الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر
الأفكار والاطِّراد الثوري
• الثورة مفجِّر، لكن تحرك القوى بعد إطلاقها ليس كل شيء.
• الثورة في العالم الإسلامي.
• الزعيم في العالم الإسلامي.
• لا مجال للنقد في الحياة السياسية في العالم الإسلامي.
• النزعة الذريّة.
ــ
حينما يتجاوز مجتمع درجة التحمل؛ فالثورة هي (الْمُفَجِّرُ) الأكثر دلالةً في وضع النار على البارود؛ لتحرك عجلة المجتمع نحو قدره، ولكن هل إن دفع القوى بعد إطلاقها نحو طريقها هو كل شيء؟
إن تاريخ الثورات في العالم يظهر كم أن مصيرها هشٌ؛ وغير مؤكد بعد انطلاقها.
إن العالم الإسلامي قد عرف تجارب ثورية قبل وأثناء مرحلة التحرر من الاستعمار، وهو يعيش اليوم الثورة الفلسطينية، ويكفي أن نتذكر بأن لها رؤوساً عديدة حتى ندرك بأننا لا نملك بعد وسائل الرقابة التي تحمينا من أخطاء محاكمتنا للأمور في هذا المجال.
فالظاهرة الثورية لم تخضع بعد لعلمٍ معياريٍّ يضع اطرادها تحت رقابة دقيقة.
ويرجع الفضل للفكر الماركسي، خصوصاً مع نضجه في بكين، في طريقة للتحليل تسمح وإلى حد ما برقابة لاحقة مبنية على التجربة، رقابة هي بالإجمال معدة لكشف الأخطاء ومعالجتها بعد وقوعها، لكنها ليست جهاز إنذارٍ يلفت انتباه قوى الدفاع الجاهزة فوراً؛ حينما تلوح في الأفق بادرة خطأ.
لقد حلل (ماركس)(1) أخطاء (كومون باربس) حتى لا تتكرر في اطرادٍ ثوريٍّ آخر، وإذا ما تكررت في حركات ثورية أخرى فليس هنالك غير العملية الساخنة التي سميت (الثورة الثقافية).
ومع ذلك فإن أي بلد إسلامي؛ حتى التي تُدعى ثورية لم تفتح بعدُ باب المناقشة حول هذه الأمور، كأنما الأمور تسير على خير ما يرام في أفضل مكان في العالم.
فقد يحدث في أكثر من بلد إسلامي: أن تجد البلادُ نفسها بعد الثورة في الوضع السابق على الثورة، بل ربما أكثر خطورةً، بل إنها قد تجد نفسها من جديد في ظل إيديولوجيا يسقط من أجلها الأبطال، ولا يتعرفون على الأفكار التي من أجلها سقطوا. كما لو كانت عجلة الثورة وأفكار ها تدور أثناء الثورة اعتباراً من لحظة معينةٍ نحو الوراء.
والغريب في هذه الأوضاع أنها تنمو وتتقدم حتى نهاية الثورة؛ دون أن يُلحظ في الظاهر أي انقلاب في القيم.
(1)(كارل ماركس karl marx) : (1818 - 1883) فيلسوفٌ وعالم اقتصاد ألماني. له بالغ الأثر في التيارات الفكرية والسياسية المعاصرة. له العديد من المؤلفات، منها " الحرب الأهلية في فرنسا في عام 1871 "، وهو دراسةٌ يحاول الكاتب فيها أن يحلّل (كومون باريس la commune de paris) ، أي الحكومة الثورية التي حكمت باريس منذ اندلاع الثورة الفرنسية سنة (1789) وحتى سنة (1795).
بل إن ما هو غير طبيعي كذلك أنه عندما يبدأ الناس في إدراك ما يحدث، بعد أن تكون الثورة قد انتهت ينبري حكماء يعتقدون بأن هذه الأوضاع ستصفى وتنطفي تلقائياً قائلين بأنه: يجب أن نتركها للزمن يعيدها لمسارها.
وإنني أتساءل كيف لهؤلاء ((البراجماتيين)) في نظرهم أن يتصوروا تلاشي وانطفاء ظاهرة المهندسين تلقائياً في داخل الثورة الفلسطينية؛ بينما يبدو بجلاء منذ الآن أنها لن تتلاشى قبل أن تزهق روح الثورة.
هذه الأوضاع الثورية غير الطبيعية تبقي المشكلات مطروحةً، ولا يبدو لي أن التقنية الماركسية التقليدية تستطيع حلها.
فماركس إذا كان قد حلل هذه الأوضاع فقد فعل ذلك مستنداً على المنطق الجدلي؛ الذي يحتوي على سائر العناصر التي تشكل جزءاً من العالم الثقافي نفسه، أي عالمه هو.
بينما يحدث في البلاد المستعمرة، أو التي كانت مستعمرة قبلاً، أن تكون هذه الأوضاع هي النتاج المركب لجدليةٍ تقع في صلب العالم الثقافي الأصلي من جهة، ومن جهة أخرى بينها وبين عالم ثقافي آخر هو العالم الثقافي الاستعماري؛ كما ينشأ بين مولد يَحُثُّ والطاقة الْمُسْتَحثّة ظاهرة انتقال التيار الكهربائي.
فالفكر الماركسي قد نشأ في مناخٍ ثقافي تسير فيه الفكرة من تلقاء نفسها دون أن تستند على عكازين، بينما في المجتمع الإسلامي في مرحلة ما بعد الموحدين تستند الفكرة بصفة عامة على شيء أو على شخص؛ لكي تثبت صلاحيتها.
لقد كانت الأوضاع الثورية الشاذة في عصر (كارل ماركس) ومحيطه في بيئةٍ غير معقدة، بمعنى أنه كان على الفكرة الثورية أن تواجه أفكار اً من البيئة نفسها، ومن عالمها الثقافي نفسه. وفي هذه الحالة يمكن للتحليل أن يسيطر
بسهولة على أخطاء برزت مباشرة في هذا العالم الذي هو نفسه مُولِّدُ أفكار هـ. بينما نحن نواجه في المجتمع الإسلامي في عهد ما بعد التحضُّر أخطاء (مولَّدة) أي أنها أتت إليه من عالم ثقافي آخر، قام بدور (المولِّد).
ولا يعتبر المهندسون في الثورة الفلسطينية، أو عَبّان رمضان في الثورة الجزائرية خطأين نابعين من اطراد الثورتين؛ وإنما خطآن أُدخلا من الخارج أي خطآن مولَّدان.
هذا هو الوجه الخاص (لانحرافاتنا الثورية) مفسرة ذلك الذي سماه ( J. Revel) بالشروط الخمسة إذ كتب يقول:
((لا تقوم الثورة من الارتجال .... ، إن الروح الثورية الحقيقية تسير وفق خطةٍ جاهزٍ مُكْتشفةٍ، أو تنتهج طريقة الاكتشاف الْمُحَضَّر حيث يكون التطبيق دقيقاً على الدوام وعلى درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة الفنية، وليس أبدا ً (1) تقريبياً)).
وفي البلاد الإسلامية قد يولد التطور الثوري منذ يومه الأول على شكل ثورةٍ مضادة مقنعة أطلقت في الوقت المناسب؛ لتسبق إلى احتلال مراكز استراتيجية قبل أن تحتلها ثورة أخرى أصلية (2).
كما يمكن أن ينشأ أيضاً في ظل ثورة أصيلة تفسح المجال شيئاً فشيئاً لثورة مضادة، تستخدم اسمها، وصفاتها المنظورة، ووسائلها لتقتلها، وتحل محلها محافظةً على المظاهر التي تصبح الستار؛ الذي خلفه يستمر قلب مسار الاطراد في مرحلة ما بعد الثورة.
(1) ج ف، مثل ((لا ماركس ولا يسوع))، طبعة لافون- باريس 1970
(2)
إننا لا نذكر في كل مرة أسماء الأشخاص والأماكن، نظراً لأن شخصيات هذه الأحداث التي نتناولها بالتحليل لا تزال على قيد الحياة.
هذه المظاهر تشكل إذن المشكلة الجوهرية للنقد الثوري.
وإذا كنا أمام مسرح أحد الحواة المشعوذين، فإننا نعلم مسبقاً بأن خِدَعَهُ ليست إلا مظاهر؛ ما كان لها أن تكون لولا مهارة الحاوي وعلمه الكامل برد فعلنا الا عتيادي.
لكننا هنا نحن أمام مسرح سياسي حيث الحاوي يسمى الاستعمار، ومن أجل أن نفهم خِدَعَهُ التي تنطلي على حواسنا ينبغي أن نقول: ماذا نُكَوّن أمام ناظريه - كعيناتٍ نفسية-؟، وماذا يُكَونُ هو في نظرنا على صعيد إثاراتنا الأخلاقية والسياسية؟.
وليس صعباً أن نحدد الأشياء على الأقل في النقطة الثانية: فالاستعمار يُعَدُّ في نظر كل مسلمٍ الشيطان. وما ينبغي أن نضيفه فوراً بأن الاستعمار يعلم ذلك جيداً. وهو فوق ذلك يعلم عنا أشياء كثيرة نجهلها نحن أنفسنا، وخصوصاً تلقائية استجاباتنا السلوكية. فمثلاً هو يعلم بأنه حينما يقول الشيطان: اثنان زائد اثنين يساوي أربعة، فإن المسلمين سيقولون: ليس هذا صحيحاً لأن الشيظان قال ذلك.
وعلى العكس من ذلك فإذا ما ارتفع صوت له سمة (الصدق) يقول: اثنان زائد اثنين يساوي ثلاثةً؛ فإن المسلمين سيقولون هذا حق لأن هذا الرجل الصادق قد قال ذلك.
هذه النزعة في الوسط الإسلامي التي لا تصنع الأحكام طبقاً لعالم الأفكار بل تصنعها طبقاً لعالم الأشخاص: هي معروفة تماماً من الاستعمار.
وإن نشاطه على الخريطة السياسية يستخدم باستمرار معطيات خريطة نفسية وعلى ذلك فإن كل تِقَنيِّة الأخطاء المولَّدة تعتمد على هذا الذي فصلناه.
وتكاد لا تخيب نتائجها في عالمٍ تستند الأفكار فيه على الأشياء أو على الأشخاص كي تسير.
والحاوي الماهر الواقف على المسرح؛ ليس على المسرح تماماً ولكن في غرفة المُلَقِّن حيث يتخفى عن الأعين: ليس عليه إلا أن يخرج مزيداً من الخدع في قاعة المشاهدين الْمُكَيَّفَة بحالتهم النفسية تجاهه.
ثم يبدأ العرض من شرق العالم الإسلامي إلى غربه، حيث تدعو الضرورة إلى إخراج مشروع (ثورة مضادة) إلى المسرح في ثوب ثورة.
والعالم الإسلامي الحاضر يشمل على أكثر من انحرافٍ من هذا النوع، فباكستان اقتضى لوجودها انحرافٌ كهذا أي خطأ مولَّد في نفسية الضمير الإسلامي المكيَّف، والمرتهن (بالزعيم).
و (الزعيم) لا يستخدم لتحريف الطاقات الثورية الآخذة في الحركة، بل إنه يُستخدم أيضاً قاطعاً لتيار إيديولوجي موحَّد لا يتفق مع سياسة التفتيت المطَبَّقة في العالم الإسلامي.
ومع ذلك فليس من الضروري أن يكون (الزعيم) متواطئاً، فقد قام (مصالي الحاج) بدوره بحسن نية بالتأكيد، لكن تصرفه كان ببساطة مطابقاً لمخططات الاستعمار. لقد تكون في مدرسته تلك الحفنة من (صغار الزعماء) الذين قتلوه وخانوا الثورة، ثم تنكر لها هو نفسه تكبراً وغطرسة.
لكن (عبان رمضان) كان بالتأكيد متواطئاً؛ فتصرفاته المريبة لا تترك ظلاً من الشك على هذه الحقيقة.
فلقد كان حتى آخر لحظةٍ من حياته يرتضي لنفسه لعبة الحاوي؛ ليُجهز على ثورة الإدارة التي أطلقت عجلتها في الأول من نوفبر (1954)، ولكي يغتصب
سلطتها ويحاول استعمالها ضد الثورة نفسها.
ويحدث أيضاً ألا يكون رجل السياسة في العالم الإسلامي ذلك الكائن الصغير الطموح: يُباع، ويُشترى، يطوب (زعيماً) على مسرح السياسة. بل ينبغي أن يكون (رئيساً) أصيلاً قادراً على تحقيق فكرة كبيرةٍ؛ تمارس على الجماهير جاذبية هدف عظيم سام لا يقاوم.
ومن الطبيعي: أن الفكرة قد قُيِّمت بقيمتها الحقة من أول وهلةٍ عبر اختصاصيِّي الصراع الفكري.
والرجل الذي يجسد في عيون الجماهير تلك الفكرة (الرئيس): هو الذي سوف تنصب عليه دراسة الاختصاصيين الدقيقة وذلك لتبين لهم سائر الثغرات.
وعلى تلك الثغرات فإن الاستعمار سيضع صماماته ذات التأثير المزدوج:
1 -
من جهةٍ؛ لمنع إشعاع الفكرة وشخصية الرئيس أن تصلا إلى ضمائر الجماهير.
2 -
وعلى الخصوص لتكون الصورة الحقيقية لعمل الفكرة بمنأى عن الرئيس، بحيث لا يستطيع أن يتابع سيرها الفعلي ليضيف! إلى مسيرتها التعديلات والإصلاحات الضرورية.
لدرجة أن الصراع يتابع مسيرته دون جهاز استكشاف ( Radar)؛ يعطي للرئيس في كل لحظةٍ المعلومات الكاملة حول مقتضياته؛ حينما تصبح الفكرة وشخص الرئيس بالذات أمام حقيقة هذا الصراع.
إذ في النهاية يمكن أن يصبح سجين نظامه الخاص؛ حين يتحول لمجرد جهاز صمامات تحت رقابة الاستعمار.
والرئيس هكذا يساق إلى تدميره الذاتي عبر آلية يظن أنه يمسك بزمامها، وهي في الواقع تمسك بزمامه.
هذا التدمير الذاتي ليس دائماً، ولا غالباً نهاية جسدية، ولكنه سقوطٌ سياسيٌّ للرئيس يتدرج بطريقة تنسحب معها، وتفقد الفكرة قيمتها بخطئه حين جسدها في ذاته بأخطائه.
أي في الحقيقة: نتيجة الأخطاء المولَّدة ( erreurs induites) التي أدخلت إلى سياسته بفضل جهاز الصمامات الذي وضعه الاستعمار كما أشرنا.
إن نهاية (سوكارنو)(1) أو (نكروما)(2) ليست إلا تدميراً ذاتياً مؤلماً. وهاتان حالتان من حالاتٍ عديدةٍ. وجملة القول: إن نظام الصمامات يعمل لحساب الاستعمار كجهاز مولِّد للأخطاء المولدة، وعند الحاجة يصبح نظام حمايةٍ لهذه الأخطاء ضد كل طيف نقد.
ولا مجال للنقد في الحياة السياسية لبلاد العالم الإسلامي؛ خصوصاً حينما يكون المقصود الحفاظ على ثورةٍ مضادةٍ في طريقها إلى التكوين في الظلام الذي لا غنى عنه لانتشارها أو الحفاظ في الخفاء على أسباب ثورة مضادة تمَّت فعلاً.
فخير حليف لأساتذة الصراع الفكري، ولمُجهضي الثورة، الظلام،
(1)(سوكارنو): سياسيٌّ أندوينسي (1901 - 1970 م). أحد مؤيسسي " الحزب الوطني أندوينسي "(سنة 1927). شغل منصب أول رئيس لجمهورية أندوينسيا الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية. أطاح به قائد الجيش (سوهارتو) سنة (1966 م) بعد فشل محاولة انقلابٍ قام بها الشيوعيون. وبقي في الإقامة الجبرية حتى موته.
(2)
(نيكروما): رجل سياسة غانيّ (1909 - 1972م). شغل مناصب سياسية عليا، كان آخرها رئاسة جمهورية غانا (سنة 1960). كان ميل سياسته إلى الاشتراكية وتركيز جميع السلطات في يده؛ من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الانقلاب الذي أطاح به سنة (1966)؛ عندما كان يقوم برحلةٍ في الصين.
والسكوت، ومن الغريب أنه في وسط الحكومة المؤقته للجمهورية الجزائرية في القاهرة خلال سنوات الثورة الجزائرية كانت كلمة السر المتداولة:((اسكتوا، لا تتكلموا .. الاستعمار ينصت إلينا)).
كان ذلك من روائع أعمال أساتذة الصراع الفكري، إنها لمسة فنان يجيد اللعب على وترنا الحساس.
وفي مناسبةٍ أخرى كنت أستمع يوماً بعد انفصال الوحدة بين سورية ومصر إلى نقد، أظن من راديو حلب، وطالما أن النقد منصبّ على فكرة الوحدة مساً بها، وبخساً لقيمها، واحتقاراً لشأنها، كان الأمر على ما يرام. وكان يمكن سماع كل كلمة بوضوح. ومنذ أن بدأ النقد حول مسألة نظام الصمامات التي استعملت لتوليد (الأخطاء المولَّدة) في السياسة العربية التي قضت على الوحدة؛ فإن الكلمات تلاشت في الضباب. طواها التشويش الإذاعي.
هل كان ذلك عبر الأسطول السادس، أو تل أبيب مباشرة؟ لا فرق. إلى متى سيدوم هذا الوضع!؟. لامجال للمخاطرة في تنبؤاتٍ تكذبها في الغالب الأحداث. ينبغي ألا نتكهن بأن هذا أو ذاك من الأحداث سيضع حداً لنهاية هذا الوضع. فالمطلوب: أن نُرْجِع ذلك إلى سببه النفسي الاجتماعي، وأن نبيّن بالتالي كيف يزول بزوال ذلك السبب.
لقد أشرنا قبل ذلك في معرض دراسة إلى نوعين من الأخطاء تختص باطرادنا الثوري: الأخطاء النابعة من ذاتنا، والأخطاء المولَّدة.
لكن أسبابها واحدة، إنها تكن في نفسيتنا: ففكرنا خاضعٌ لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي. حينئدٍ فإن محاكمتنا للأمور بصفة عامة؛ وفي الإطار السياسي بصفة خاصة تأخذ أو تسترد طابعها المنهجي والمعمم؛ والذي يستطيع أن يصهر بدفعة
واحدة عديداً من التفاصيل في كُلِّ مُوَحِّد، وأن يصبها في تركيب متآلف ( Synthèse).
إن روح عصر ما بعد الموحِّدين، المصابة بالذرّية ( Atomisme): لا تسلك سبيل التكامل بانتهاج التركيب المتآلف ( Synthèse).
فالنزعة الذرّية هي قفزة البرغوث من تفصيل إلى تفصيل؛ بحيث لا تسمح أن ترى في مجموعة من التفاصيل المعطاة وضعاً يبرز بالتحديد مشكلة مرحلةٍ من الاطراد الثوري.
وبهذه الطريقة سيظل التفصيل مستقلاً عن الموقف الموضوعي الذي نعيشه؛ بحيث يضاف إلى وضع شخصي؛ كالحبَّة التي تضاف إلى مسبحة أحلامنا.
وكم أضاف أساتذة الصراع الفكري من حبات الكهرمان إلى مسبحة أحلامنا!! كاسم جميلة بوحيرد، وعبان رمضان في الثورة الجزائرية، وسواه في الثورة الفلسطينية.
ولم يمض كبير زمن على الجموع التي تظاهرت عام (1919) في شوارع القاهرة وهي تصرخ: ((نظام الحماية مع زغلول خيرٌ من الاستقلال مع عدلي باشا)). وهذه البدع ستستمر ما دام عالمنا الثقافيُّ محكوماً بالأشياء أو الأشخاص.
إن أساتذة الصراع الفكري يعرفون بأن التعامل مع وثنٍ: هو أسهل من التعامل مع فكرة. والتابعون لهم من أبناء البلاد ( indigenes) هم من الرأي نفسه: يعرفون أن استغلال النفوذ أسهل مع الأشخاص منه مع الفكرة. والجوهري بالنسبة لهؤلاء وأولئك: هو أن لا يدع الاطراد الثوري يتمحور حول فكرة.
وندرك لحظة الفرج عند هؤلاء وأولئك مع كتاب (فرانز فانون fanon)(1) حول الثورة الجزائرية؛ لأنه اختصر صورة الثورة إلى مجرد عملٍ من أعمال العنف. وربما دون أن يدري، قد أراح الزعماء و (صغار الزعماء) من همِّ التفكير، وهو قد أراحهم على وجه الخصوص من عقدة الذنب تجاه الأفكار التي خانوها. لكن الأفكار المخذولة، وانتقامها ظاهر للعيان في العالم الإسلامي.
(1)(فرانز فانون Frantz Fanon) ؛ (1925 - 1961) ، عالمٌ نفسانيٌ، ورجل ثورة من أصلٍ (أنتيلي Antiliais) . شغل منصب رئيس الأطباء في المستشفى النفسي في بليدة (1953 - 1957). درس عند السكان المحليين ظواهر ضياع الشخصية التي يسببها الاستعمار. فكان أن ناصر الثورة الجزائرية ودععمها، وعندما طُرد من الجزائر ذهب إلى تونس؛ حيث مارس مهنته. له العديد من الأعمال التي يحلَل فيها الاستعمار: اجتماعياً، وسياسيّاً، والتي تدور بمعظما حول مسألة الصراع من أجل التحرير في العالم الثالث: وخاصة في القارة الإفريقية.