الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع عشر
انتقام الأفكار المخذولة
• الأمراض التي تصيب حياة المجتمع: عامل العدوى فيها.
• أسباب المرض: المؤسسات التي لا تقوم على الأفكار محكومٌ عليها بالزوال.
• التحوّلات في المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم.
ــ
فكرةٌ ميتة: هي الفكرة التي بها خذلت الأصول، فكرةٌ انحرفت عن مثلها الأعلى؛ ولذا ليس لها جذورٌ في العصارة الثقافية الأصلية.
وفكرة مُميتة: هي الفكرة التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي.
وفي هذه وفي تلك خيانة أفكار تجعلها سلبيةً أو ضارة. هذا التنكر ليس خاصاً بالمجتمع الإسلامي، فالعوامل النفسية الاجتماعية نفسها أنتجت الآثار المعوّقة في مجتعاتٍ أخرى وعصور سالفة.
ويبدو أن الاحتياط من مثل تلك المؤثرات؛ حتى لا تتسلّل خفية إلى مجتمعٍ ما يزال في أوج قوته هو الذي دفع (سقراط) لانتقاد ما يسميه (أكلة الأفكار idéophages).
لكن ما أضافه التاريخ على حكمة (سقراط): هو أن الأفكار المقتولة، الأفكار المخذولة تنتقم انتقاماً مخيفاً.
إننا نعلم منذ اكتشافات (باستور Pasteur) في فرنسا، و (كوخ Kokh) في ألمانيا أن الأمراض المسمّاة (معدية) تنتقل من شخصٍ إلى آخر عبر جُسيمات بدائيةٍ هي الجراثيم.
بيد أن تاريخ البشرية الموغل في القدم يضعنا أمام نوع آخر من الأمراض يصيب المؤسسات والتنظيمات وحياة المجتمع، وفي هذه المرة فالعدوى تنتقل من جيل إلى آخر.
وهذه مشكلةٌ جديدة تلزمنا بطرح السؤال التالي: ما هو العامل الذي ينقل المرض العضوي؟، وإذا أردنا المتابعة عبر هذه المقارنة علينا أن نتبنى منهجية الطب في علم الأمراض؛ عندما يدرس قصور الوظائف الفيزيولوجية.
لا بد أن نعقد فصلاً خاصاً للأمراض الاجتماعية يعالج القصور الذي يصيب الأنظمة الاجتماعية والمؤسسات العامة؛ كما تعالج في الطب الأمراض العضوية.
بيد أن المقارنة لا يمكن لها أن تذهب بعيداً حتى لا نسترسل، كالفيلسوف القديم في التجسيم وخلع الخصائص البشرية على هيكلية المجتمع.
ويمكننا أن نتساءل عما إذا كانت جرثومة المرض التي تهاجم المؤسسات وتقضي عليها في النهاية تنشأ مباشرةً في المؤسسة، أم تنتقل إليها عبر نوع من التناضح يرشح كل منهما على الآخر انطلاقاً من بؤرةٍ للعدوى.
إن طريقة حصر أسباب المرض: هي التي تسمح لنا بوضع المشكلة التي نحاول طرحها في موضعها الصحيح.
لقد كانت (جمهورية روما) مؤسسةً قديمة ونبيلة. وقد اتخذت (روما)
احتياطات تضع مؤسساتها بنجوةٍ من ضربة ينزلها بها قادتها المنتصرون.
فهؤلاء حين عودتهم من ساحة المعركة لا يحق لهم تجاوز نهو (الروبيكون Rubicon)(1) دون إذنٍ من مجلس الشيوخ.
وعلى الرغم من تلك الإجراءات الوقائية فقد قضي على جمهوريتها في اليوم الذي عبر فيه (يوليوس قيصر) نهر (الروبيكون) ودخل (روما)، دون إذنٍ من (كاتون)(2) وأعضاء مجلسه.
ويمكن لنا أن نقدّم افتراضاتٍ عدة لتفسير هذا الحدث من وجهة النظر الاجتماعية. فهناك مؤسساتٌ تشيخ وتموت ميتة طبيعية. فلو لم يُلْغَ الرق على يد رجال القرن التاسع عشر لقتلته آلات القرن العشرين. ومن الجدير بالذكر أن نلاحظ بأن تلك النهاية قد حدثت في مجال الأفكار قبل أن تحدث في مجال الأشياء. فهناك إذن قرينة يمكن إجمالها بما يلي: إن المؤسسات التي لا تجد سندها في الأفكار تبدو محكوماً عليها بالفناء.
هذا ليس برهاناً بل هو مجرد قرينةٍ تفتح الباب للبحث والتقصي. فهناك مؤسسات كالزواج لا تشيخ أبداً. فإذا أُلغي الزواج في مجتمع من المجتمعات، فهذا
(1)(الروبيكون Rubicon) نهر يقع شمال إيطاليا. كان يُحظَّر في عهد الرومان على أي قائدٍ أن يجتازه بسلاحه دون أمرٍ من مجلس الشيوخ. وفي سنة (50 ق. م) - خرق (يوليس قيصر) هذا القانون، وعبر (الروبيكون) وسار إلى روما على رأس جيشه، معلناً بذلك الحرب الأهلية ضدّ (بومباي Pompée) تلك الحرب التي دامت أربع سنوات وانتهت بانتصاره وتنصيبه سيّد الإمبراطورية.
(2)
(كاتون Caton) رجل سياسة روماني (93 - 46 ق. م) كان من كبار المدافعين عن (الجمهورية). وقف ضدّ (يوليس قيصر)، وساند (بومباي) في حربه ضدّ هذا الأخير. انتحر سنة (46 ق. م). عندما علم أن النظام الجمهوري في روما انتهى بانتصار (يوليس قيصر).
لا يعني أن المؤسسة شاخت بل أن المجتمع مريض. وأصل الداء في هذه الحالة ينحصر في العالم الثقافي.
ففي بعض بلاد أوربة الشمالية تميل الأزمة الثقافية التي أنتجت الهِبِّيَّة إلى استبدال الزواج التقليدي بالاقتران الحر أو باقترانٍ أكثر تعقيداً أو أكثر شذوذاً؛ كالاقتران بين جنس واحد.
فهذه تحولاتٌ في الإطار النفسي تقود إلى أديم الحياة الاجتماعية، تحولات اقتصادية وسياسية. ذلك أن العامل النفسي يسبق العامل الاجتماعي ويتحكم به. فكيفما تناولنا الموضوع نقع دائماً على المبدأ الذي يعبر عنه القرآن الكريم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11].
فالآية الكريمة تحوي في طياتها سائر النتائج التي يمكن أن نستخرجها من انتقام الأفكار المخذولة.
فليس (يوليوس قيصر) هو الذي قتل (جمهورية روما)، فموتها كان نتيجة التحولات الخفية التي طرأت على الروح الرومانية، وإنه لذو مغزى في هذا الخصوص أن موت (يوليوس قيصر) مطعوناً بيد (بروتس) والمشتركين معه في المؤامرة لم يُعِد جمهورية روما إلى الوجود.
والجمهورية لم تمت في (أثينا) بسبب (يوليوس قيصر)، بل في أعقاب التحوّلات النفسيّة ذاتها التي قادت إلى موتها في (روما).
فالتحوّلات النفسيّة التي تدخل في الاطراد وتصبح بادية في المستوى الاجتماعي والسياسي تنشأ في مستوى الدوافع التي تتحكم في السلوك.
وهذا ما نلاحظه بوضوح تام في السيرة التي قادت المجتمع الإسلامي بعد عام (38) للهجرة نحو أفول الروح الديمقراطية.
ومما يسجل أعراض هذا التحول ذلك الفتور الذي فصم روح التراحم في قلب عقيل؛ أخي علي كرّم الله وجهه، في صراع هذا الأخير مع معاوية. وقد فسّر سلوكه الغريب بطريقة أغرب حينما قال:((إن صلاتي خلف علي لأفضل، وطعامي عند معاوية أكثر لذة)).
ونحن نرى هنا انفصاماً في الدافع الذاتي الذي حرّك الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الانفصام سيكون أكثر وضوحاً بعد مرور عشرين عاماً أي عندما رضخ الحسين لإلحاح أهل الكوفة مناصري والده القدامى؛ فخرج من المدينة. وحاول ابن عباس ابن عمه الذي رافقه شطراً من الطريق أن يثنيه عن عزمه بقوله: ((هؤلاء الناس سيخذلونك كما خذلوا أباك، لا تصدّقهم فإن قلوبم معك وسيوفهم مع يزيد)).
هذا التوضيح عبر شاهد من ذلك العصر موضوعي النظرة، وشهادته أثبت التاريخ صدق أحداثها واحدة واحدة، تُعطينا اليوم سرّ ذلك الانفصام في الدافع.
إنه يُنبئ عن ثنائية قسمت المسلم قسمين: صلاته من ناحية، وطعامه من ناحية أخرى، قلبه من ناحية، وسيفه من ناحيةٍ أخرى.
لم نكن إذ ذاك إلا في منطلق اطراد المنحدر، إنما في الحالتين اللتين أشرنا إليهما نستطيع أن نقيس الابتعاد عن المبدأ الذي أقرّه القرآن الكريم {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 6/ 162].
فالانطلاق من هذه الآية هو إذن انطلاقٌ من مبدأ، فكرة، نموذج لعالم ثقافيّ تأسس بالقرآن، وقد بدأنا نسجل منزلقاته الأولى و (انحرافاته) الأولى - كما يقال اليوم- في سلوك المسلم.
ونحن نعلم إذن أنه إذا كنّا نحاكم انعدام فعالية ما في سلوك المسلم؛ كما في الحالتين التاريخيتين اللتين أشرنا إليهما- فإن علينا أن نحاذر وضع ذلك كلّه في حساب الإسلام.
مع أن هذا هو الخطأ الأكثر شيوعاً عند المستشرقين وعلماء الاجتماع الغربيين الذين يدرسون العالم الإسلامي المعاصر (1).
ومهما يكن من أمر فإذا سلمنا بأن كل عمل يخضع لنظام الأفكار في دوافعه كما في وسائله العلمية، فإنه من الجدير بالملاحظة بأنه لكي يكون للنشاط الاجتماعي أرضيّة فكرية فإن الفكرة هنا لا تكون في حالتها الصافية، بل في حالة تندمج فيها بالسلوك أي في تلك الحالة التي نفسرها بها ونفهمها ونتحمّلها.
وعندما نضع حساب ميزان القصور والفعالية في مجتمع؛ فإننا نضع بصورة أساسية حساب ميزان النتائج الإيجابية (لعالم الأفكار) فيه في حالته الراهنة.
ونحن نعلم من ناحية أخرى بأن خيانة الأفكار المندمجة في السلوك وابتعاد الأفكار المتداولة عن الأفكار الأساسية: هما الأداتان اللتان نقيس بهما انعدام فعالية مجتمع تسلّلت من جيل إلى جيل؛ عبر سلوك ما وعُقد معينة.
فالمحاكاة في السلوك تجد طريقها عبر الأفكار. أما جانبها المرضي؛ فإنها العدوى الاجتماعية التي تنتقل من جيل إلى آخر عبر امتصاص هذه الأفكار حين تنفصل عن نماذجها في عالمها الثقافي الأصلي. إذ تصبح هذه الأفكار حينئذ الجراثيم التي تنقل الأمراض الاجتماعية.
(1) لقد رددت الصحيفة القاهرية "الأخبار اليوم" في عددها الصادر في: 2/ 1/ 1960 - حكماً غريباً صدر عن علماء اجتاع أميركيين مفاده أن: "الفاعليّة تطوّرت حيث يوجد الفكر المسيحي واليهودي فقط، في حين نمت اللافاعليّة حيث يوجد الفكر الإسلامي "وهذا الحكم بالإضافة إلى ذلك خطأ تاريخي.
وفكرة تحمل هذه الصفة: هي دائماً فكرة خانت نماذجها المثالية. ويرتد المرض على المجتمع الذي يتحمل نتائج كلّ انحراف يمسّ عالمه الثقافي. وأحياناً تُحدث الفكرة المخذولة ردة فعلها في نهاية الأمر عندما يُكتشف زيفُها.
ففي اليوم الذي أغرق فيه عمر بن الخطاب بالضحك حينما برّحه الجوع؛ فالتهم صنمه الذي صنعه من السكر، كان ذلك إشارة إلى أن عالمه الثقافي الجاهلي قد أضحى في خطر. والواقع أنه كان يتحتم على نماذجه المثالية أن تسرع إلى نهايتها مع أصنام الكعبة يوم فتح مكة في السنة السادسة للهجرة، ليحلّ محلها عالمٌ ثقافيٌّ جديد ومجتمع جديد. إن التنكر لنموذج مثاليٍّ يمكن له أن يتخذ دلالةً أخرى، وأن تكون له نتائج أكثر خطورة على المجتمع.
والخطورة الأشدّ لهذا التنكر في نتائجه يمكن أن تكون في عالمنا الثقافي الأساسي، أو في عالم ثقافي آخر استعيرت منه الفكرة المخذولة.
والمجتمع الإسلامي هو بالتحديد، في هذه اللحظة، في مواجهة المشكلة في وجهيها، إنه يعاني من انتقام النماذج المثالية لعالمه الثقافي الخاص به من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى لانتقام رهيب تصبه الأفكار التي استعارها من أوربة؛ دون أن يراعي الشروط التي تحفط قيمتها الاجتماعية، وقد أورث ذلك تدهوراً في قيمة الأفكار الموروثة، وتدهوراً في قيمة الأفكار المكتَسبة، وقد حملا أفدح الضرر في نموّ العالم الإسلامي أخلاقياً ومادياً.
وإن هذه هي النتائج الاجتماعية لذلك التدهور والتي نصادفها يومياً في صورة غياب لكل فعالية، وقصور في مختلف أنشطتنا الاجتماعية.
فمن ناحية فإنّ الأفكار التي أثبتت فعاليتها في بناء الحضارة الإسلامية منذ ألف عام تبدو اليوم عديمة الفعالية؛ لقد فقدت التصاقها بالواقع.
ومن ناحية أخرى فإن أفكار أوربة التي شيّدت النظام الذي نسميه الحضارة الأوربية فقدت بدورها الفعالية في العالم الإسلامي المعاصر.
فسلوكنا اليوم يرتبط بتنكر مزدوج. فالمسلم فقد الاتصال بالنماذج المثالية لعالمه الثقافي الأصلي. وهو لم ينشئ كما فعلت اليابان الاتصال الحقيقي بالعالم الثقافي الخاص بأوربة.
ونحن اليوم نقاسي هذا التدهور المزدوج، فالأفكار المخذولة في هذا الجانب أو ذاك لها انتقامٌ رهيب.
وإنّ انتقامها المحتوم هو ما نعاني نتائجه اليوم.