الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع عشر في مملكة الأندلس
(في
مملكة الأندلس) المملكة الإسلامية بالأندلس حماها الله تعالى طول مسافتها عشرة أيام، وعرضها ثلاثة أيام، وسلطانها الآن أعني عام ثمانية وثلاثين وسبع مئة هو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر «1» ، مستقرّه غرناطة «2» ، وهي الآن دار هذه المملكة، وأضخم بلادها.
مدينة كبيرة مستديرة رائعة المنظر، كثيرة الأشجار والأمطار والأنهار والبساتين والفواكه، قليلة مهبّ الرياح، لا تجري بها الريح إلا نادرا لاكتناف الجبال إيّاها.
وأصل أنهارها نهران عظيمان شنّيل وحدرّه، أما شنّيل فينحدر من جبل شلير بجنوبها، وهو طود شامخ لا ينفكّ عنه الثلج شتاء ولا صيفا، فهو لذلك شديد البرد، وغرناطة كذلك في الشتاء بسببه، إذ ليس بينها وبينه سوى عشرة أميال.
وفي برد غرناطة يقول [ابن صارة]«3» : (الطويل)
«4» أحلّ لنا ترك الصلاة بأرضكم
…
وشرب الحميّا وهو شيء محرّم
فرارا إلى نار الجحيم [لأنّها]«1»
…
أرقّ علينا من شلير «2» وأرحم
لئن كان ربي مدخلي في جهنّم
…
ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم
وفيه عيون ماء كثيرة، وأشجار مختلف ألوانها، وخصوصا التفاح والقراسيا البعلبكية التي لا تكاد توجد في الدنيا منظرا وحلاوة حتى إنها ليعصر منها العسل، وبها الجوز «3» ، والقسطل، والتين، والأعناب، والخوخ، والبلّوط وغير ذلك.
وبذلك الجبل عقاقير كعقاقير الهند، وعشب يستعمل في الأدوية يعرفها الشجّارون (565) لا توجد لا في الهند ولا في غيره.
ويمرّ شنّيل على غربي غرناطة إلى فحصها يشقّ منها أربعين ميلا بين بساتين وقرى وضيع كثيرة البيوت والعلالي «4» وأبراج الحمام وغير ذلك من المباني، وينتهي فحصها إلى لوشة حيث أصحاب الكهف على قول «5» .
وأما حدرّه فينحدر من جبل بناحية مدينة وادي آش شرقي شلير فيمرّ بين بساتين ومزارع وكرمات إلى أن ينتهي إلى غرناطة، فيدخلها على باب الدفّاف بشرقيّها يشقّ المدينة نصفين
تطحن به الأرحاء بداخلها وعليه بداخلها قناطر خمس: قنطرة ابن رشبق، وقنطرة القاضي، وقنطرة حمّام جاش، والقنطرة الجديدة، وقنطرة العود «1» ، وعلى القناطر أسواق «2» و [مبان]«3» محكمة، والماء يجري من النهر في جميع البلد في أسواقه وقاعاته ومساجده، يبرز في أماكن على وجه الأرض ويخفي جداوله تحتها في الأكثر، وحيث طلب الماء وجد.
وقلعتها «4» حيث (مقرّ) سلطانها تعرف بالحمراء، وهي بديعة متسعة كثيرة المباني الضخمة والقصور، ظريفة جدا يجري بها الماء تحت بلط كما يجري في المدينة ولا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها وجامع المدينة «5» من أبدع الجوامع وأحسنها بناء، وتعلّق بجامع الحمراء ثريّات الفضة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصوفة (و) في جملة ما نمّق به الذهب والفضة، ومنبره عاج وآبنوس.
وبالمدينة جبلان يشقّان [وسطها]«6» ، وفحصها دور حسان وعلالي مشرفة على الفحص فترى منظرا بديعا من مزدرعاته، وفروع الأنهار تسقيها وغير ذلك مما يقصر عنه التخيل والتشبيه، يعرف أحد الجبلين بالخزّة وموزور، ويعرف الثاني بالقصبة القديمة وبالسّند.
وهنالك برج الديك عليه ديك نحاس رأسه رأس فرس، وعليه صورة راكب بحربة ودرقة من حيث هبت الريح دار وجه الراكب وباقي المدينة وطئ ولها ثلاثة عشر بابا: باب البيرة، وهو أضخمها، وباب الكحل «1» وهو باب الفخّارين، وباب الخندق، وباب الرّخاء، وباب المرضى، وباب المصرع (566) ، وباب الرملة، وباب الدباغين، وباب الطوابين، وباب الفخارين «2» ، وباب الدفّات، وباب البنود، وباب [الأسدر]«3» .
وحول غرناطة أربعة أرباض: ربض الفخارين وربض الأجل، وهو كثير القصور والبساتين و [كلا]«4» الربضين يلي شنّيل وربض الرملة، وربض البيازين الذي بناحية باب الدفّاف، وهو كثير العمارة يخرج منه نحو من خمسة عشر ألف مقاتل كلّهم شجعان مقاتلون معتادون بالحروب، وهو ربض مستقل بحكامه وقضاته وغير ذلك.
وجامع غرناطة محكم البناء، بديع جدا، لا يلاصقه بناء، تحفّ به دكاكين للشهود والعطارين، وقد قام سقفه على أعمدة ظراف، وبداخله الماء، وبه أسانيد منتصبون لإقراء العلوم وهو معمور بالخير كلّ حين.
ومساجد المدينة و [رباطاتها]«5» لا تكاد تحصى لكثرتها ويقعد السلطان للناس بدار العدل بالسبيكة من الحمراء يوم الاثنين ويوم الخميس صباحا فيقرأ بمجلسه عشر من القرآن وشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ الوزير القصص من الناس، ويحضر معه المجلس الرؤساء من أقاربه ونحوهم.
وأهل الأندلس لا يتعمّمون بل يتعهدون شعورهم بالتنظيف والحنّاء ما لم يغلب الشيب، ويتطيلسون فيلقون الطّيلسان على الكتف والكتفين مطويا طيّا ظريفا، ويلبسون الثياب الرفيعة الملونة من الصوف والكتّان ونحو ذلك، واكثر لباسهم في الشتاء الجوخ، وفي الصيف البياض، والمتعمم منهم قليل.
وأرزاق الجند بها ذهب بحسب مراتبهم، وأكثرهم من برّ العدوة من بني مرين وبني عبد الواد وغيرهم، والسّلطان يسكنهم القصور الرفيعة وبينهم وبين الإفرنج حروب ووقائع جمة في كلّ سنة إلّا أن يكون بينهم صلح إلى أمد، وحروبهم سجال تارة [لهم وتارة]«1» عليهم، والنصر في الأغلب للمسلمين على قلّتهم وكثرة عدوّهم بقوة الله تعالى.
وقد كانت لهم وقيعة في الإفرنج سنة تسع عشرة وسبع مئة على مرج (567) غرناطة قتل فيها من الإفرنج أكثر من ستين ألفا وملكان بطره وجوان عمّه، وبطره الآن معلق جسده في تابوت على باب الحمراء، وافتديت جبفة [جوان]«2» بأموال عظيمة، وحاز المسلمون غنيمة من أموالهم قلّما يذكر مثلها في تاريخ «3» وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
«4» .
وبالبلاد البحرية أسطول حراريق «5» للغزو في البحر الشاميّ يركبها الأنجاد من الرّماة والمغاورين والرؤساء المهرة فيقاتلون العدوّ على ظهر البحر، وهم الظافرون في الغالب،
ويغيرون على بلاد النصارى بالساحل أو بقرب [الساحل]«1» فيستأصلون أهلها ذكورهم وإناثهم ويأتون بهم بلاد المسلمين فيبرزون بهم ويحملونهم إلى غرناطة إلى السلطان فيأخذ منهم ما يشاء ويهدي ما يشاء ويبيع.
والبلاد البحرية أولها من جهة المشرق المريّة «2» ، وهي ذات مرسى على البحر الشاميّ، وهو أول مراسي البلاد الإسلامية بالأندلس، وكانت العمارة قبل [البجّانة]«3» فانتقلت إلى الساحل لمنافع الناس.
و [بجّانة]«4» على وادي المريّة، وهي الآن قرية عظيمة جدا ذات زيتون وأعناب وفواكه مختلفة وبساتين ضخمة كثيرة الثمرات.
ووادي المريّة يقال فيه إنّه أبدع الأودية على أنّ الماء فيه يقلّ في فصل الصيف، فيكون بالقسط للبساتين، ويبلغ متصلا بمرشانة «5» وقراها أربعين ميلا، والمريّة ثلاث مدن «6» :
الأولى من جهة الغرب تعرف بالحوض الداخليّ لها سور محفوظ من العدوّ بالسّمّار
والحراس ولا عمارة بها، ويليها إلى الشرق المدينة القديمة، ويليها المدينة الثالثة المعروفة بمصلى المريّة، وهي أكبر الثلاث [ولها قلعة]«1» تحوز القديمة من جهة الشمال، وتسمى القصبة في ألسنتهم وهما قصبتان في غاية الحسن والمنعة.
وساحل المريّة أحسن السواحل، وحولها حصون وقرى كثيرة، وجبال شامخة وجامعها الكبير «2» بالمدينة القديمة، وهو بديع.
والمريّة كثيرة الفواكه، وأما الحنطة فبحسب السنين الممطرة لأنّ أكثر زرعها بالمطر، وترتفق بما يجلب إليها من الحنطة (568) من برّ العدوة.
وبها دار الصّناعة لإنشاء الحراريق لقتال العدوّ، ويليها الآن ولاة من صاحب غرناطة، وقد كانت فيما مضى مملكة مستقلة وبينها وبين غرناطة مسير «3» ثلاثة أيام.
ويلي المريّة من البلاد البحرية من جهة المغربين «4» شلوبين «5» ، وهي معدّة لإرسال من يغضب عليه السلطان من أقاربه ويرسل، ويزرع بها [قصب]«6» السكّر، وتقاربها المنكّب «7» ، وهي مدينة دون المريّة، وبها أيضا دار صناعة لإنشاء السفن، وبها قصب
السكر، والموز، ولا يوجد شيء في بلد من البلاد الإسلامية هناك إلّا فيها إلا ما لا يعتبر، ويحمل منها السكّر إلى البلاد، وبها زبيب مشهور الاسم.
ويلي المنكّب بلّش «1» وهي كثيرة التين والعنب والفواكه، قال أبو عبد الله بن السّديد:
إنه ليس في الأندلس أكثر عنبا وتينا يابسا منها.
وأما مالقة «2» فمدينة بديعة كثيرة الفواكه، لها ربضان عامران أحدهما من علوّها، والآخر من سفلها، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وجامعها بديع وبصحنه نارنج ونخلة، وتختصّ بعمل صنائع الجلد كالأغشية والحزم والمدورات وبصنائع الحديد كالسكين والمقصّ، [وبها الفخار]«3» المذهّب الذي لا يوجد مثله في بلد، والتين الغزير الذي يجلب منها إلى جميع البلاد الغربية بالأندلس وغيرها فيعمّ البلاد شتاء وصيفا فلا يكاد يخلو منه دكان بياع، واللّوز مثله في الكثرة والحسن والطيب، وكذلك الزّبيب، وهي خصيبة جدا وفي تينها يقول الشاعر «4» :(السريع)
مالقة حيّيت ياتينها
…
فالفلك من أجلك ياتينها
نهى طبيبي عنك في علّتي
…
ما لطبيبي عن حياتي نهى
قال ابن السديد: إن بها سوقا ممتدا لأطباق تعمل من الخوص إلى غير ذلك مما يعمل منه. ويلي مالقة مدينة مربلّة «1» ، وهي صغيرة كثيرة الفواكه والسمك.
وتليها أشبونة «2» ، وهي مثلها ساحلية كثيرة الفواكه.
ويلي أشبونة (569) جبل الفتح «3» وهو طود شامخ يخرج في بحر الزّقاق ستة أميال، وبحر الزّقاق أضيق مكان في البحر الغربيّ سعته ستة فراسخ «4» وجرية الماء به قوية، ولا يكاد يركد، ويسمى بحر القنطرة، والقنطرة جسر أخضر من شلش إلى ألش يراه المسافرون إذا سكن البحر «5» وشلش وألش «6» ما بين طريف «7» والجزيرة «8» ، وقد كان هذا الجبل تملكه الإفرنج منذ
سنين، ثم أعلاه الله إلى الإسلام منذ قريب «1» وعمّره السلطان أبو الحسن المرينيّ، واتخذه عتادا لجنده إذا دخلوا الجزيرة لحرب الكفار، وقد كان أسكنه طائفة من عسكره، وأخذ الجزيرة الخضراء من السلطان يوسف بن الأحمر ملك الأندلس ليكون مستقرا لجيشه، وأعاضه عنها زروعا تؤدّى إليه، ومالا يؤدّى عنه، هكذا حدثني الثقات من بني مرين، والقاضي الفقيه إبراهيم بن أبي سالم، ثم أخذت الفرنج الجزيرة الخضراء حين قتل أبو مالك بن السلطان المرينيّ وانهزم جيشه «2» بعد النصرة العظمى «3» ، وحينئذ زادت الهمم المرينيّة في تشييد هذا الجبل وتحصينه وتعمير ما عمّر منه، والله يحمي هذا الملك لإكمال ما شرع فيه من غزو الفرنج واستعادة
…
«4» الإسلام منهم، وينصره النصر المؤزّر، ويفتح عليه الفتح المبين، وهذا الجبل جبل منيع جدا يتمكن من حازه من الجزيرة وسبتة وما بينهما.
ويلي الجبل الجزيرة الخضراء «5» المشار إليها، وهي مدينة محكمة كثيرة الزرع والماشية، وبها نهر يعرف بوادي العسل عليه بساتين وأرحاء وغير ذلك، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وهي آخر البلاد البحريّة الإسلامية بالأندلس، وليس بعدها [لهم بلاد]«6» ، وهي
بيد النصارى أعادها الله وقصمهم.
ومن البلاد الكبار غير البحرية رندة «1» ، وهي والجزيرة الخضراء والجبل ومربلّه وما والاهم تحت يد صاحب برّ العدوة السلطان أبي الحسن أحسن الله إليه مراعاته، وبين رندة والجزيرة الخضراء مسيرة ثلاثة أيام وهي جبلية كثيرة الفواكه والمياه والحرث (570) والماشية، وأهلها موصوفون بالجمال ورقّة البشرة واللّطافة.
ويليها بلدة أنتقيرة «2» ثم أرحصونة «3» ثم لوشة «4» وبين المريّة وغرناطة مدينة وادي آش «5» ، وهي بلدة حسنة بديعة منيعة جدا كثيرة المياه والفواكه والمزارع قريبة من شنّيل، فلذلك هي شديدة البرد بسبب الثلوج، وهي بلدة مملكة وأهلها موصوفون بالشّعر، ويحكم بها الرؤساء وهم من قرابة السلطان أو من يستقلّ بها [سلطانا]«6» أو من خلع من سلطان بنفسه، والمياه تشقّ أمام أبوابها كغرناطة.
ويليها مشرقا بسطة «7» ، وهي كثيرة الزرع، واختصّت بالزعفران، وبها [منه ما
يكفي] «1» أهل الملة الإسلامية بالأندلس على كثرة ما يستعملونه.
وبهذه المملكة من البلاد برجة «2» وبيرة «3» وأندرش «4» ، وهي مدينة ظريفة كثيرة الخصب وتختصّ بالفخار لجودة تربتها، فلا يوجد في الدنيا مثل فخّارها للطبخ.
وحصونها كثيرة جدا فليس بها من بلد إلا وحوله حصون كثيرة محفوظة بولاة من السلطان ورجال تحت أيديهم وببعضها فرسان مرتّبون، وجند السلطان معظمهم بغرناطة ثم بمالقة وبيرة، وبالثغور البريّة.
وأما الثغور البحرية كالمريّة فليس لها حاجة بالخيل إلا قليلا، وحاجتها إلى الحراريق آكد لأنّ بلاد البرّ تغزو وتغزى من البرّ، وبلاد البحر بالعكس، وأخبار الأندلس كثيرة مما سبق عليه الكتاب، وسلف حديثه في سلف هذه الأبواب مما فيه كفاية، وإليه انتهت الغاية.
آخر الجزء الثاني من كتاب" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم.
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.