الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
جدليّة العالم الثقافي
• حركية العالم الثقافي.
• العلاقات الداخلية في العالم الثقافي بين: الأشياء، والأشخاص، والأفكار.
• أسباب ومعوّقات (إقلاع) المجتمع الإسلامي.
ــ
إنّ عالم الثقافة ليس عالماً ساكناً. إنّ له حياته. وله تاريخه الذي نستطيع أن نفسِّره انطلاقاً من فكر هيجل، الذي يقرر بأن هنالك صيرورة لعالم الفلسفة وصيرورة فلسفيةً للعالم. أو انطلاقاً من المبدأ الماركسي: إنَّ كل تعديل في البنية التحتية يرتب تعديلات في البنية الفوقية.
هنا فالمشكلة تطرح من وجهة النظر العملية. وبشكل عامٍ فإن خصائص العمل على الصعيد الفرديّ أو الجماعيِّ تستند على العلاقات الداخلية بين مقاييسه الثابتة في العالم الثقافي: الأشياء- الأشخاص- الأفكار. هذه المقاييس الثابتة تتداخل في نشاط المجتمع عبر جدلية تاريخية تتوافق مع مرحلته التاريخية في كل لحظة من مسيرته. وتتوافق في كل لحظةٍ فيها علاقة معينةٌ؛ بين الأشياء والأشخاص والأفكار في تركيب العمل، وتكون هذه اللحظات من اللحظات العادية في تلك الجدلية.
إلا أن هنالك لحظات تحدّد علاقة أكثر خصوصية، يزيد فيها ثقل أحد هذه المقاييس على المقاييس الأخرى؛ عندما يكون النشاط مركزاً على الأشياء أو على الأشخاص أو على الأفكار بصورة أكثر خصوصية.
هنا يكون ثمة إخلال بالتوازن يميز هذه اللحظة الخاصة من التطور التاريخي لمجتمع ما، إنها مرحلة غير طبيعية في جدلية عالمه الثقافي.
هذا الإخلال بالتوازن يعكس إفراطاً ما، وكلُّ إفراطٍ هو ضربٌ من طغيان نشاطٍ على حساب نشاطات أخرى.
والحدودُ الفاصلة بين هذه المراحل من عدم التوازن ليست واضحة تماماً. وظاهرة هذا التداخل لا تسمح بتحديد حاسم يشير بصورة مؤكدة إلى اللحظة التي فيها يمرُّ مجتمعٌ من منطقة إفراط ما إلى منطقة أخرى.
لكن المجتمع الإسلامي المعاصر يُكَوِّن حقل دراسةٍ يقدم ملاحظاتٍ قيمةً لعالم الاجتماع المهتم بهذه القضايا.
وقيمة هذه الملاحظات لا تبرز فحسب في مستوى الفحص السريري، فالمسلم الذي يعكف على دراسة الأمراض الاجتماعية في الدول الإسلامية لا يكشف عن أمراضها لمجرد كونه مهتماً بمعرفتتها، أو بالتعريف بها، بل إنه يتمنى على العكس أن تأخذ النتائج القليلة التي يستخرجها سبيلها إلى الذين بأيديهم وسائل المعالجة في تلك البلاد، إلى قادة السياسة وقادة الثقافة.
فالمجتع الإسلاميّ قد أدرك منذ قرنٍ نهاية أشواط حضارته. وهو اليوم من جديد في مرحلة ما قبل الحضارة. ومنذ قرن تقريباً يحاول أن يتحرك من جديد لكن إقلاعه يبدو صعباً بالمقارنة مع مجتمعٍ (معاصر) كاليابان، أو مجتمع جاء إقلاعه متأخراً عنه؛ كالصين الشعبية.
وهذه الصعوبات قد فُسِّرت بطريقتين مختلفتين:
بالنسبة لأنصار الموضوعة الاستعمارية فإنّ عامل التأخر عن الإقلاع هو الإسلام. وبالنسبة لأنصار الموضوعة القوميّة فإن الاستعمار هو المسؤول عن ذلك.
وفي كلا التفسيرين عيبٌ أساسي لغموض في أساسه.
فالأولون إذ يضعون كل شيء على ظهر الإسلام؛ يريدون أن ينسوا أن الاستعمار مسؤول عن النصيب الأكبر من الفوضى الحالية للمجتمع الإسلامي. والآخرون الذين يُحمِّلون الاستعمار كل شيءٍ؛ يريدون أن يطمسوا (ديماغوجيَّتهم) التي لا تخفّف شيئاً من حدة المشكلة، بل إنها على العكس تزيدها.
الأولون يتناسون الواقع التاريخي بتجاهلهم الدور الذي قام به الإسلام في إحدى أعظم حضارات الإنسانية.
والآخرون يجهلون أو يتجاهلون أن الدول الإسلامية الأكثر تخلفاً هي بالتحديد الدول التي لم تواجه تحدي المستعمر (كاليمن مثلاً).
ينبغي أن نتناول المشكلة دون مواقف متميّزة لا تجدي فتيلاً، خصوصاً إذا كان الباحث مسلماً يحاول أن يفهم الأسباب الاجتماعية للفوضى التي تعم العالم الإسلامي اليوم.
ففي الفصل القادم سنرى أن كل مجتمع مضطرٌ لأن يواجه اتجاهاتٍ من عدم التوازن. فهذا أمرٌ يلازم كل تطورٍ تاريخيٍ.
والمجتمع الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات لأنّ (نهضته) لم يخطط لها، ولم يفكر بها بطريقةٍ تأخذ باعتبارها عوامل التبديد والتعويق.
فمثقفو المجتمع الإسلامي لم يُنشئوا في ثقافتهم جهازاً للتحليل والنقد إلا ما كان ذا اتجاه تمجيدي يهدف إلى إعلاء قيمة الإسلام.