردة ووحوش أخر (ى) كثيرة.
وعندهم من الطيور: الجوية والأهلية والمائية.
أما الجوية فهي: الصقور والنسور البيض والسود وأمثالها، والغربان والحجل وسائر طير الواجب والسّمّان والحمام والعصافير والبزاة وغير ذلك مما لم يوجد بالديار (489) المصرية.
وأما الأهلية والبرية فدجاج الحبش وأمثاله.
والمائية: فالبطّ، ودجاج أيضا يخرج من بركة ماء في إقليم هدية الإسلامي.
قال الشيخ جمال الدين عبد الله الزّيلعيّ:
إن العين المذكورة يتولد منها دجاج يأكلونه، ويأكلون من لحوم الطير الحمام والعصفور وغراب الزرع والدجاج البريّ والحجل، والسمك عندهم منه ما يشبه البوريّ، و [منه]«1» ما يشبه الثعبان يطول إلى مقدار ذراعين ونصف، ويغلظ إلى مقدار الخشب، ويطلع من بحرهم التمساح وفرس البحر.
أما عسل النحل فكثير في جميع البلاد يتربى في الجبال، ويأخذون منه العسل والشمع من غير حجر عليه، ومنه ما له خلايا خشب منقورة، وعسلهم مختلف الألوان بحسب المرعى.
ومساكنهم غالبها أخصاص من جملونات خلا المدن الكبار، فإنها مبنية من الحجر.
وأواني طعامهم فخّار مدهون أسود، وحمّامهم الاغتسال بالماء البارد، وبعضهم يتخذونه حارا.
ووقودهم الشمع، ومصابيحهم وقودها بشحوم البقر؛ لأن الزيت الطيب يجلب إليهم، ويدهن للرجال والنساء منهم بالسمن.
ومصاغهم الذهب والفضة والنحاس والرّصاص على قدر تمثال السّعر.
هذا ما نقلته الثقات عنهم، ومع ما هم عليه من سعة البلاد وكثرة الخلق والأجناد يفتقرون إلى العناية والملاحظة من صاحب مصر، لأن المطران الذي هو حاكم حكام شريعتهم في جميع بلادهم النصرانية لا يقام إلا من الأقباط اليعاقبة بالديار المصرية، حيث تخرج الأوامر السلطانية من مصر لبطرك النصارى اليعاقبة بإرسال مطران إليهم، وذلك بعد سؤال ملك الحبشة المسمى بالحطّي بلغتهم، وإرسال رسله وهداياه، وهم يدّعون أنهم يحفظون مجاري النيل المنحدر إلى مصر، ويساعدون (490) على إصلاح سلوكه تقريبا لصاحب مصر، وإنما المشهود منهم والمعروف منهم الصدق والأمانة فهو مشهور، ولذلك يختار صاحب إقامتهم (منهم) أمناء على الحريم والأولاد والأرواح والأموال، وكذلك بعض التجار الكرّامية «1» و [ذوو]«2» الأموال يجعلونهم على حفظ أموالهم وتجاراتهم وبضائعهم الثمينة ومكاسبهم الجليلة إلى قريب [البلاد]«3» وبعيدها، وطويل المسافات وقصيرها.
وهذا ما وصلني من أخبارهم، والله أعلم بالحقّ، وعندهم وعنده العلم الصّدق.