الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السّادس
عالم الأفكار
• الأفكار الأساسية النموذجية الرائدة.
• الأفكار العمليّة التاريخية.
• التغيير والتحول يطرأ على عالم الأشخاص لا على عالم الأشياء.
• علاقة الأفكار بمقاييس النشاط.
• موت الأفكار وانتقامها.
ــ
إن مجتمعنا في المرحلة السابقة على تحضره يواجه نشاطاته البدائية بحوافز وطرق عملية، تمثل عالمه الثقافي المتواضع.
ومع ذلك وحتى في هذه المرحلة فإن هذا العالم يشتمل على أفكار - رائداة، (نماذج) يرثها الجيل عن الجيل السابق ويورثها الذي يليه، وأفكار ٍ عملية يواجه بها كل جيل الظروف الخاصة بتاريخه؛ بعد أن يدخل عليها تعديلاً قل أو كثر يلائم مسيرته.
أما الأفكار الرائدة التي تحتضن نشاطه، فهي في هذه المرحلة مخزونه الأخلاقي.
وأما الأفكار العملية التي توجِّه نشاطه فهي وسائله التقنية.
فإذا ما انتقل المجتمع إلى المرحلة التالية فاستقل سيرورة حضارة ما فإن تحوله هذا يستجيب بالضبط لثورة ثقافية تعدل بقليل أو بكثير وسائله التقنية، وفي
الغالب يكون التعديل محدوداً، لكنها تقلب بصورة جذرية قاعدته الأخلاقية.
فعلى عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص. وحتى الوسائل التقنية في هذه المرحلة بالذات لا تتجه نحو الأشياء، وإنما نحو الإنسان باعتبارها تقنية اجتماعية تحدد العلاقات الجديدة داخل المجتمع؛ على أساس ميثاق جديد، مُنَزَّل كالقرآن الكريم، أو موضوع من الأشخاص كدستور ( iassa)(1) جنكيزخان، والدستور الفرنسي (1793) م.
لكن الشرط الأول لضمان شبكة علاقاته الجديدة داخل المجتمع كما رأينا؛ هو أن توضع حدود لطاقته الحيوية.
وهنالك في عالم الأفكار داخل المجتمع تراتب بين الأفكار التي تغير الإنسان والأفكار التي تغيّر الأشياء.
فالأفكار الأولى تضع قدرة تكيف الطاقة الحيوية على عتبة حضارةٍ، أما الأفكار الثانية فإنها تُطوِّع المادة لحاجات الحضارة في المرحلة الثانية من دورتها التي أشرنا إليها آنفاً.
(1) راجع تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، الدكتور حسن إبراهيم حسن 4/ 134 - 137 حيث جاء فيه:((ولما أمن جنكيز خان شر أعدائه فكر في ترقية حالة بلاده الاجتماعية والخلقية بوضع قانون يكون أشبه بكتاب ديني يسيرون على هديه في معاملاتهم وأحكامهم، فوضع لهم (اليساق) أو (الياسه) وقد روى المقريزي خلاصة هذا اليساق نقلاً عن أحمد بن البرهان، الذي اطلع على نسخة منه بخزانة المدرسة المستنصريّة ببغداد. وكذلك ذكر القلقشندي أن السياسة كلمة مغولية أصلها (ياسه) فحرفها أهل مصر وزادوا بأولها سيناً فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية
…
واسمع إذن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام، ذلك أن جنكيز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق لما غلب ((أوتيك خان)) وصارت له دولة، قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسه) ومن الناس من يسميه (يسق) والأصل في اسمه (ياسه)، وياسه كلمة تركية قديمة معناها القانون الاجتماعي".
وتعتمد قدرة الأفكار الأولى في درجة التحول ومدته على الصدر المقدس أو الزمني للعالم الثقافي الذي ولد في المجتمع الجديد.
والواقع أنه لا يوجد في الأصل عالم زمنيٌ محض. لأن مثل هذا العالم لا يستطيع أن يقدم حوافز تستطيع مساندة مجتمع ناشئ لا يزال في خطواته الأولى.
ولقد لاحظ مؤسسو المجتمع المدني بسرعة تلك الظاهرة، مثل روبسبيز (1) الذي أضاف بعد فوات الأوان- فكرة ((الكائن الأعلى)) ( L'Etre supreme)(2) إلى إيديولوجية الثورة الفرنسية.
وحينما أخفقت هذه الفكرة فإن فرنسا عام (1789) استبدلتها بفكرة
(1)( Rabespierre روبسبيير)(1758 - 1794) أحد مشاهير رجال الثورة الفرنسية، تأثر منذ حداثته أكثر الشيء بأفكار (جان جاك روسو) فتبنى مفهوم الإرادة الجماعية أو العامة للسلطة، ونظام (العقد الاجتماعي) وأهم ما فيه أن الأمة هي صاحبة السيادة المطلقة. وحينما كان نائباً عن مقاطعة (تيير Tier)(1789) كان (روبسبيير) ملكياً دستورياً في موقفه السياسي، لكنه ما لبث أن أصبح أعنف مدافع عن حقوق الشعب، وكان مع رفاقه (مارا Mara) و (دانتون daneon) أحد قادة كومون باريس المتمردة (1792)، واشتهر بالدكتاتورية الدموية حتى لُقِّب بـ ((روح الدكتاتورية اليعقويية)) وهو مسؤول عن إعدام رفاق دربه مثل:(ديمولين) و (دانتون)؛ بسبب اعتدالهم وتسامحهم. وله نظر يته في ((الديمقراطية الأخلاقية)) وهي: تعبير عن فكرة دكتاتورية الإرادة العامة، وقد أسس حكومةً شعبيةً تقوم على الفضيلة (أو على الذعر والترهيب زمن الأزمات الثورية) هذه السياسة الإرهابية أثارت خصومه ضده إلى حد إقالته وتنفيذ حكم الإعدام فيه صيف (1714).
(2)
عمد (روبسبيير) إلى ربط السياسة بما يشبه المفهوم الديني، وذلك بأن توّج الديمقراطية الأخلاقية- السياسية روحياً بتأسيس طقوس الكائن السامي (آذار 1794). وهو المفهوم الفلسفي الجديد لإله السماء الموحِّد الذي يتخطّى- حسب رأي فلاسفة عصر التنوير- جميع التناقضات والخصومات بين الأديان والمذاهب، وذلك ضمن إطار ما يسمى بالديانة الطبيعية غير أن روبسبيير جعل له طقوساً معينة واختزل الفكرة الفلسفية بدمجها مع مفهوم الدولة.
الرجل المُؤله ( Ledemiurge) المتجسدة في نابليون.
هذه المواربة تثبت لنا أن أي مجمتع ناشئ يبحث دائماً عن سند له في القيم المقدسة.
من ناحية أخرى، فإن التاريخ يثبت لنا أن عالماً مبنياً في الأصل على القيم المقدَّسة يميل دائماً إلى نزع صفة القداسة عن مبادئه كلما أوغل المجتمع في المرحلة الثانية من دورة الحضارة، مرحلة امتلاك ناصية المشاكل التقنية والتوسع.
وربما أمكن تفسير هذه الظاهرة بإحدى طريقتين: فهي في منظور الاقتصاديين تقدم، وهي في منظور المؤرخين الفلاسفة إهدار طاقة في منعطف شيخوخة.
هذان التفسيران المتعارضان يتلاقيان في حتمية قانون تحول الطاقة الذي يحكم التاريخ كما يحكم الفيزياء، والذي يقرر بأنه لابد من سقوط طاقة كامنة لإنتاج العمل.
وعلماء (الميكانيكا) يسمونها (لحظة) القوة، هي تلك اللحظة التي تكون كافيةً لتمكين يد الرافعة من تحريك مقاومة ما، أي لإتمام عملٍ ما.
وللفكرة الدافعة (لحظتها) كذلك، أنها اللحظة التي يكون إسقاطها على نشاطنا، هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي الأصلي.
فقدرتها على الطاقة الحيوية تكون في أوجها في تلك اللحظة على الأخص.
لقد سمحت تلك القدرة لبلال بن رباح الخاضع لتعذيب مُبَرِّحٍ بتحدي الجاهلية
الإنسان المؤلّه ( Ledemiurge) وهو إضفاء صفات الإله، أو أنصاف الآلهة، والأبطال الخارقين على فئة نادرة من البشر عبر التاريخ بقصد إحاطتهم بهالةٍ من العظمة والتقديس إلى درجة تجعلها غالباً تدخل في الخيال الأسطوري.
بأكملها، وهو يرفع سبابته ليشهد على وحدة الله ((أحد
…
أحد)) كما أتاحت للشهيد المسيحي المعروض للتعذيب في سيرك زمن سراديب الأموات أن يتحدى وثنية الرومان.
إن سائر الأفكار (سواء التي تختص بالإطار الأخلاقي أو التي تتحكم بالإطار المادي) لها لحظة إشراق (لحظة أرخميدس) عندما تطلق صرخة الفرح (أوريكا Eureka)(1) لدى دخولها العالم الثقافي.
وهي صرخة موسى إذ آنس ناراً، وصيحة (باسكال) حين دعي الضمير المسيحي إلى تذكرها، في روائع الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر ((نار
…
نار
…
فرح!
…
دموع الفرح)) (2)
وهي صيحة (نيتشه) لدى اكتشافه (قانون العوْد الأبدي)(3).
(1)(أرخميدس 287 - 212 ق. م)( Archmade) عالم يوناني كبير له اكتشافات واختراعات مهمة في الرياضيات والفيزياء بوجه خاص. وهو صاحب نظرية الأجسام العائمة. ويروى أن ملك سيراكوز قد عهد إليه بمهمة تحديد ما إذا كان تاجه من الذهب الخالص: فقاده البحث إلى اكتشاف مفهوم الوزن العيني، وبينما كان يفكر بالأمر وهو يغتسل في الحمام. جاءه الإلهام فجأة فنسي نفسه لشدة الفرح. وخرج وهو يصرخ:((أوريكا! أوريكا! وجدتها! وجدتها)).
(2)
(باسكال 1662 - 1623م)( B. Pascal) عالم ومفكر- فرنسي من القرن السابع عشر، نبغ في الرياضيات والحساب، وقد تأثر كثيراً بأخته الراهبة جاكلين، وبأحداث أخرى رأى فيها تدخل العناية الإلهية. ومنها حادثة ذاتية جعلته في حالة الانخطاف والوجد (23 نوفمبر 1654) مما قاده إلى الاعتكاف في دير (بور رويال port-royal) عند اتباع مذهب) جينسنيوس jon) المتزمتين والذين ينادون بانسحاق الإرادة البشرية أمام القدر والسلطة الإلهيه المطلقة، وبالحضور الإلهي المرعب والشديد الرقابة .... وقد دافع عنهم في رسائله الشهيرة (16567 - 1657)( L' provin ciales) التي يهاجم فيها الآباء اليسوعيين وتآويلهم لنعمة العفو الإلهي ولمفهوم الخلاص المسيحي.
(3)
قانون العوْد الأبدي: يسود الاعتقاد في المجتمعات البدائية أن زمن البدايات الكونية هو: الزمن الحقيقي والخلاّق الذي ظهرت فيه أنماط كل شيء في حلتها الأصليّة. وأن هذا الزمن الفردوسي=
وهي صيحة (كريستوف كولومبس) ورجال سفينته لدى اكتشافهم جزر الهند الغربية عام (1492) م. ((الأرض
…
الأرض!
…
)) فقد كانوا بذلك يعلنون بها للعالم لا اكتشاف القارة الأميركية بل دخول هذه الفكرة في عالم الثقافة دخولاً قطعيا. ((الأرض كروية!
…
الأرض فعلاً كروية)) (1).
وهي صيحة انتصار فكرة
…
((الحرية والمساواة والأخوة)) التي أطلقها شعب باريس فأطاحت بسجن الباستيل في الرابع عشر من تموز عام (1789) ويعود رجع ذلك اليوم في التاريخ إلى الإطاحة بعرش بطرس الأكبر في تشرين الأول أكتوبر عام (1917)(2).
= يمكن عيشه من جديد عبر طقوس دينية معينة مُهداة إلى الآلهة؛ تُعيد إلى الأذهان أجواء العصر الذهبي للوجود الذي تم خلاله خلق الأسلاف الأسطوريين الأوائل والنظم والمجتمعات.
و (نيتشه F. Nietgsche) هو: فيلسوفٌ ألمانيّ عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1844 - 1900) م- له نظريته الشهيرة في المأساة اليونانية التي اعتبرها انتصاراً للإغريق على مبدأ التشاؤم، بفضل اتحاد الفكر الأبوليني في الشكل، والحماس الديونيسي في الموسيقى. وتتصف كتاباته عامة بالثورة على الموروث، وبأسلوبها البلاغي والنقدي اللاذع، ومنها (هرمية الأخلاف)، (1887) و (ما وراء الخير والشر)، (1886) و (المسيح الكذاب)، (1888). وقد اشتهر نيتشة بمذهب ((إرادة القوة)) التي تنشئ نظاماً، أخلاقياً للصفوة- ونراه يبشر في كتابه (هكذا تكلم زرادشت)، (1883 - 1885) بولادة الإنسان المتفوق الذي سيأتي لخلق قيمٍ جديدةٍ تعزّز الحياة والحرية، وتوافق قبولاً فرحاً لمبدأ (العود الأبدي).
(1)
(كريستوف كولومبس)، (1461 - 1506) م. وهو بحار إيطاليّ من مدينة جنوى. أبحر عام (1492، 3 آب) من مرفأ بالوس بعد حصوله على موافقة ملكة إسبانيا، ثم أبحر ثانيةً بحثاً عن العالم الجديد (1493) وبعد فترة طويلةٍ قضاها في عرض البحر بعيداً عن اليابسة كاد البحارة يفقدون خلالها أي أمل في الوصول إلى الهدف المنشود وظنوا أنهم غارقون لا محالة لاحت آثار الحياة في الأفق. ثم ظهرت اليابسة عن بعد، فهتف (كولومبس) هاذياً: ((الأرض!
…
! الأرض)).
(2)
(بطرس الأكلبر)، (672 ا- هـ 173)
1 -
كان بطرس الأكبر محور سائر المناقشات التي تتصل بتاريخ روسيا. ففي القرن التاسع عشر انتقده المحافظون بأنه أحدث في المجتمع الروسي شرخاً اجتماعياً بفصله النبلاء (المتأوربين) عن الشعب الذي بقي في تقاليده المسيحية في أصولها. =
إن الأفكار في لحظة (أرخميدس) تعتمد على حالة روابطها مع النماذج، وهذه الأخيرة تمثل في العالم الثقافي القوالب التي بقيت فيها الأفكار التي تعبر عن نفسها مباشرة في نشاطاتنا.
لكن الزمن يعمل: في ذاتيتنا، في عقلانيتنا، فَتَعْفو به القسمات البارزة لتلك القوالب كما تنمحي بالزمن أحرف مطبعة أو مَسْبَكٍ.
وقد نصل إلى أن نستخرج الأشكال من تلك القوالب ولا نرى فيها غير صورة باهتة للنماذج المثالية فالأفكار الموضوعة قد خانت الأفكار المطبوعة في القوالب الأساسية.
= غير أنه حينما تعرضت روسيا للخطر عبر الغزو النابليوني الهتلري (1941) فإن الأبطال استعادوا في ذاكرتهم صوت مواطنهم القيصر الأمين على الاستقلال وعظمة الدولة.
2 -
بطرس الأكبر، قصير روسيا قد طبع بشخصيته وأعماله تاريخ روسيا أكثر من أي حاكم آخر. ففي عهده خرجت روسيا من العصر الوسيط، واتخذت موقعاً لها بين الدول الحديثة في أوربة.
3 -
امتاز عهده بالحروب إذ أنشأ قوةً عسكرية جديدة فقد كتب مرة في التعليمات الصادرة إلى رجال البحرية (1702) عقب هزيمته أمام السويد ((إن حاكماً لن تكون له يدان ما لم يكن لديه جيش برّي وأسطول بحري)).
4 -
واستناداً إلى الحاجات التي اقتضتها القوة العسكرية فقد واجهت روسيا تطورًا صناعياً افتتح مرحلة جديدة من التاريخ الاقتصادي لروسيا؛ إذ كانت من قبل خاضعة للسويد في تزويدها بالسلاح. وهكذا اكتسبت روسيا في هذا الإطار استقلالاً اقتضاها الولوج بالخطة المنهجية للقيصر إلى المركنتيلية الأوروبية التي برزت، خاصة مع كولبير في القرن السادس عشر. مستحدثاً بذلك مفهوم الدولة المتدخلة في القطاع الاقتصادي لمواجهة الضرورات.
فمنذ عام (1697) أمر بإنشاء مصنع لصهر المعادن، وآخر لصناعة المدافع في (الأورال) الغنية بالحديد والغابات لكنها البعيدة جداً، والخالية من الحياة حيث تجارب تركيب المصنع أخفقت لكن بالإرادة الصلبة استطاع في النهاية أن يجعل من منطقة الأورال نواة بناء الصناعة.
وقد اعتبر قياصرة روسيا فيها بعد امتداداً لعصر بطرس الأكبر إلى أن أطاحت الثورة البلشفية (1917) م بعلم القياصرة: مقتبسٌ من ( Encyclopedia universalis) V13 P52.
وهذه الخيانة تتردد أصداؤها في سائر نشاطاتنا وهي تعرضها للانتقام ( nêmêsis)(1) وأحياناً يكون عنيفاً على الصعيد الزمني، فالأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها.
ومن اليسير أن نفهم ذلك على الصعيد التقني، حيث الانتقام فوري إذا ما انفجرت ماكينة سيئة التصميم أو انهار جسر لسوء البناء.
وفي الغالب فالمجتمعات والحضارات تنهار بالطريقة نفسها. وليست كوارث التاريخ في مختلف الأزمان سوى النتيجة التي تكاد تكون فورية لانتقام الأفكار التي خانها أصحابها. فسقوط قرطاجة لخطأ سياسي من مجلس شيوخها هو المثل المأساوي لكنه ليس الوحيد (2).
لابد إذن من احترام علاقات الأفكار بالمقاييس الثابتة للنشاط وإلَاّ باتَ ذلك النشاط عابثاً أو مستحيلاً.
وتقع تلك العلاقات في ثلاث مراتب:
1 -
المرتبة الأخلاقية الإيديولوجية، السياسية بالنسبة لعالم الأشخاص وحتى الفزيولوجي؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار تحسين النسل.
2 -
المرتبة المنطقيَّة الفلسفية، العلمية، بالنسبة لعالم الأفكار.
3 -
المرتبة التقنية، الاقتصادية، الاجتماعية، بالنسبة لعالم الأشياء.
(1)( nêmêsis) آلهة إغريقية تمثل الغضب والانتقام السماوي من نزعة التطرف والتزمت في السلطة والرأي عند البشر.
(2)
تأسست مدينة (قرطاجة) عام (814 - 813) ق. م، وتقع في إفريقية الشمالية، ازدهرت في عهد الملوك المكدونين؛ وبعد انحطاط مدينة صور فحلت مكانها في السيطرة على القسم الغربي من المتوسط (550 - 450). وكانت المركز التجاري والعسكري والديني في العهدين الروماني والمسيحي. وافتتحها العرب عام (698) م.
وحينما يفسد واحد من هذه المفاصل الثلاثة للفكرة بتأثير أي عاملٍ من العوامل فينبغي أن نتوقع رؤية نتائج هذا الفساد في أحكام ونشاطات المجتمع وسلوك أفراده.
هذه النتائج تظهر في أشكال شاذة؛ وغالباً مضحكة. ففي معرض للرسوم الزيتية أقيم في (لوس أنجلوس) سنة (1957) نالت الجائزة الأولى لوحة بعنوان (مقهى لاوس) كانت ببغاء عوراء أنجزتها حين، تركها صاحبها تتخبط بالألوان بالقرب من قماشة الرسم.
لم يكن لهذا الخداع في الإطار الفني الناتج عن العصر السوريالي أن يحدث؛ لو لم تُحَرِّف القوانين الجمالية التي شوهتها السوريالية مقاييسَ الجمال لدى الْمُحلَّفين المشرفين على الجائزة.
لقد تم هنا على الأقل اكتشاف الخدعة بسهولة؛ لأن صاحب اللوحة الذي نال الجائزة هو نفسه صاحب الببغاء وقد اعترف بذلك بعد حين.
وكم من حالاتٍ أخرى لا يكون الاعتراف فيها بالخدعة أو الكشف عنها ممكناً إما بدافع النفاق؛ عندما توجه مصالح دنيئة تخنق الآراء، أو لمجرد افتقاد الإدراك.
ومهما يكن من أمر فإن أي فساد في علاقات الأفكار فيما بينها (مرتبة المنطق الفلفسة
…
إلخ) أو في علاقاتها مع عالم الأشخاص (مرتبة الأيديولوجية - السياسة .. إلخ) أو في علاقاتها مع عالم الأشياء (مرتبة التقنية والاقتصاد
…
إلخ) لابد أن يُوَلِّد اضطراباً، في الحياة الاجتماعية، وشذوذاً في سلوك الأفراد، خصوصاً عندما تصل القطيعة مع النماذج إلى مداها الأقصى، وتصبح قوالب أفكار نا المطبوعة ممسوحةً في ذاتنا، وتصبح أفكار نا الموضوعة والمصبوبة في تلك القوالب لا شكل لها، ولا تماسك فيها، ولا أهمية لها.
هكذا تموت الأفكار تاركة العقول فارغةً وحتى اللغات تستسلم للعجز. ويقع المجتمع في الطفولة. فالطفل دون أفكار يعبر بطريقة بدائية بالحركة أو بالصوت.
والمجتمع الذي يقع في مثل تلك الطفولية يكشف عن ظواهر غريبة من التعويض عن افتقاره إلى الأفكار. إنه محكوم بالتعويض عنها وخاصة في نشاطاته الذهنية ببدائل فكرية.
وتظهر هنا الحركة التي تكمل الجملة الناقصة؛ لأن صاحبها لا يستطيع أن يكملها. فحين لا توجد الأفكار لا توجد الكلمات.
لقد أوضح هذه الحقيقة (بوالو boileau) الناقد الكبير في كتابه (الفن الشعري L'art poetique)(1) .
.......... ما نفهمه جيداً نعبر عنه بوضوح ..........
.......... وتأتي الكلمات لتقوله بسهولة ..........
فعدم التماسك تبدو علاماته حينما تنعدم الأفكار. حينئذ يأتي الصوت ليعلو كيما يحلّ محل حجة افتقدت.
ويبرز التصنع البلاغي في الأدب: الإفراط في أدوات التفضيل، التشدّق بالأوصاف، مثل عبارة (الشعب البطل) في دستورٍ لإحدى البلاد العربية، وكما وردت في إحدى صحف الدوله ذاتها صورة شخصٍ لا ندري كيف اندسَّ في الثورة الجزائرية، وتحتها العبارة العجيبة التالية:(أحد عمالقة الثورة).
(1)(نيقولا بوالو N. boileau) ل (1636 - 1711) من الكتاب الكلاسيكيين ناقدٌ فرنسيٌ كبير، عاصر لويس الرابع عشر وكبار الكتاب والفنانين الكلاسيكيين، ويعتبر مُنظِّر الحركة الكلاسيكية في فرنسا بفضل كتابه الشهير (الفن الشعري L'art poetique) ، (1674) ، ومنه يلخص (بوالو) بعباراتٍ بليغةٍ ومجازٍ رائعٍ النظرية الكلاسيكية، وكانت آنذاك في أوجها.
إنها حجة الإثارة أن يقال إنه أمر خطير جداً، بدلاً من أن تعطي مجرد فكرة محددة عن الموقف.
إنه المبالغة في التهويل أوالتهوين بأن يقال: ((كل الدنيا تعْلَم بذلك)) لتأييد رأي، أو ((لا أحد يصدق ذلك)) للانتقاص من قيمة رأي.
والخلاصة إنه حشو حيث كل كلمة تلقي ظلالاً من الغموض على الموضوع بدلاً من أن تجليه. فعندما يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار تظهر علاماتهما في أبسط الأعمال.
فنقرأ مثلاً في إحدى دور السينما في عاصمة عربية عنوان فيلم (حيرة وشباب)، بينما كان الأكثر ملاءمة أن يقال:(شباب وحيرة).
إنني على يقين بأن مؤلف قصة الفيلم لم يقف لحظةً واحدةً عند مسألة الترتيب الطبيعي للأفكار، حتى في مجرد عنوان فيلم.
وعندما يمس انعدام التماسك في عالم الأفكار العلاقات المنطقية، يجب أن نتوقع سائر أنواع اللبس في العقول التي لا تستطيع- في ميدان السياسة مثلاً- أن تميز بين الأسباب والمسبَّبات.
هكذا طرح المجتمع الإسلامي مسألة الاستعمار وأهمل القابلية للاستعمار.