الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحة في الوعي الإسلامي بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 3/ 144].
هذا التحذير ليس موجهاً هنا لتفادي خطأٍ أو انحرافٍ مستحيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه من أجل الإشارة إلى خطر تجسيد الأفكار بحدِّ ذاته.
2 -
على الصعيد السياسي:
بالإمكان أن تحصي في بلدٍ إسلامي واحدٍ عدداً لا بأس به من الكوراث التي كان ممكناً تجنب وقوعها لو لم تُستلب أفكار - دافعة بفعل تجسيدها.
وواحدة من أكثر الأفكار - الدافعة عظمةً والتي ارتعد لها الاستعمار في الجزائر هي فكرة (المؤتمر الإسلامي الجزائري) الذي أقيم سنة (1936).
لقد أريد أن تتجسد هذه الفكرة في أحد المثقفين السياسيين؛ فماتت الفكرة بعد مرور شهرٍ واحد؛ لأن ذلك المثقف لم يكن أهلاً بالحد الذي يجعل منه سنداً لها. والجزائر ليست البلد المسلم الوحيد الذي دفع غالياً ثمن تجسيد الأفكار.
إن عبادة (الرجل السماوي) كعبادة (الشيء الوحيد) منتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي المعاصر، وتكون أحياناً سبب ما نشهده من حالات إفلاس سياسيٍّ مذهلة.
وإذا نظرنا إلى الأمور من زاوية الصراع الفكري فإننا نشعر من هذا الجانب أن الاستعمار يستطيع استغلال هذا الاتجاه المرضي لتجسيد أفكار نا خصوصاً في الإطار السياسي.
ويمنعنا هذا الاتجاه أحياناً من استخراج العبر من الفشل، وذلك بتجسيد
أسباب الفشل فوراً في شخصٍ يكون (رجل نحس)؛ بدلاً من التفكير ملياً وجدياً بالدروس التي نستخرجها منها.
فمثلاً عندما وقع الانفصال بين سورية ومصر عام (1961)؛ والذي سجل فشلاً أليماً لفكرة الوحدة العربية استمعت إلى راديو دمشق وراديو القاهرة لمعرفة التفسير الذي سيعطى لذلك الحادث المؤسف، وعلى الأخص استمعت إلى راديو القاهرة الذي كان يعزو الحديث إلى رجل نحسٍ، إلى مدبّر الانقلاب، الضابط السوري (الكزبري)، وذلك بدلاً من البحث عن الأسباب الحقيقية للانفصال في عالنا الثقافي؛ بطريقة أعمق وأكثر فائدةً للأمة العربية.
وفي حين كان واضحاً أن الانقلاب سيقع بالكزبري أو بدونه؛ لأنه لم يكن يتوفر في عالمنا الثقافي فكرة مضادةٌ له، بل على العكس من ذلك، كانت هنالك العوامل المشجعة جميعها.
(فالرجل السماوي)، أو (الرجل النحس): هما اللذان يُستَغَلَاّن بصفةٍ دائمةٍ، ويُزجَّان حتى دون علمهما من أجل إجهاض بعض الأفكار.
إن تناقض الفكرة والوثن قد ضمن بصفةٍ عامةٍ للاستعمار نجاحه الباهر في الإجهاض السياسي في بلادنا؛ مستخدماً غالباً مثقفينا أنفسهم.
إن أقلّ الناس اقتناعاً بالقيمة الاجتماعية للأفكار: هو في الغالب المثقف المسلم، وهذا يفسر لماذا فضَّل عددٌ لا بأس به من المثقفين في الجزائر منذ ثلاثين عاماً الدوران في فلك بعض الأوثان، بدلاً من أن يكرسوا أنفسهم لخدمة بعض الأفكار.
ولابد، في النهاية أن نذكر في هذا الفصل نوعاً آخر من الطغيان: طغيان الأفكار؛ (إنه مرض نخبة المجتمع).
ففي مجتمع متحضر تبدو اللحظة التي فيها يبدأ المثقف تكيفه مع الحياة الاجتماعية؛ أي عندما يفقد إيمانه بدوافعها؛ عندئذ ينطلق في البحث عن دوافع جديدة في كهوف أقبية (سان جرمان) في سهوب (نيبال) الممتدة على سفح همالايا، أو إنه يُكرس طاقته الحيوية لإقامة المتاريس؛ كما حدث في باريس عام 1968 دون أن يعلم بوضوح هدف انطلاقه هذا.
أما في البلاد المتخلفة؛ فإنه ليس العجز عن التكيف وعدم الارتباط بعالم الأفكار المخذولة الذي يأخذ أشكال الطغيان، بل إنه عدم التكيّف نفسه.
إنها الأفكار المكتسبة عبر الكتب التي تولّد الطغيان في مواقف تكون أحياناً (كاريكاتورية)، ففي إحدى المحاضرات عن تركيب الأدوية أجهد الأستاذ نفسه في وصف إحدى النباتات.
وبدلاً من أن يمد يده ويقطفها من فناء الكلية ليقدمها إلى طلابه، كان يبحث عن شكلها في الكتاب أثناء محاضرته؛ بينما هي تحت نافذة قاعة التدريس.