الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
الطاقة الحيوية والأفكار
• اطراد اندماج الفرد في المجتمع
• الطاقة الحيوية وتطور المجتمع
• المعادلة الصعبة
1 -
تحرير الطاقة يدمر المجتمع
2 -
تحييد الطاقة يعيق سيرورة المجتمع
3 -
التوسط في الطاقة يساعد على عمارة المجتمع
ــ
يتوجب على الفرد تلبية حاجاته الحيوية مهما كان نوع الحياة التي يحياها، سواء أكان منعزلاً مثل (حي بن يقظان) أو ساكناً في مدينة كبيرة.
لذا يتعين عليه أن ينفق من طاقته الحيوية التي خُصَّت بها طبيعته، غير أن الطاقة هذه- وهي في طبيعتها البهيميَّة- لا تندمج مع الحياة في المجتمع؛ بحيث إن اندماج الفرد الاجتماعي يجب أن يراعي احتياجاته من ناحية، واحتياجات المجتمع الذي يندمج فيه من ناحية أخرى.
والمجتمع في الواقع يفرض قواعد وضوابط وقوانين وتقاليد، وحتى بعض الأذواق والأحكام المسبقة هي بالنسبة إليه ليست بأقل حيوية.
وإذن فإن اطراد اندماج الفرد يتدرج مستجيباً لطبيعته من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى مستجيباً لنسق من أصول وقواعد في الحياة يمكن تعريفه وهو في مرحلة متقدمة بمثابة عقد اجتماعي.
من هنا يأخذ الاطراد معنى يحدد تكيفاً للطاقة الحيوية للفرد. ومدرسة (بافلوف (1) pavlov) أعطت الإيضاحات الأولى حول التكيف عامة.
وواحد من أتباع هذه المدرسة، سيرج تاكوتين، قدم لنا في كتابٍ هام بعنوان (اغتصاب الجماهير) تحليلاً وتصنيفاً للطاقة الحيوية في صورة مايسميه (الدوافع الغريزية).
فهل الدوافع الغريزية الأربعة التي أشار إليها تكفي لتصنيف هذه الطاقة بمجملها أم لا؟ سنترك هذا النقاش جانباً.
لكن الذي يهمنا التحقق منه هو الحدود التي تعمل أو ينبغي أن تعمل في إطارها الطاقة الحيوية؛ كي يتمكن النشاط المنظم لمجتمع ما، في جميع أشكاله من تمثلها واستيعابها.
ومن الجليِّ أننا لو ألغينا، على سبيل الافتراض، واحداً من أشكال الطاقة الحيوية كالذي يسميه (سرج ناكوتين) مثلاً بالدافع الغذائي، أو دافع التملك، أو الدافع التناسلي- فإن جميع الإمكانات البيولوجية لحياة اجتماعية ما سوف تلغى دفعة واحدة، وإذا افترضنا أن فعلنا العكس فحرّرنا الطاقة الحيوية من كل قيد فإن النظام الاجتماعي سيجد نفسه وقد أخلى موقعه لنظامٍ طبيعي خالص.
(1)(بافلوف pavlov) عالم فيزيولوجي وطبيب روسي (1849 - 1936) م. حاصل على جائزة نوبل مكافأة على أعماله في هذا الحقل (1904) م.
توصل من خلال أبحاثه حول الجهاز الهضمي وبوجه خاص حول الارتكاس الرضابي إلى: تحديد مفهوم الارتكاس الشرطي أو المكتسب؛ الذي يُبْعَث في غياب المسبِّب الطبيعي بواسطة مسَبِّب ( excitant) قد ارتبط به مسبقاً. وأعلن (بافلوف) أنَّ الحياة النفسية الإنسانية محكومةٌ بذات القوانين التي تسود الحياة النفسية لدى الحيوان؛ بفارق تراكم جهاز إشارات ومفاهيم ألسنية مع الجهاز الأساسي الوحيد لدى الحيوان، بهذا كان (بافلوف) ينادي بوحدة الحَيِّز الفيزيولوجي والنفساني.
والفرد سيعيش تبعاً لذلك في ظل قانون الانتخاب البيولوجي (شريعة الغاب) التي تقصر الحياة على الأكثر قوة لا على الأفضل.
إذن عندما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع. وعندما نحررها تحريراً كاملاً فإنها تهدم المجتمع. لذلك يجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين.
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل: ما هي السلطة التي تخضع الطاقة الحيوية لتحتويها هذه الحدود.
هذا السؤال حينما يطرح في منشأ اطراد اندماج مجموعةٍ إنسانيةٍ خرجت من مرحلة ما قبل التحضر، وتتأهب للانطلاق نحو مرحلة تاليةٍ فإنه يكشف لنا طبيعة التكيُّف الذي يجب على الطاقة الحيوية تحمُّله لتضطلع بمهمات هذا الاجتياز، وتستجيب لضروراته.
وبمعنًى آخر، فإن السلطة التي تضمن هذا التكيُّف مرتبطة ارتباطاً جوهرياً بالعوامل التي لها دور في وجود حضارة، وبوجه خاص مرتبطة بذلك الذي يلعب دورًا رئيسيّاً في تحول مجتمع إنساني بدائي (قبل التحضر) إلى مجتمع متحضر، والمجتمع الجاهلي في هذه الحالة يقدم لنا صورة مثلى لهذا التطور.
في المبدأ نرى أنفسنا أمام طرازٍ من المجتمعات، الطاقة الحيوية فيه غير متكيفة بشيءٍ ما تقريباً، فالعالم الثقافي الجاهلي كان في الحقيقة شبه خالٍ من مبادئ الإلزام الاجتماعي. فمبادئه اقتصرت على بعض قواعد الشرف وشيءٍ من الواجبات نحو المجموعة (التضامن القبلي الذي أثبت ابن خلدون أهميته السياسية في نشوء ممالك شمالي إفريقية، تحت اسم العصبية) وبعض المعتقدات التي جعلت منها مكة القرشية تجارة.
لم تكن الطاقة الحيوية قد تكيفت بشيءٍ بعد، فقد كانت في طبيعتها الأولية التي لا تأتلف مع شروط الحياة الخاصة بحضارة.
وحينما حدث لهذا المجتمع تحول من المجتمع البدائي إلى المجتمع الحضاري لم يكن باستطاعة المؤرخ وعالم الاجتماع أن يلاحظ في هذه الحقبة من الزمن ظهور أي حادث جديد يفسر هنا التغيير. فالعالم الثقافي الذي ظهر مع الفكرة القرآنية قد كان الحدث الوحيد. والعلاقة السببية بين الحدثين: القرآن والحضارة باديةٌ بشكل صارم عبر تلازمهما؛ فالفكرة الإسلامية هي التي طوّعت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي لضرورات مجتمع متحضر.
ويستحيل علينا أن نجد تفسيراً آخر يكشف لنا هذا التكيف الذي نظّم القوى البيولوجية للحياة كيما يضعها في خدمة التاريخ.
والواقع أنه في أصل جميع الحضارات فالاطراد واحد في تكامل وانسجام الطاقة الحيوية، وفي الظروف التي تؤهلها لوظيفتها التاريخية.
لكنَّ القدرة علي التكامل والانسجام ليست بالضرورة متشابهة بالنسبة لدورات مختلفة وبالأحرى بالنسبة لمُختَلِف المراحل في الدورة الواحدة.
ومن جهة أخرى فإن ظروف هذا الانسجام لا تراعى بالطريقة نفسها في جميع الحضارات.
فمثلاً نرى المجتمع المسيحي يسعى إلى إلغاء الدافع الجنسي بدلاً من أن يحتويه في الحدود العملية. إنه يواجه نزعة الشهوة ( libido)(1) بفكرة الرهبانية.
(1)(نزعة الشهوة libido) وهي لفظة لاتينية وتعني الرغبة يعرفها (فرويد) بأنها: ((عبارة مستقاة من نظرية المشاعر، نُسَمِّي بها الطاقة التي تشكّل قياساً كَمِّيّاً؛ وإن لم تكن حالياً ممكنة القياس، للدوافع التي تتصل بكل ما نعرفه تحت اسم الحب)) كما أنها: ((التجلي الديناميكي للغريزة الجنسية في الحياة النفسية)).
هذا المثل الأعلى الذي يتسم بلا شك بالسمو والرفعة، رغم أنه لا يأتلف مع مختلِف الغايات التاريخية يولِّد نماذج جميلة من الجنس البشري (القديسين) ويترك ما عداهم فريسة هلوسات الجنس.
ونحن نرى اليوم عبر تلك المعارض الإباحية (1) القائمة هنا وهناك في الغرب إلى أين تؤدي هذه الهلوسات.
فقد تبين لنا خلال ذلك أن القدرة على تطويع الطاقة الحيوية لا تكمن في اختيار مُتَعَمَّد لحلّ متطرف.
فالحل بصفة عامة لا يوجد في اختيار صارم ولا في انطلاق متحرر جداً وليس بالأحرى في معايرةٍ ضابطة، تُوازن بين هذين الحلَّين المتطرفين، بل إنه قبل كل شيء يكن في القوة التي تدعم هذا الحل أو ذاك، أي طبيعة الفكرة الدافعة التي تقف وراءه ومقدار قوتها في تلك اللحظة.
ومن أجل أن تكون هذه الاعتبارات محدّدة، يمكننا تفحص حالة من تكيُّفِ الطاقة الحيوية في مجتمعين مختلفين من جهة ثم في مجتمع واحد ولكن في عصرين مختلفين من جهة أخرى ونجد هذه الحالة في تاريخ التشريع الخاص بتحريم شرب الخمر.
لقد طرح المجتمع الإسلامي مشكلة الخمر، وتضمن هيكَلُ تشريعه ثلاثة نصوص:
1 -
نص يختص بإدخال المشكلة في ضمير المجتمع الإسلامي، وهو يمثل إلى حد ما المرحلة النفسية من الحل.
(1) كان آخرها وأشدها إثارة للفضيحة- لأنه كان علنياً- للعرض الذي استُقبِل زوارُه في (كوبنهاغن) عام 1970م
2 -
نص يختص بالحد من تداول الخمر، وهو يوافق مرحلة تخليص الفرد من الإدمان.
3 -
وأخيراً نص التحريم الذي يُكرِّس الحلَّ من الناحية الشرعية.
وفي مقابل هذه الصورة يمكننا أن نسجل صورة مشابهة لها تقريباً من حيث طريقة العلاج وهي تشريع محاربة الإدمان (قانون التحريم) الأميركي بعد الحرب العالمية الأولى ويشمل تقريباً مراحل الصورة الأولى نفسها.
1 -
في عام (1918) أدخلت الصحافة الأميركية المشكلة إلى الرأي العام.
2 -
وفي عام (1919) أُدخلت المشكلة في الدستور الأميركي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر).
3 -
وفي العام نفسه سرى مفعول التحريم تحت عنوان (إجراء فولستد L'Acte volstead).
وبهذا يمكننا أن نقارن منذ البداية على ضوء التاريخ الفرق بين قدرة التشريعين على التكيف. فمنذ أربعة عشر قرناً لم يُثر تحريم الخمر أية صدمة في المجتمع الإسلامي الناشئ. بينما كانت هذه الموجة في المجتع الأميركي الذي عاصر إجراء (فولستد) من العنف بحيث حطمت كل الحواجز، وقلبت جميع السدود والعقبات، ونتج عنها ردود فعل مرضية: كالتجارة الممنوعة وتكوين عصابات التهريب، وتسمم الجمهور بخمور مغشوشة، مما أدى إلى إلغاء قانون التحريم بموجب التعديل رقم (21) المصدق عليه في (ديسمبر) عام (1933).
لقد استؤصلت فكرة التحريم نهائياً من عالم الثقافة في المجتع الأميركي؛ لأنه لم يكن لها جذور في العالم.
وقد نلاحظ بالمقابل في المجتمع الإسلامي بعضاً من التراجع بخصوص مشكلة
الخمر، خصوصاً حينما يأخذ هذا التراجع مظهر التحدي (المقصود أو غير المقصود) لأبسط قواعد اللياقة.
فوجود أربع خمارات في شارع صغير، في مدينة صغيرة (كتبسة) في جنوب الجزائر، يسمى علاوة على ذلك (شارع النبي) هو في العصر البطولي للكفاح ضد الاستعمار نوعٌ من التحدي في الحقيقة.
ومع ذلك، ومهما كان نوع التشريعات المعتمدة اليوم، فإن المجتمع الإسلامي المعاصر لم يطرد فكرة (التحريم) من عالمه الثقافي. وحتى إذا لم يكن لهذه الفكرة قوة القانون، كما هو الحال مثلاً في البلاد المسماة (تقدمية) فإنها رغم ذلك لا زالت تلعب دوراً ما في الإلزام الاجتماعي.
وإني أعرف عدداً لا بأس به من الفتيات المسلمات يعطين لهذه الفكرة أهميةً كبرى عند اختيار الزوج. وهكذا نرى فكرة تفشل فشلاً ذريعاً في دورها الاجتماعي في مجتمع كالمجتمع الأميركي، الذي ابتدع أكثر الأساليب فعالية لنشر أفكار هـ وآلاته، مؤيداً بوجه عام قرارته في الإطار التشريعي بالإحصائيات الأكثر دقة، والتي يخضعها لأدقِّ مراقبة علمية عند التطبيق.
بينما احتفظت هذه الفكرة بقدرتها على التكيف، نسبياً في مجتمع إسلامي، لم تعد تتوفر لديه اليوم لمواجهة انحرافات طاقته الحيوية سوى إرادة أفراده، لتكوين الإلزام الاجتماعي المطلوب.
يمكننا أن نخلص من ذلك بخاتمتين (1):
1 -
إن قدرة أي فكرة على التكيف ليست متساويةً في مجتمعين لهما أصولٌ ثقافيةٌ مختلفةٌ.
(1) انظر تفصيل هاتين الصورتين في كتابنا (الظاهرة القرآنية).
ففي المجتمع الأميركي المتمحور حول القيم التقنية، أي الموجه نحو عالم الأشياء، تكون قدرة التكيف أضعف منها في المجتمع الإسلامي المتمحور حول القيم الأخلاقية.
2 -
وفي الاطراد نفسه كما في المجتمع الإسلامي، على سبيل المثال، فإن القدرة على التكيف تتغير من مرحلة إلى أخرى.
فهي تصل إلى الذروة في المرحلة الأولى: (انظر الذورة في الفصل السابق) وهي تتناقص تدريجيّاً بمقدار ما توسع الفكرة الأصلية مكاناً لأفكار مكتسبة، ثم هي تتضاءل بمقدار ما تخلي هذه الأفكار الأخيرة مكانها للأشياء.
أما في المرحلة الثالثة، فإن الغرائز تتحرر وعندها تتوقف قدرة التكيف الأصلية، ويختزل العالم الثقافي إلى مجرد عالم أشياء.
هنا تقوم الطاقة الحيوية بتفتيت المجتمع، بعد أن تكون قد تحررت تماماً، وذلك بإلغاء شبكة روابطه الاجتماعية، محطمة نسقها المنظم إلى جمهرة من النشاطات الفردية المتناقضة، أو تلك التي تقوم بها جماعات صغيرة. وهذه هي الظاهرة التي رآها الماركسيون في صورة صراع الطبقات.
ومهما يكن من أمر فإنها نهاية حضارة.
ولا يستطيع المجتمع أن يتابع مسيرته بعقول خاوية، أو محشوة بأفكار ميتة، وضمائر حائرة، وشبكة من الروابط المتهدمة ليس تجمعها وحدة.
وبالنسبة للمجتمع الإسلامي؛ فإن هذا هو عهد ما بعد الموحِّدين الذي بدأ.