الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس عشر
الأفكار الميِّتة والأفكار الْمُمِيتة
• الأفكار الميتة نتاج إرثنا الاجتماعي تولّد قابلية الاستعمار.
• الأفكار المميتة مستعارة من الغرب تولّد الاستعمار.
• النخبة المسلمة تختار الأفكار المميتة في الثفافة الغربية.
• مقارنة بين المجتمع الإسلامي المعاصر واليابان.
ــ
مر بباريس يوماً أكبر شعراء العصر الحديث عبقرية: فألهمته مدينة الأنوار قصيدةً تغنت ببهائها.
ولم يكن شوقي الخالد يظن أنه حين يترك للأجيال واحدةً من أروع قصائده؛ إنما يعطي ذريعةً سيستغلّها ضدّه بعد وفاته بعضُ هواة الأصولية المتنطّعين.
بالنسبة لهؤلاء الناس؛ الذين يبدون الاهتمام بالأصولية في عالمنا الثقافي ينبغي أن نسدّ منافذ هذا العالم لنحمي أنفسنا من العدوى.
وعلينا أن نراقب في نظرهم، لا بل أن نحبس تنفسنا الفكري وأن نضع في النهاية على أذهاننا أقنعة واقية كيما نتجنّب أية عدوى محتملة.
لقد فكر (ماك كارثي)(1) بتنظيم التنفس الفكري في بلاده فاتهمه الرأي العام العالمي بأنه عجوز خبيث.
ولكن حين يتعلق الأمر برجل شريفٍ ولطيفٍ جداً يكرس وقته لتربية أبنائنا بأفضل ما يمكن من النزاهة؛ فلا يمكن أن نبخس قيمة آرائه الشخصية، ولا أن نضعها بلا قيد ولا شرط في عداد (الديماغوجيّة).
فقد استمعت مرة إلى (زيتوني) أعلم أن رأيه في شوقي لم يكن رأيه الشخصي ولكنه الرأي الذي تكون في عالم ثقافي تجاورت في داخله أفكار ٌ منسلخة عن جذورها، وهي بالتالي ميتة، مع أفكار أخرى استوردت بصورة سيئة من الخارج من عالم ثقافي آخر تركت جذورها فيه فأضحت لذلك مميتة.
ما هو خطأ شوقي الكبير في نظر هذا المستعمَر والقابل للاستعمار الرفيع؟ خطؤه كما يقول خريج (جامعة الزيتونة) هو تمجيده الأثر المفسد لتلك الثقافة الغربية التي ربطت (90%) من النخبة المسلمة بإدراك منهم أو بغير إدراك في خدمة الاستعمار.
إن خطر هذا التأكيد يبرز في أن المظاهر تؤيده. إنما الذي يهمنا من ذلك كله الواقع المرضي الذي يكمن وراء هذا التأكيد وتلك المظاهر. إنها الأفكار الميتة التي نتجت عن إرثنا الاجتماعي قد تجاورت مع الأفكار الْمُميتة المستعارة من الغرب.
(1)(ماك كرثي Joseph Raymoud Mac Carthy) : رجل سياسة أميركي (1908 - 1957 م). كان عضو مجلس الشيوخ (1946). وكان ينتمي إلى حزب الجمهوريين. عُرف بالحرب الشعواء التي شنها ضدّ الشيوعيين، وضدّ عددٍ من الشخصيات السياسية والفكرية؛ التي نعتها بالميل إلى الشيوعية. ولكن (الماكارثية) ما لبثت أن شجبها الحزب الجمهوري، ومالبث مجلس الشيوخ أن وبّخ (ماك كارثي) على سلوكه.
ويمكن لنا أن نرى هنا- على صعيد آخر هو صعيد الأفكار - مظهرَيْ المأساة الاستعمارية وهما: القابلية للاستعمار، والاستعمار، مترجمين في تعبير ثقافي.
بيد أنه إذا كان يجب علينا بكل حال التمييز بينهما، فإن (الأفكار الميتة) - التي خلفها لنا مجتمع ما بعد الموحدين- تبدو أشد فتكاً.
ومن أجل أن نقتنع بهذه الحقيقة ينبغي أن نلقي بنظرة على الميزانية التاريخية للأفكار التي قتلت مجتمع ما بعد الموحدين، والتي تشكل أيضاً (الديون) التي تخلفت عن عصر نهضة المجتمع الإسلامي، وهو لم يتخلص منها بعد على ما يبدو.
ومن الواضح أن تلك الأفكار لم تر النور في باريس، ولندن، وعلى مدرجات السوربون، أو أكسفورد؛ ولكن في فاس، والجزائر، وتونس، والقاهرة.
لقد وُلدت في ظل مآذن القيروان والزيتونة والأزهر خلال قرون ما بعد الموحدين، وإذا هي لم يُقْضَ عليها بجهدٍ منظّم فإن جرثومتها الوراثية تلغم البنية الإسلامية من الداخل تخدع حوافزها الدفاعية.
ينبغي أن ننقل هنا فكر (باستور) ومناهجه إلى الصعيد التربوي؛ من أجل أن نحيط بهذا المظهر المرضي في الثقافة المعاصرة للعالم الإسلامي، وإلا فإن الأفكار الميتة ستواصل عملها على الصعيد الاجتماعي والسياسي؛ كما حدث في عهد (مصدق الشجاع) الذي قضي على نظامه بهذا العمل الهدام.
لقد كان الكاشاني فكرةً ميتة، والجرثومة الداخلية التي أتلفت التجربة التي ارتفعت لفترةٍ في أفق الشعب الإيراني.
وإنه لذو مغزى أن (مصدق) لم ينهزم في النهاية على يد الاستعمار الذي
يشار إليه عادةً بهذا الاسم، والذي تجسده أقوى اتحاد احتكاري لشركات البترول، بل على يد قابلية الاستعمار التي كانت تتحرك في شخص الكاشاني وباسم الله.
ولكن ما أن نبدأ بمعالجة الأفكار الميتة التي لم يعد لها جذورٌ في بوتقة الثقافة الأصيلة للعالم الإسلامي؛ حتى نصطدم بالأفكار المميتة التي خلفت في عالمها الثقافي الأصلي جذورها ووفدت إلى عالمنا.
وأحياناً يجسّد الأشخاص أنفسم ظاهرتي هذه المشكلة، فالفيروس الوراثي فيهم يمتص- إذا صح القول- الميكروب الخارجي الوافد إليه. أي أن الفكرة الميتة التي يحملها تنادي وتستدعي الفكرة المميتة التي تلقاها المجتمع الإسلامي.
لقد كان من الصعب إقناع الناقد المحترم لشوقي بالرابط الكامن والمستقر ( ontologique) بين هذين المظهرين المرضيّين. بمعنى أن فكر ما بعد الموحّدين هو الذي ينضحُ الأفكار الميتة من جهةٍ، ويمتص الأفكار المميتة من جهة أخرى.
وتطرح ظاهرة الترابط المزدوجة هذه في وجهها الثاني مشكلةً علينا أن نتجنّب طرحها بشكلٍ معكوس. إذ ليس المقصود في الواقع أن نتساءل لماذا توجد عناصر مميتة في الثقافة الغربية، ولكن لماذا تذهب النخبة المسلمة بالضبط للبحث هناك عن هذه العناصر؟. هذه هي المشكلة التي يتوجب طرحها.
ذلك أن ما يحدد (خيار) هذه النخبة في الواقع ليس مضمون الثقافة الغربية، بل مضمون الوعي في عالم ما بعد الموحدين الذي حدّد (خياراً) لهذه النخبة بإرادة منها، أو بغير إرادة.
فهناك خيار في الواقع لأن العالم الثقافي الغربي ليس كله مميتاً. إذ أنه ما يزال يبعث الحياة في حضارة تنظم حتى الآن مصير العالم.
وليس العنصر المميت الذي نصادفه في ذلك الوسط الثقافي إلا نوعاً من النفايات، الجزء الميّت من تلك الحضارة.
وإذا كان وعي عصر ما بعد الموحدين يذهب ليلتقط من العواصم الغربية تلك النفايات بالذات فينبغي ألا يلوم أحداً غيره.
ينبغي أن نأخذ باعتبارنا نتيجة هذه النفايات؛ حينما يتم توليفها في العصارة الثقافية للمجتمع الذي يمتصها.
والنتيجة إذن بكل تأكيد تعفن، إذا رأته العقول السطحية في بلادنا فإنها تخلط بينه وبين الثقافة الغربية.
وينتج الالتباس في هذه النقطة من موقفنا من الثقافة بوجهٍ عام، وبالتالي من موقعنا من ثقافة أوربة بشكل خاص. ومن الواضح أنه إذا كانت الأفكار التي تستورد من الخارج هي أيضاً مميتة في وسطها الأصلي؛ فإنها ستلعب في مجتمعنا الدور نفسه وتعطي النتائج نفسها على الصعيد الاجتماعي، أي مجرد فساد، إذ يجب الإقرار بأن هناك في الوقت نفسه أشياء أخرى في الحضارة، هي أجزاؤها السليمة والقوية التي تمنحها القوة رغم كل شيء.
ويزداد هذا التناقض وضوحاً عندما نعقد بعض المقارنات. فعلى الصعيد الفردي يوجد- مثلاً- فكر إقبال الذي يجعل من ثقافته شغفاً، والذي يستحق الاحترام على الأقل؛ لتجرده، كما يوجد من ناحية أخرى قافلة من المثقفين يشكلون بوعيٍ أو بغير وعي في بلادهم الطوابير الخامسة لثقافة بل لسياسة أجنبية.
هذا الفارق الفردي يكمن في كون إقبال- بجهدٍ شخصي، أو لصدفةٍ استثنائية استطاع أن يقضي على مخزون الأفكار الميتة التي وجدها في بيئته عند ولادته.
ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص أن نجد في عمله الاهتمام بتجديد أفكار بيئته عبر كتابه الذي ترك ثمرته للأجيال ((إعادة بناء الفكر الإسلامي)).
لكن الذي هو أكثر دلالة هو المقارنة بين فئتين متميِّزتين من تلاميذ الثقافة الغربية، فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي معاصرةً لانطلاقة أخرى في اليابان. فالمجتمعان قد تتلمذا سوية حوالي عام (1860) في مدرسة الحضارة الغربية.
واليوم ها هي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم، (فالأفكار الْمُميتة) في الغرب لم تصرفها عن طريقها. فقد بقيت وفيةً لثقافتها، لتقاليدها، لماضيها.
ففي عام (1945)، وفي المرحلة الأكثر تعاسةً والأكثر مجداً من الحرب العالمية الثانية أثبت الطيار الانتحاري (كاميكازي)(1) للعالم أن روح (الساموراي)(2) لم تمت.
بينما المجتمع الإسلامي وبالرغم من الجهود الحميدة التي خصه بها التاريخ تحت اسم (النهضة)؛ فإنه بعد قرنٍ من الزمان ليس غير مجتمع ذي نموذج متخلف.
والواضح في النتيجة أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها.
(1)(كاميكازي): الطائرات الانتحارية التي ملئت بالمتفجرات في الحرب العالمية الثانية وانقض بها الطيارون اليابان على الاسطول الأميركي وأصل الكلمة ( Kami) باليابانية وهو اسم خاص يمنح لمن يملكون قوى غير عادية في اليابان القديمة.
(2)
(الساموراي). طبقةٌ من المحاربين اليابانيين. انتشرت ابتداءً من القرن الثاني عشر، وتطورت عبر العصور في نظامٍ صارم لشرف المحارب. أُلغيت رسمياً كطبقة سنة (1878)، ولكن روح الساموراي لا يزال يبعث الحماس في النفوس والفنون والآداب.
فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح.
وكالا الطالبين: المجد والسائح؛ لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتقطر فيها أو تلقى فيها نفاياتها.
يذهبان إلى حيث لا يجدان: حياتها، حرارتها، حقيقتها المتجسّدة في الفلاّح والحرفي والفنان والعالم، هذا الحشد من الرجال والنساء الذين يصنعون كل يومٍ في مدنهم وفي قراهم مجدها اليومي.
هذا الوجه الأساسي قد أفلت منا سحابة أجيال لأن (الأفكار الميتة) وعصر ما بعد الموحدين قد وضعا لأعيننا ما يوضع للفَرس من كمامات تمنع من إجالة الرؤية؛ فلم يستبن لنا شيءٌ آخر غير التافه والمجرد، وحتى المميت.
والآن نستطيع أن نرى بوضوح أكبر الجدل الذي نشب بين شوقي ومعارضيه، حسبها تكون إشارة الشاعر الكبير قد استلهمت الأفكار المميتة، أو أن رأي خصومه قد استلهم أفكارهم الميتة. وحينئذ سنعلم من هو المخطئ منهم ومن هو المصيب.
على كل حالٍ؛ ففي اللقاء الذي أثار هذه المناقشة قبل عشرين عاماً بين العالم الزيتوني وبيني اتفق وجود عاملٍ جزائري بسيط في باريس، قد حمل إلينا بتواضعه الذي يشرِّف الرجل الشعبي الكلمة التي حسمت المشكلة بسرعةٍ حين قال:((أعتقد أن القصة هي ذاتها قصة التطعيم الزراعي: لا يحمل الطعم (إذا حمل) ثمار الأرومة التي وضع فيها بل ثمار أرومته الأم)).
ليس بالإمكان أن نوضح مشكلة الوراثة في ميدان الأفكار بأفضل من ذلك.