الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
المجتمع والأفكار
1 -
المجتمع عبر العوالم الثلاثة: الشيء - الشخص- الفكرة رجحان أحد هذه العوالم هو الذي يميز كل مجتمع عن سواه.
2 -
المجتمع التاريخي يسجل مراحل ثلاثاً: مرحلة ما قبل التحضّر، ومرحلة التحضّر والدورة الحضارية، ومرحلة ما بعد التحضر.
3 -
مجتمع ما قبل التحضّر وما بعد التحضر لا يفتقر للوسائل وإنما للأفكار.
4 -
المجتمع الإسلامي مرَّ بهذه المراحل الثلاث منذ العصر الأول وحتى سقوط دولة الموحِّدين. وهو يعيش عصرَ ما بعد الحضارة.
ــ
يعتبر علماء الأحياء (البيولوجيون) أنَّ علم الأجنّة يصوِّر المراحل التكوينية للجنس البشريّ.
وليس ثمة سببٌ فقهيٌّ من وجهة النظر الإسلامية لتأكيد هذه القضية أو الشك فيها.
فالفكر القرآني قد بقي مجازياً في هذه القضية كما في سواها شأن كلّ فكرٍ ديني
أما على الصعيد التاريخي فالأمر مختلف، إذ يمكن الإشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقليِّ عند الفرد، والتطوُّر النفسيِّ- الاجتماعيِّ للمجتمع، وهذا الأخير يمر هو أيضا بالأعمار الثلاثة:
1 -
مرحلة الشيء.
2 -
مرحلة الشخص.
3 -
مرحلة الفكر.
بيد أن الانتقال هنا من مرحلةٍ إلى أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد. فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عالمه الثقافي المعقد.
ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة: الأشياء، والأشخاص، والأفكار.
وغيٌّ عن البيان أنَّ خطة هذا النشاط- مهما كان بدائياً- تنطوي بالضرورة على مسوِّغات وأنماط تنفيذية: بواعث في المستوى الأخلاقي، وأفكار تقنية. ولكن يظلُّ هنالك دائماً رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة. وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كلّ مجتع عن سواه من المجتمعات.
فالمجتمع المتخلّف ليس موسوماً حتماً بنقيصٍ في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقارٍ للأفكار، يتجلى بصفةٍ خاصةٍ في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه؛ بقدر متفاوت من الفاعلية، في عجزه عن إيجاد غيرها، وعلى الأخصِّ في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق؛ عندما يتخلى عن أيِّ رغبة ولو مترددة بالتصدّي لها.
ووفقاً لتعبير الاقتصاديين الدارسين لمشاكل العالم الثالث؛ فالأرض هي الوسيلة الأصلح لتأمين (إقلاع) مجتمع ما يمرُّ في مرحلته البدائية، ويتأهب للانتقال إلى مرحلة ثانوية كالصين الشعبية منذ عام 1951.
لكننا نلاحظ أن أكثر الأراضي خصوبةً في العالم- وتوجد في العراق وأندونيسيا- لم تُمَكِّن هذين البلدين من (الإقلاع).
فهناك فاقةٌ حقيقية في الأفكار تظهر في المجال السياسي والاقتصادي؛ على شكل موانع كابحة، تتوافق من وجهة نظر علم الاجتماع مع الخصائص النفسية- الاجتماعية التي يتميز بها العالم الإسلاميُّ في الوقت الحاضر.
هذه الصورة يمكن أن تجد تفسيرها لدى المؤرخين والاقتصاديين وعماء الاجتماع، كلٌّ حسب طريقته في التحليل.
لكننا نعتقد أننا نقدم لها هنا تفسيراً نفسيّاً اجتماعياً بالرجوع إلى نظرية الأزمنة الثلاثة؛ والتي سنجد مسوغاتها بسوابق المجتمعات المعاصرة.
وبصفة عامةٍ فعلى محور يمثل سائر مراحل التطور يحتل المجتمع التاريخي معاصراً كان أو تالداً مرحلةً محددةً.
والتاريخ يسجل منها ثلاثاً:
1 -
مرحلة المجتمع قبل التحضر.
2 -
مرحلة المجتمع المتحضر.
3 -
مرحلة المجتمع بعد التحضر.
والمؤرخون يميزون جيداً في العادة بين الوضع الأول والثاني، ولكنهم لم يهتموا بالتمييز بين هذين الوضعين والوضع الثالث.
فهم يرون أن مجتمع ما بعد التحضُّر هو بكل بساطة مجتمع يواصل سيره على طريق حضارته، وهذا الخلط المؤسف يولد أنواعاً أخرى من الخلط والالتباس تزيف وتفسد المقدمات المنطقية التي يرتكز عليها الاستدلال على الصعيد الفلسفيّ والأخلاقيّ، وعلى صعيد علم الاجتماع، وحتى على الصعيدين الاقتصادي
والسياسي؛ عندما يزعم البعض أنه استناداً إلى مثل هذه المقدمات يمكن طرح مشكلات البلاد المتخلفة وإيجاد الحلول لها.
وقد يَستغلُّ هذا اللَّبْسَ أحياناً المتخصصون في الصراع الفكري؛ عندما يتولون هم أنفسهم أو يكلفون أحد تلاميذهم محاولة إقناعنا في قياسٍ منطقيٍ خاطئٍ بفشل الإسلام في بناء مجتمع متقدم (1).
ولكي نزيل هذا اللبس نقول: بأن مجتمع ما بعد التحضر ليس مجتمعاً يقف مكانه، بل هو يتقهقر إلى الوراء بعد أن هجر درب حضارته وقطع صلته بها.
ولم تفت ملاحظة هذه الظاهرة أحد المؤرخين فوصفها في أسىً بقوله: ((وكأني بالمشرق (الإسلامي) قد نزل به ما قد نزل بالمغرب، ولكن على مقدار ونسبة عمرانه وكأنما لسان الكون ينادي في العالم بالنوم والخمول، فأجاب)).
إنّه ابن خلدون الذي دوّن بعد قرن من سقوط بغداد وقبل قرن من سقوط غرناطة هذه النقطة الخاصة بانفصام دورة الحضارة الإسلامية؛ النقطة التي ابتدأ منها عصر ما بعد الموحِّدين، أي عصر التخلُّف الحضاريِّ في العالم الإسلاميّ.
وبتتبعنا لسيرة هذا المجتمع منذ نشأته التاريخيَّة المحددة بالتقويم الهجريّ يمكن تكوين فكرة عن المراحل التي اجتازتها ودلالتها النفسية- الاجتماعية.
في الأصل كان مجتمعاً قبلياً صغيراً، يعيش في شبه الجزيرة العربية، وفي عالم ثقافي محدود، حيث كانت المعتقدات نفسها تتمحور حول أشياء لا حياة فيها، إنها أوثان الجاهلية.
فالبيئة الجاهلية تمثل أصدق تمثيل مجتمعاً هو في عمر (الشيء)، ويجب أن
(1) يعتقد المؤلف أن لا ضرورة للتركيز على هذه النقطة التي قام بتحليلها في دراسته تحت عنوان (انتاج المستشرقين وأثره على الفكر الإسلاميِّ الحديث).
نلاحظ إضافة إلى ذلك أنه في هذا المستوى من مرحلة ما قبل التحضر؛ فإنّ عالم الأشياء يكون هو نفسه شديد الفقر وتكون الأشياء فيه بدائيَّة: كالسيف، والرمح، أو الوتد، والكنانة، والقوس، والسهام، والجمل، والحصان، والسرج، دون ركاب، أو مزود بسندٍ خشبي بسيط (هذا الركاب الحديدي سوف يخترعه المهلَّب بن أبي صُفرة فيما بعد) والخيمة، والأدوات المنزلية الهزيلة المقرونة بحياة البداوة.
وعلى كل فإن (الشيء) يسترد سيطرته على الإنسان في مجتمع ما بعد التحضر، حتى يتمتع هذه المرة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍّ) بعالم مثقل بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة.
ومهما يكن من أمر فإنَّ عالم الأشخاص في المجتمع الجاهليِّ قد انحصر في حجم القبيلة، فيما عالم أفكار هـ قد تمثل بوضوحٍ في تلك القصائد المتألقة الشهيرة بالمعلقات، وهو بالإجمال - شأن عالم أشخاصه- عالمٌ محدود يستقي منه الشاعر الجاهلي أبياته البراقة ليشيد بمجد قبيلته وانتصارها في أحد الفصول الملحميَّة التي حفظتها ذاكرة التاريخ تحت اسم (أيّام العرب)، ويتغنى بذكرى حبيبته، أو يبكي كالحسناء، بطلاً هوى، أو يسعى لتخليد اسمٍ كاسم حاتم الطائي لجوده وحسن ضيافته.
هكذا كان وجه ذلك المجتمع الجاهلي المنغلق على نفسه والذي كانت تتلاشى على أرباضه حركات المد والجزر التاريخية للأمم العظيمة التي جاورته: الامبراطورية البيزنطية، والامبراطورية الفارسية، ومملكة الحبشة في الجنوب.
وفجأةً أضاءت فكرةٌ في غار، غار حراء، حيث مُنْعَنرلٌ يقوم فيه متأملاً. وحمل وميضها رسالةٌ بدأت بكلمةِ (اقرأ).
مزقت هذه الكلمة ظلمات الجاهلية، وقضت على عزلة المجتمع الجاهليِّ.
ورأى النورَ مجتمعٌ جديدٌ متفاعل مع العالم ومع التاريخ، فشرع بهدم ما بداخله من حدودٍ قبلية ليؤسس عالمه الجديد من الأشخاص؛ حيث كلٌّ أضحى حاملَ رسالته، وليبني عالماً ثقافياً جديداً تتمحور فيه الأشياء حول الأفكار.
في مبدأ الأمر، وعندما بدأت عملية اندماج المجتمع الإسلامي في التاريخ، تأسس عالم الأشخاص فيه على نموذج أصليٍّ، يتمثل بطائفة الأنصار والمهاجرين المتآخين في المدينة.
ولقد جسد هذا النموذخُ الفكرة الإسلامية. إذ أضحى النموذج المحتذى والمستلهم، والذي منه تُجْتَنى الذكريات التي ألهمت الكتابات الأولى في العالم الإسلامي؛ كطبقات ابن سعد.
وجميع خطوات المجتمع الجديد نحو عالم الأفكار - أي نحو عمر الفكرة- مرت عبر عالم الأشخاص هذا- أي عبر- عمر الشخص.
هكذا يتواصل الاطراد في المجتمع كما في الفرد حتى نقطة الارتداد والانكفاء. هنا تجمد الفكرة، وتتجه المسيرة نحو الوراء، إذ ينقلب المجتمع الإسلاميُّ على أعقابه ليعود على إثر مراحل عوالمه الثلاثة.
هنا لا يعود عالم أشخاصه على هيئة النموذج الأصليِّ الأوّل، بل يصبح عالم المتصوفين، ثم عالم المخادعين والدجالين من كل نوع، ولا سيما من نوع (الزعيم).
وعالم أشيائه لا يعود بسيطاً مستجيباً لضروراته كما كان حاله في الجاهلية. فالأشياء هنا تستعيد سلطتها على العقول والوعي، إذ غالباً ما تكون تافهةً براقةً، وتهبط الجيوب حين يتعين شراؤها من الخارج.
هكذا فالسيرورة منغلقة. والمجتمع الإسلامي العائد أدراجه يجد نفسه في النهاية ومنذ عدة قرون في عصر ما بعد الحضارة.