الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
جدليّة الفكرة والشيء
• الصراع بين الفكرة والشيء.
• فقدان التوازن في هذا الصراع:
- طغيان الشيء في المجتمات المعاصرة.
- ندرته في البلاد النامية والكلف به.
- وفرته في البلاد المتقدمة ووساوسها نحوه تؤديان إلى مواجهة الشيئية بحالةٍ نفسيّةٍ واحدة.
ــ
إنّ للعالم الثقافي بنيةً (ديناميكية) تتوافق مظاهرها المتتالية مع علاقات متغيرة بين العناصر الثلاثة الحركيّة: الأشياء- والأشخاص- والأفكار.
لقد حاولنا أن نثبت في فصلٍ سابق لحظات الأزمة في مجتمع ما؛ حينما يكون في عالمه الثقافي انقطاعٌ لحبل التوازن لصالح طغيان عنصرٍ من العناصر الثلاثة.
أما اللحظات الأخرى: فهي فواصل زمنيةٌ تتحدد بالاتجاهات التي تتوافق مع عمر المجتمع ومرحلة حضارته.
والفاصل الزمني: هو صراع بين العناصر الثلاثة في قلب العالم الثقافي. أما الأزمة فهي نهاية هذا الصراع عند انتصار واحدٍ من الأبطال المتصارعين وظهور طاغية يستولي على السلطة في قلب العالم الثقافي.
وهنا فإننا سنحاول عزل الفواصل في صراع الفكرة والشيء وذلك لمعناه الاجتماعي الخاص.
هذه العلاقة لا تجد تعبيرها فحسب في المجتمع الإسلامي الذي يواجه في هذه الآونة (الشيئية) وسائر نتائجها النفسية والاجتماعية، بل يمكن اعتبارها أيضاً بالنسبة للمجتمع المتحضر وسيلة تحليل لوضعه الحاضر؛ من وجهة النظر النفسية الاجتماعية.
فكل فكرةٍ جاهزةٍ في أوربة وتتمحور بقليلٍ أو كثيرٍ حول موضوعنا تستطيع أن تثيرنا، وهي تثيرنا بالرغم من تناقضاتها أحياناً.
فالمشكلة في الواقع ذات وجهٍ مزدوج.
ففي بلدٍ متخلفٍ يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً.
أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه: فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع.
إنه يفرض حينئذ شعوراً لايحبهل من السأم البادي من رتابة ما يرى حوله فيولد ميلاً نحو الهروب، ذلك الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلما تغيير إطار الحياة والموضة، أو يدفعه إلى الذهاب ليستنشق الهواء في مكانٍ آخر.
إن نظام الإجازات المدفوعة ليس سوى ثمن هذا المركز الذي تحتله الأشياء؟ إنه الدواء المسكِّن لداء عدم الاستقرار الذي يقود المجتمع الاستهلاكي.
إن المجتمع المعدم يتفاعل مع الكلف بعالم الأشياء الذي لا يملكه، أما المجتمع المليء فإنه يتفاعل مع وساوس هذا العالم.
ولكن مع هذين الانفعالين فإن المجتمعين كليهما يواجهان الداء ذاته، فطغيان الشيء يختلف الشعور به، ولكن النتائج النفسية المنطقية واحدة. فالشيء يطرد الفكرة من موطنها حين يطردها من وعي الشبعان والجائع معاً.
هذه النتائج في المجتمع الإسلامي تأخذ أحياناً أشكالاً تدعو للسخرية؛ حينما يحل الشيء محل الفكرة بطريقةٍ ساذجةٍ لينشىء حلولاً مزيفة لمشكلاتٍ حيوية.
ونلاحظ ذلك في المراتب العليا للدول المستقلة حديثاً؛ حتى في مستوى التعليم العالي الذي يفترض فيه تحديد الاتجاه العام لمثقفيها.
وأسوق هنا هذه المذكرات المقتبسة من وثيقةٍ تتعلق بإدارة معهد طب الأسنان بالجزائر وتعود إلى عام 1965 وأثبت النص بحرفيته:
((إن أحد الدلائل المعبرة عن الوضع الحالي لمعهد طب الأسنان، هو الحال التي يوجد عليها القسم الأكبر من اللوازم التقنية.
في الواقع إن 57 وحدةً علاجية من أصل 60 وحدةً معطلةٌ في الوقت الحاضر (1965)، وهذا يعني من منظار الميزانية أن حوالي (300) مليون فرنك فرنسي قديم مجمدةٌ في استثمارٍ عقيم.
ولا بد أن نضيف بأن اختيار تلك اللوازم من حيث المبدأ كان سيِّئاً. لأنه لا يجوز أن يسلم إلى الطالب المبتدئ جهازً مخصص لعيادة جراح الأسنان، ففي مدارس طب الأسنان في البلاد المتقدمة يتم التعليم بأدواتٍ زهيدة الثمن وعلى كراسٍ عادية بالأخص.
والجدير بالملاحظة علاوةً على ذلك أنه في الوقت الذي تتوفر فيه (في معهد طب الأسنان هذا) كميةٌ كبيرة من اللوازم الثابتة الباهظة الثمن من غير أن تكون ضروريةً هناك نقصٌ في الأدوات الصغيرة التي لا غنى عنها للطبيب وخاصة للمبتدئ)).
هذا لدرجة أن المعهد يبدو في النهاية وكأنه منصةٌ لعرض معدات الأسنان، وليس ورشة عملٍ أو مختبراً للتعليم.
والتعليم في الواقع يصبح طبقاً لذلك دون أية صفة علمية؛ إذ سيقتصر على تخريج مجرد قالعي أضراس وليس أطباء جراحين.
ومثلاً نرى أستاذاً في طب الأسنان يكلف بإعطاء دروس في الأمراض البولية، وأما أوقات التدريس فهي فوضوية لدرجة أن الأستاذ يختار أي توقيت وأية مجموعة تلاميذ ليعطيها درسه. ونتيجة لذلك في نهاية العام الدراسي: أن الأستاذ الشريف الذي يغوص في هذه الفوضى لا يعرف كيف يقدر علامات الطالب.
إن هذه الوثيقة الإدارية البسيطة تدل على افتقاد توازن يؤثر على علاقة (الفكرة بالشيء)؛ حتى على الصعيد الجامعي في بلدٍ من البلدان المتخلفة. وهذا خللٌ صارخٌ تظهر آثاره السلبية على الصعيدين الاقتصادي والتربوي على حدٍ سواء. ومن الممكن مراقبة تلك الآثار وحسابها على يد هيئةٍ إداريةٍ حريصة على حسن إدارتها.
إن الحالة التي اخترناها تمثل خللاً في العلاقة على حساب الفكرة تصل إلى درجة (الشيئية) الصرفة: أي إلى درجة المادية الأولية عند الأطفال.
أما في مجتع متقدم فإنه يمكن لطغيان الشيء أن يتخفى خلف مظاهر أكثر خداعاً. وهذا الاختلال يبدو في مستوى ثقافيٍّ أعلى. وآثاره الكامنة فيه علاماتٌ لا تكاد تدرك وهي تنبئ عن أزماتٍ مستقبلية إيديولوجية؛ وحتى سياسية حينما نقرؤها في ثنايا بعض الأحداث الجارية.
ولا بد لهذه العلامات من أن تلفت انتباه المراقبين في المجتع الرأسمالي وفي المجتمع السوفياتي على حدّ سواء، فمنذ عشر سنوات قام أحد المراقبين بإجراء تحقيق
في فرنسا تحت عنوان (دراسة اجتماعية لفشل)(1) موضوعها أسباب إخفاق الاشتراكية في إنكلترة، ومما لاحظه: أن البلد الأوروبي الذي يحصي العدد الأكبر من الأجراء لم يعط أكثر من 50% من الأصوات لحزبه الاشتراكي؛ لأن الأهداف التي كان هذا الحزب يعد الأجراء بتحقيقها قد أمَّنَها لهم المحافظون.
وعندما يحيط (أدغار مورين) بالظاهرة في المجال السياسي: لا يقدم تفسيراً للتطور النفسي الذي غرس في وعي العامل الإنكليزي- ومن دون أن يشعر- تنكرًا للفكرة الاشتراكية: التي قادت معركته في العصر البطولي لصالح المكاسب (المادية) التي وعدت بها.
هذا هو الأمر الجوهري من وجهة النظر النفسية: إنها (الأشياء) التي تحدد في النتيجة التصويت للمحافظين، أو تقر ميزان الأصوات لصالح الاشتراكيين.
إن المرور العابر على هذه النقطة الجوهرية دون التوقف عندها قد قاد (أدغارمورين) إلى علاجٍ خطيرٍ وهو لا يخلو على الأقل من الجرأة وهو: علاج الداء بالداء دون التأكد مما إذا كان المرض سيقضي على المريض أو العكس.
والواقع أنه في بادئ الأمر يذكر الفراغ المروع، والوحدة، واليأس التي تستبطنها حضارة الرفاهية
…
، ويدرك بوضوحٍ كبيرٍ نتيجة ذلك؛ فيضيف قائلاً: ومع ذلك سيظهر في المجتمعات المتقدمة؛ إذا ما واصلت سباقها نحو الرخاء لا معقولية الوجود العقلاني، وهزال حياةٍ تفقد كل رابط حقيقي مع الآخرين، وتفتقر للإنجازات الخلاقة، وتحصد الحرمان في عالم الأشياء والظاهر .. وتستحوذ عليها أزمة العنف عند الشباب، وتُبَرِّحُها آلام الوجودية عند المفكرين.
(1) تحقيق قام به (أدغار مورين)، ونشر في النوفال او بسرفاتور تحت عنوان ((دراسة اجتماعية لفشل)):(أي لفشل الإيديولوجية الاشتراكية في إنكلترا).
يا لها من نبوءة صادقةٍ؛ فهذا الكلام هو وصفٌ دقيق لأحداث مايو/ أيار (1968) ولهيجان الشباب الذي رافقها، قد صدر عن (مورين) قبل عشر سنوات من هذه الأحداث.
إنها نظرةٌ تشخيصيةٌ دقيقةٌ. لكن (أدغار مورين) يستخلص منها علاجاً يتسم بالمخاطرة، أو هو على الأقل غير كامل؛ حينما يحدد له نتيجة وحيدة هي قوله:((يجب أن نعيش حضارة الرفاهية في العمق، وهذه يجب أن تتحقق في حضارة الوفرة لكي تنشئ نقدها الذاتي وأبعادها المستقبلية الخاصة بها)).
إن هذه الخاتمة البركانية تنطوي على شيء من التناقض. فحينما يوصي (مورين) بأن يترك الداء حتى يصل إلى منتهاه فينتج بنفسه دواءه؛ فذلك يعني أنه في تشخيصه لم يأخذ باعتباره أي علاجٍ له.
وفي هذه الحالة قد يأتي (النقد الذاتي) - كما حدث في باريس (1968) - في شكل معارضةٍ لا تبتغي الإصلاح، بل ترسخ فوضى لا هدف لها سوى الفوضى، معارضة لا تكون تحريراً وعتقاً من عبودية الأشياء وإنما تفجيراً للأفكار في المدينة.
وقبل أن يكون الداء اجتماعياً هو داءٌ نفسيٌ، وهو لا يكن في درجة إشباع مجتمع لأنه يستهلك؛ ولكنه يكن في اتجاه علاقة الفكرة بالشيء في وعيه، ذلك الاتجاه الذي يستطيع أن يتحول نحو الفكرة أو نحو الشيء.
إن اختلال توازن هذه العلاقة لصالح الشيء: هو الذي ولّد الاضطراب الذي لا يقتصر على نطاق الدول التقدمة؛ وخاصةً منها المشبعة بالأشياء، بل يمتد أيضاً إلى البلاد الأقل (استهلاكاً) كالاتحاد السوفياتي.
إننا نعلم شيئاً، من ذلك عبر المناقشة المفتوحة والتي جرت على صفحات
(البرافدا) قبل تحقيقات (أدغار مو ران) بوقتٍ قصير، حول (العالم الروحي لإنسان اليوم)، فقد نشر تنظيم الشباب السوفياتي في عام (1959) رسائل الشباب- وقد لا تكون الرسائل كلها- الذين اشتركوا في المناقشة. ونستطيع أن نشير إلى اثنتين منهما تعطيان صورةً أخاذةً عن الاضطراب في صفوف المثقفين السوفيات.
ووفق تعبير مهندس:، (فإن مجتعاً يحتوي عديداً من المهندسين الذين يكرسون أنفسهم كليةً لعملهم، والقليل من الأشخاص الذين ينتشرون بحثاً عن ثقافةٍ عامة، إن مجتمعاً هذا شأنه سيصبح أشد قوةً من ذلك المجتمع الذي يكثر فيه عدد الباحثين في العلوم الإنسانية ويقل فيه عدد التقنيين)).
وفي رسالةٍ أخرى ويبدو أنها جوالاً على ما سبق يكتب طالب فلسفة: ((إذا كان الناس يعيشون فقط ليأكلوا وإذن فإن بلاداً توفر الحاجات وهي متقدمة تقنياً، كالسويد، يمكن أن تكون مثلاً يحتذى. أما إذا كان الهدف الأساسي لكل مجتعٍ توفير أكبر عددٍ من الناس الذين ينصرفون كلياً لمهنتهم؛ حينئذ يصبح مثلنا الأعلى أميركا)).
هذه هي إذن القضية ( Thèse) ونقيضها ( Antithèse) في بلاد الحزب الواحد، والإيديولجية الآحادية، حيث إن فقدان التوازن في علاقة الفكرة بالشيء بدأ يوحي بشعورٍ مضادٍ لا يصبّ في صالح الإيديولوجية الماركسية؛ ولكن لصالح فكرة لا تكون متورطةً في نظام (الأشياء) الحاضر.
ويقع طالب الفلسفة على حدود الإيديولوجية الماركسية في بحثه عن شيءٍ من التوفيق لم يتحدد بعد في عالم ثقافي آخر.
هذه لحظةٌ حرجةٌ في الثقافة السوفياتية، لحظة نفسية يبدأ فيها طغيان الشيء يداخل الشعور ويستهوي لصالحه روابط الإنسان بالمقدس.
إن الشيء هو الذي يصبح مقدساً في وجهة النظر التي عبر عنها المهندس. والجدير بالذكر أن هذا المهندس لا يقتبس حجته في طرحه لموضوعته من عالم الأفكار بل من عالم الأشياء التي تصنع ((المجتمع الأكثر قوة)).
ومن ناحيةٍ أخرى لابد أن نشير إلى: أن طالب الفلسفة لا يفصل في القضية باسم فكرة ماركسية تؤمِّن شروط الرخاء وقوة المجتمع؛ كما فعل أخوه الأكبر منه ببضع عشرة سنةً.
فنحن نراه متردداً، يضع قدميه في السويد مرةً، ومرة في أمريكا؛ من أجل أن يثبت في النهاية ماذا؟ ليس سوى الفراغ الروحي الذي ران على عالم الإنتاج، والذي تشتد وطأته على ضميره.
إنه لا يستعمل في الحقيقة تعابير مورطة في بلاد المادية الجدلية. ولكن ينبغي أن نعيد وضع تعابيره في إطار البحث في (العالم الروحي المعاصر) وأن نثق بحس الملاءمة عند الذين قاموا بهذا التحقيق.
وفي هذا الإطار، فإن فلسفة المهندس هي فلسفة الرجل الذي تسيطر عليه عبادة القوة. إنه ينتمي إلى عالم ثقافي تتخذ فيه الأشياء التي تحقق القوة طابعاً قدسياً.
في حين أن طالب الفلسفة هو الإنسان المختنق بهذا الإطار. وواضح أن رسالته حملت في تضاعيفها رداً على الرسالة الأولى. إنها محاولةٌ للتملص من طغيان الأشياء؛ ليعود إليه التوازن في العلاقة بين الفكرة والشيء لصالح فكرةٍ لم يفصح عنها، أو هو لم يكتشفها بعد.
إنها البحث عن فردوس لم يجده بعد، أو ربما عن فردوس فقده. إن المجتمع السوفياتي لم يعد يجد في داخله بعض الألحان المطبوعة: التي كان قد استلهمها من
اللحظات الكبيرة التي حققت بناءه في عصر (لينين) أو (ستالين)، وتلك الاندفاعة التي ساندته في (ستالينغراد).
فبعد أن عبر جسر منتصف القرن، دخل المرحلة الثانية من التحصر، ووصل إلى العتبة التي تصبح فيها الألحان الأساسية غير مقروءة من على أسطوانة عالمه الثقافي الأصيل. ولقد رأى على هذه العتبة صراع الفكرة والشيء، حيث فرص النجاح منقسمةٌ بين المتصارعين المتنافسين، فحيناً تميل إلى جانب طالب الفلسفة فيما عبر عنه من أفكار، وأحيانا إلى جانب المهندس فيما جنح إليه في رسالته.
وفي مجتمع شيوعي آخر؛ الصين الشعبية كاد الصراع أن يحسم لصالح الشيء، كما هو الحال في وسط طبقة العمال الإنكليز التي أشرنا إليها، ففي خضم الثورة الثقافية فإن (ليوشاوشي) حاول أن يوقف موجة الثورة العامة حين ألقى لطبقة العمال قبضةً إضافيةً من الرز وأجراً أفضل.
لكن العامل الصيني لم ينخدع بهذا الكرم الذي يسلمه لسلطة الشيء؛ (فماوتسي تونغ) لم يحتج لأكثر من كلمةٍ يعيد التوازن لصالح الفكرة، فقد أعلن إدانة (الاقتصادانية) وتابع الشعب سيره في طريق الثورة.
لقد كان من الخير أن يتكلم في زمنٍ كانت الصين فيه تغني نشيد ميلادها، هذا النشيد الذي أسمعه لأميركا أول قمر صناعي وهو يمر في سمائها.
لكن حقبة (اليوشاوش) تترك لنا مقياساً مفاده أن كل الثوريين المزيفين لا يتوانون عن استعمال سلطة الأشياء وإغرائها ضد الأفكار.
هذا وتطبق اليوم هذه الأساليب في بعض القطاعات العربية. ففي اللحظة التي ينبثق مع الثورة الفلسطينية فكرةٌ تنذر بجرِّ العالم العربي في ركابها، هنالك
(ليوشاوشي) صغير في أحد المنظمات يستعمل بريق الأشياء (خطف طائرة هنا أو هناك) لكي يحظى ببعضٍ من تألق الثورة، ولكي يكشف في الوقت نفسه عن انحراف يساري كفيل بأن يحذر الضمير العربي من هذه الفكرة.
إن صراع الفكرة والشيء يكون تارة من نتاج التاريخ في اطراد الحضارة، وتارةً أخرى حصيلة مناورةٍ سياسيةٍ؛ كما هو في مثال (ليوتشاوشي).
لقد اجتاز المجتمع الإسلامي هذه الخطوة المشعرة باقتراب الانفصام في قلب العالم الثقافي؛ يوم أن قال عقيل أخو علي بن أبي طالب: ((إن صلاتي مع عليّ أقوم وطعامي عند معاوية أدسم)).
إن هذه الحياة النفسية المنقسمة بين الطعام والصلاة كانت من أعراض بداية الصراع بين الفكرة والشيء. وقد واصل هذا الصراع طريقه منذ ذلك الوقت. وعندما فكر الغزالي بعد مضي أربعة قرون أن يجدد في العلاقة الدينية بين المجتمع المسلم والعالم الثقافي كان الأوان قد فات. فقد كانت المرحلة الثالثة من الحضارة قد بدأت، ولم يكن بمقدور المجتمع الإسلامي إلا أن يواصل انحداره حتى يصل إلى عصر ما بعد الموحدين، ولم يكن بمقدوره وهو يسترسل في المنحدر المشؤوم أن يسترد توازنه الأصلي.