الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر
الأفكار والسياسة
• الحرب والسياسة: قوة الجيش تتمثل بالثقة في القاعدة السياسية.
ــ
((الحرب: هي استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى)).
إن تعريف (كلوزويتر Clausewiz)(1) للحرب والذي كان يلقَّن في الأكاديميات العسكرية منذ قرنٍ مضى جديرٌ بأن يدرس اليوم في معاهد العلوم السياسية.
إنه يدخل السياسة عرَضاً في نظامٍ تمثل فيه الأفكار التي تسيِّر الحرب بنية فوقية؛ في مقابل بنية تحتية مؤلفة من الأفكار التي تشكل هيكلية المذهب السياسي بالمعنى الحصري (2).
(1)(كارل فون كلوزويتز) جزالٌ ومنظّر عسكري نمساوي (1780 - 1831 م). كان لكتابه " في الحرب " أثرٌ عظيم في الفكر العسكري المعاصر. ومن أهم أفكاره: أن ((الحرب ليست سوى امتداد للسياسة؛ ولكن بوسائل أخرى))، وأن الأمة التي تدخل حرباً ( sitale) يجب أن تكرس نفسها بكاملها لتلك الحرب وليس جيشها فقط.
(2)
يقصد بالبنية التحتية (في المفاهيم الفلسفية) = البنية المخبأة، أو غير الملحوظة، التي تدعم عمل إيديولوجية ما وتكون في أساسها، وبالبنية الفوقية: النظام المؤسساتي والأفكار التي يعيها المجتمع وتتحكم في سيره (مثل النظام الاقتصادي).
وهذه العلاقة تتضمن تجاوباً بين صلابة البنية الفوقية العسكرية وجدارة البنية التحتية السياسية.
وربَّ ناقدٍ يغلب عليه التفكير السطحي عاصر الحملات التي انطلقت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرةً لما فاته أن يعتبر كخطأ مميت تصرف أبي بكر؛ عندما ألقى بالجيش الإسلامي في معارك ثلاث في وقت واحد (1)، إحداها داخل الجزيرة العربية ومعركتان في الخارج على الحدود.
إنما فات هؤلاء النقاد أنه بالإضافة إلى الظروف التي لم تدع للخليفة فرصة الاختيار؛ فقد بنى الحساب على أساس المعطيات السياسية للعصر. إذ لا ننسى أنه كان في المدينة أبو بكر وعمر.
(1) حينما جهز أبو بكر رضي الله عنه جيش أسامة إلى بلاد الشام ارتدت بعض قبائل العرب، ومنعت الزكاة وهاجموا المدينة؛ فخرج أبو بكر بنفسه للقائهم، وقد جاء في كتاب تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي للدكتور حسن إبراهيم حسن 1/ 214: ووجه أبو بكر همه بعد ذلك إلى إخماد الفتن والثورات الداخلية ليشغل العرب بالحروب الخارجية؛ لأنها كانت تفي بما أمر به الدين من نشر الإسلام من جهة، ولأنها كانت من جهة أخرى استغلالاً صالحاً لما جبل عليه العربي من حب القتال. لذلك لم يكد أبو بكر ينتهي من حروب الردة الطاحنة التي شنها على العرب المارقين، حتى أرسل تلك الجيوش وزودها بالأمداد يتلو بعضها بعضاً لفتح البلاد ونشر الإسلام فيها. فأنفذ خالد بن الوليد إلى الحيرة، ودعا المقاتلين من أرجاء الجزيرة العربية للجهاد في سبيل الله، وأنفذهم إلى بلاد الشام. وإن توجيه أبي بكر الجيوش لغزو دولتي الفرس والروم في وقت واحد؛ مع ما كان لهاتين الدولتين من الملك وبسط النفوذ ووفرة الثروة ليدل على حسن سياسته وقوة عزيمته. غير أننا لا نعجب إذا عرفنا ان هاتين الدولتين. وإن كانتا مضرب الأمثال في الأبهة والعظمة إلا أن هذا كله كان أمراً ظاهرياً فقط، فقد أضعفهما استبداد الملوك، والبذخ، والخلافات الدينية، والتنافسي على الملك؛ على حين ألف الإسلام بين قلوب العرب، فوجد أبو بكر في الأمة العربية الفتية المؤلفة بالحرب، المتقشفة في طعامها ولباسها مع ما عليه رجالها من شدة الإيمان، والحرص على الاستشهاد في سبيل نصرة الدين خير معين للقضاء على هاتين الدولتين.
ولقد كانت قوة الجيش الإسلامي تتمثل بالثقة في هذه القاعدة السياسية؛ التي كانت تُؤَمِّن مؤخرة الجيش، وتُؤَمِّن جبهته.
لقد أورد المؤرخ (ديورانت Diorante) حواراً موجباً للعبرة حول السياسة، دار بين (كنفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ)؛ الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة (1).
أجاب (كنفوشيوس)(2) قائلاً: على السياسة أن تؤئن أشياء ثلاثة:
1 -
لقمة العيش الكافية لكل فرد.
2 -
القدر الكافي من التجهيزات العسكرية.
3 -
القدر الكافي من ثقة الناس بحكَّامهم.
سأل (تسي كوغ): ((وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة فبأيِّها نضحِّي؟)).
وأجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.
سأل (تسي كونغ): ((وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما نضحي؟)).
أجاب الفيلسوف: ((في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أيُّ أساس للدولة)).
والشريعة الإسلامية جسّدت هذه الفلسفة السياسية في العلاقة المتبادلة بين المحكوم والحاكم. فعلى المواطن؛ السمع، والطاعة. لكنه في الوقت الذي يلحظ
(1) تاريخ الحضارة؛ ترجمة بدران 4/ 60.
(2)
(كونفوشيوس) فيلسوف صيني (555 - 479 ق. م) كان لتعاليمه وأفكاره الأثر الأكبر في تاريخ الحضارة الصينية حتى العصر الحديث.
فيه تجاوزاً من رجل السلطة لأحكام الشريعة يرفض السمع والطاعة. فالعلاقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم تصبح مقطوعةً لا تلزمهم بشيء.
وعمر بن الخطاب أدرك ذلك جيداً. إذ حينما رأى أعرابياً يرفض السمع والطاعة ذات يوم لم يبحث عن اضطهادٍ لهذا المعاند، بل عن تفسير قدم إليه في قطعة من القماش؛ استوجب أخذها من نصيب ولدِه من الغنائم ليكتمل بها جلبابه؛ لأنه طويل القامة.
فالحاكم ليس فحسب ذلك الرجل النزيه فهذه صفة يتمتع بها سائر صحابة النبي. فأبو ذر الغفاري وهو من أكثر وجوه عصر النبي صلى الله عليه وسلم سمواً: سأل يوماً أن يعيَّن حاكماً على إمارة.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض طلبه رغم ما كان يكنّه للصحابيِّ الجليل من تقدير عميق حتى آخر يوم من أيام حياته.
فالنزاهة لا تكفي وحدها. يجب أن تضاف إليها الكفاءة وأكثر من ذلك الملاءمة.
وهناك أكثر من حاكم عزله عمر وكان الخليفة يقول: ((ليس لطعنٍ في نزاهته ولا لنقصٍ في كفاءته)).
فأبو عبيدة بن الجراح (أمين هذه الأمة) كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم[متفق عليه]؛ قد عزل رغم كفاءته ونزاهته.
لكنه كان هو الذي يفكر فيه عمر وهو على فراش الموت ليولّيه أمر خلافته في الظروف المأساوية التي أحاطت بموته: ((آه .. من لي بأبي عبيدة لأولّيه أمر هذه الأمة)) (1) فهل هو التناقض في خلد عمر؟
(1) كان هذا الصحابي الجليل قد توفي في سورية أثناء تفشي وباء الطاعون فيها، وذلك قبل وفاة الخليفة عمر بعامين أو ثلاثة.
إن النزاهة والكفاءة صفتان مطلوبتان في رجل السلطة مهما كانت مرتبته. إنما فوق هذه المرتبة لا بد من شيءٍ من الملأءمة في نظر عمر، فأبو عبيدة كان يملك تلك الملاءمة الخاصة بتولي أمر الأمة. والمدينة المسلمة تأسست على هذه المجموعة من الفضائل في رجل السلطة وفي المحكومين. ولأجل العمل على حفظ هذه الفضائل، أنشأ الفقه الإسلامي نظام (الحسبة)، هذا النظام الذي يشبه من بعيد ما يسمّى اليوم (بالنقد الذاتي)، والنقد من أجل مراقبة استمرارها الفعال وفاعليتها في الحياة العامة.
فالمدينة المسلمة ليست حشداً مزيجاً من طوائف اجتماعية مختلفة، بل إنها بوتقة جماعة وحدتها الثقةُ المتبادلة بين سائر أفرادها محكومين وحاكمين.
غير أنها ليست مع ذلك جمهورية (أفلاطون)؛ التي انتحلها في كثيرٍ أو قليلٍ (الفارابي) في المدينة الفاضلة، فنموذجها الأصلي هو المدينة نفسها في عهد عمر.
وإلى هذه القدوة السامية ينبغي أن نقارن تنظيماتنا وأفكارنا السياسية الحالية في العالم الإسلامي المعاصر؛ لنقيس عبرها تخلفنا عن هذا النموذج.
وإننا لبعيدون عنه في منهجي السياسة الإسلامية الحالية اللذين يوجدان في البلاد المتخلفة. فالنهج الذي يسمى (محافظ)، أو النهج الذي يسمى (تقدمي) لا يوجد فيهما الاهتمام بكسب ثقة الجماهير التي تحكمها باعتباره اهتماماً رئيسياً.
وفيما عدا واحدٍ ضرب لبلاده المثل الأعلى في الديمقراطية والتواضع السياسي الرائع؛ حين تنحى عن طيب خاطرٍ، وتخلى عن مسؤولياته رئيساً للدولة؛ لم يعرف العالم الإسلامي اليوم في حياته السياسية كتصرف (ديغول) عقب الاستفتاء الذي لم يعطه أغلبية الأصوات عام (1968).
فالسياسة لابد لها أن تكون: أخلاقية، جمالية، علمية، لكي يكون لها معنى في مسيرة التاريخ.
(شو أن لاي)(1) قال منذ زمن: ((سياستنا لا تخطئ لأنها علم)). وكان على حقٍ ضمن الحدود التي لا يخطئ فيها العلم. يتعين على السياسة أن تكون علماً، علماً اجتماعياً تطبيقياً.
إنّ مثقفي الصين قد سكبوا في ثورتهم الصينية ثلاثين عاماً من التفكير الاجتماعي والتاريخي، وإن السياسة التي تمتص هذا القدر العظيم من المعارف تصبح بالضرورة علماً مطبقاً على المشكلات الحيوية في الصين.
ومن هذا الجانب بالذات؛ أي بصرف النظر عن الطابع الماركسي الذي أورث النقد الذاتي الخصب: كانت الصين قد اكتسبت مع مفكريها منهج العمل العلمي.
وإذا كانت هذه المناهج قد أثبتت فاعليتها في ظلّ حكم (ماوتسي تونغ)(2)؛ فإن ذلك يرجع إلى ان هذا الحاكم قد عرف كيف يطلب من هذه المناهج ما كان ينبغي اقتباسه من التقاليد الصينية القديمة، وحتى من أساطيرها: كأسطورة (بوكونغ): الذي ينقل الجبال من أماكنها، فبلور هذه العناصر كلها في إيديولوجية واحدة.
(1)(شو أن لاي) رجل سياسة، وعسكريٌ صيني (1896 - 1976 م). شغل عدة مناصب سياسية منها زئاسة حكومة الصين الشعبية سنة (1949) كان منظِّر الحزب الشيوعي الصيني، وكان دبلوماسياً شارك في العديد من المؤتمرات الدولية ودعم الحراس الحمر أثناء الثورة الثقافية.
(2)
(ماوتسي تونغ)(1893 - 1976 م): قائد الثورة الشيوعية الصينية. قاد العديد من الثورات والإصلاحات في بلاده. وضع عدداً من المؤلفات ضمّنها أفكاره السياسية والإيديولوجية، أهم هذه المؤلفات "الكتاب الأحمر".
ولأنه ينشد الحقيقة فإن العلم يصبح نظاماً أخلاقياً لا يطيق الصبر على الخطأ من غير أن يجري التصحيح المطلوب.
لكن يبدو أن البلاد الإسلامية لا يروقها أن تلقي نظرةً خلفها. ومع ذلك فمن الضروري أحياناً العودة بالخطى حينما يكون من الممكن تصحيح الأخطاء عبر مناقشة حول موضوعها ترسخ الحوار بين الحاكم والمحكوم.
ولقد كان خير مثل للرجوع إلى المصادر التي تعيد الثقة؛ ذلك المثل الذي قدمته الصين الشعبية بثورتها الثقافية التي قلبت طبقات المجتمع، وعالم الثقافة، رأساً على عقب وجددت البلاد إلى حد كبير (1).
إن أمام البلاد الإسلامية اليوم هذه الدروس في السياسة العليا التي صنعت المعجزات كما رأينا.
وإن خلفها دروس الثقافة الإسلامية الرفيعة التي تتيح لها استعادة بعض المفاهيم التي لا تقدر بثمن (كالحسبة): التي هي جديرةٌ بإدماجها بالنظم السياسية للبلاد الأكثر حداثة؛ وبالخصوص لهذه البلاد بالذات.
(1) الثورة الثقافية في الصين: ثورة قام بها (ماو تسي تونغ). كان هدفها صنع وعيٍ جماعيٍ جديد يحارب الفردية، ويدعو إلى (خدمة الشعب). كانت هذه الثورة عبارة عن تحوّلٍ جذري جعل السياسة والثقافة تعلو على القوى الاقتصادية.