الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرّابع
الحضارة والأفكار
- الحضارة نتاج فكرةٍ جوهريَّةٍ تدفع بها في التاريخ.
- أطوار الحضارة: مرحلة الروح؛ مرحدة العقل، مرحلة الغريزة.
ــ
إن حضارةً ما هي نتاجُ فكرة جوهرية تَطْبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ.
ويبني هذا المجتمع نظامه الفكريَّ طبقاً للنموذج الأصلي لحضارته. إنّه يتجذّر في محيط ثقافي أصليٍّ يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى.
إنّ الفكرة المسيحية قد أخْرجَت أوربة إلى مسْرح التاريخ. ولقد بنت عالمها الفكري انطلاقاً من ذلك. ومع عصر النهضة استعادت اكتشافها العالم الإغريقي فتعرَّفت على (سقراط)(1) باعث الأفكار، و (أفلاطون)(2)
(1)(سقراط) فيلسوفٌ يوناني (704 - 399 ق. م). يُعَدُّ أبا الفلسفة اليونانية. اشتهر بمنهج (التوليد maieutique) الذي يقضي باستخراج وبعث الأفكار من النفس بتوجيه الأسئلة إليها. لم يترك مؤلفاتٍ كتبها في بخطّ يده؛ لأن تعليمه كان ينحصر بالتحدث إلى تلاميذه.
(2)
(أفلاطون) فيلسوفٌ يوناني (428 - 338 ق. م). من أهمّ تلاميذ (سقراط). دوّن في بعض المؤلفات العديدة التي تركها أحاديث (سقراط) ومناقشاته مع فلاسفة عصره.
المؤرخ لتلك الأفكار، و (أرسطو)(1) مشترعها.
غير أن هذا العالم الذي التقت به ثانية وهي تقتفي أثر الحضارة الإسلامية، قد اكتسى منذ (توماس الأكويني)(2) صبغةً مسيحية.
إنَّ دور الأفكار في حضارةٍ ما لا يقتصر على مجرد الزينة والزخرفة؛ كزخارف المدفأة في المنزل مثلاً، فهو لا يصبح كذلك إلا حينما يصبح المجتمع في عصور ما بعد التحضُّر.
ففي فترة اندماج مجتمعٍ ما في التاريخ يكون للأفكار دورٌ وظيفىّ؛ لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفةٍ أو مهمة معينةٍ.
ويمكن تعريف الحضارة في الواقع بأنها جملة العوامل المعنويّة والماديَّة التي تتيح لمجتمع ما أن يوفِّر لكلِّ عضوٍ فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوُّره.
فالفرد يحقق ذاته بفضل إرادةٍ وقدرةٍ ليستا نابعتين منه، بل ولا تستطيعان ذلك، وإنما تنبعان من المجتمع الذي هو جزء منه.
وإذا ما رَكَن لقدرته وحدها وإرادته وحدها فإن هذا الفرد المنعزل والمنقطع عن كل اتصالٍ بجماعته يصبح مجرد قشة ضعيفة؛ رغم كل وسائل التزيين الأدبي التي يستعين بها الكاتب الروائي ليحيط بها حياته.
(1)(أرسطو) فيلسوفٌ يونانيّ (384 - 322 ق. م). درس على أفلاطون. كان يعتقد أن الفلسفة تنظم المعرفة البشرية بكاملها. كان له أثرٌ كبيرٌ في الفكر العالمي، من الفلسفة العربية حتى الفلسفة المعاصرة.
(2)
القديس (توماس الأكويني Saint Thomas Aquin) فيلسوف ٌ وعالم باللاهوت، إيطاليّ (1227 - 1274م). درس اللاهوت والفلسفة في عدة مدنٍ أوروبية، وخاصةً في نابولي بإيطاليا حيث كانت تناقش أمهات المؤلفات الفلسفية الإسلامية. ترك العديد من الكتب التي يحاول فيها أن يوفّق بين العقل والإيمان، بين عقائد المسيحية ونظريات أرسطو.
فالحقيقة شيء والصورة الأدبيَّة شيء آخر. ومنذ نشر (دانيال دي فوى) قصة (روبنسون كروزو) فإن الأجيال التي قرأتها نسيت المغامرة المحزنة لذلك البحار الإنكليزي المسكين الذي وُجد بعد أربع سنوات من غرق سفينته في جزيرة جرداء في وسط المحيط، وأُعيد إلى إنكلترا وهو يرتدي ملابس مصنوعة من جلد الماعز الوحشي. إنّ هذه المغامرة هي التي ألهمت (دانيال دي فوي)(1)، بيد أنها بقيت طي النسيان.
فالفرد الذي يُتْرك لإرادته وحدها وقدرته وحدها في ظرفٍ مماثلٍ لما حدث للبحار الإنكليزي الذي وَجد نفسه منفصماً عن بيئته، تصبح هذه حقيقته، وهي أيضاً حقيقة الفرد الذي لم يعد يجد في البيئة التي ينتمي إليها لا الإرادة في تقديم العون ولا القدرة على فعل ذلك.
إنه حينئذ يشبه الفرد الذي يبقى حيّاً بعدما يندثر جنسه في كارثة أرضية، ومأساته شبيهة بمأساة آخر ماموث (2) من العصر الجليدي يتيه في الفيافي المتجمدة القاسية حيث لا يجد القوت.
إن إرادة المجتمع وقدرته تُضفيان صفة الموضوعية على وظيفة الحضارة- وهي جملة العوامل المعنوية والمادية اللازمة لتنمية الفرد- وهي نفسها تتموضع في شكل سياسة، في صورة تشريع يمثلان إسقاطاً مباشراً لعالم الأفكار على الصعيد الاجتماعيّ والأخلاقيّ.
(1) ألهمت هذه المغامرة (دانيال دي فوي) بعد حدوثها بما يقرب من قرن.
(2)
الماموث ( Mammouth) حيوان (قديم) يشبه الفيل، عاش في العصر الرابع من تاريخ الأرض. وُجدت منه عدة جثثٍ متحجرة في الجليد في بعض مناطق سيبيريا (في روسيا). ويُعتقد أنه انقرض لعدم توفر القوت لأسباب جيولوجية.
وهي تتغير حسب الأطوار التي تمر بها الحضارة، والتي نجدها ممثلة على الرسم البياني التالي الذي استخدمناه في مكان آخر (1).
.......... ـ[صورة الرسم البياني]ـ ..........
هذا الرسم الذي يبين القيم النفسية الزمنية لإحدى الحضارات يعطينا فكرة عن تغيرات هذه القيم خلال المراحل الحضارية المختلفة.
وتنشأ إرادة المجتمع التي تموضع العوامل المعنوية عند نقطة الصفر. إنها تكون في أعلى درجاتها في المرحلة الأولى الروحية حيث المجتمع الوليد يواجه مشاكله بضغط حاجاته من جهة وباستخدام وسائله المتواضعة لتغطية أوسع قطاع ممكن فيها من جهة أخرى.
(1) انطر (شروط النهضة) طبعة الجزائر بالفرنسية، 1948. وطبعة دمشق [ص:74]، دار الفكر، 1987
إنه الطور الحضاري الموسوم بأروع أشكال التقشف التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام مثلها الأعلى في حياته الشخصية والعائلية، وهو يتميز كذلك بالمواقف الأشدّ بذلاً من صحابته-كأبي بكر وعثمان- الذين وضعوا ثرواتهم في خدمة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ.
أما قدرة المجتمع التي تموضع الشروط المادية وتسمح للمجتمع بالقيام بوظيفة العون فهي لا تزال في هذه الفترة في المرحلة الأولى من طور التكوين.
وهكذا نرى المجتمع الإسلامي من ناحية أخرى يضطر للدفاع عن (قدرته) بقوة السلاح حينما تهددت هذه القدرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الهرطقة (حرب الرِّدَّة) التي زعمت إبْطال حق الفقراء (الزكاة).
إذ لم يكن بوسعه أن يواجه هذه الردة لولا أنه احتفظ بإرادته البكر؛ أي بذلك التوتر الداخليِّ الذي منحه إياه الإلهام القرآني وتعاليم الرسول عليه الصلاة والسلام.
إنَّ هذا التوتُّر هو الذي يحدِّد خصائص مجتمع في منطلق حضارته؛ ويميّزه عن مجتمع آخر في مرحلة ما قبل التحضر، أو ما بعد التحضر، أو حتى المجتمع الذي لا يزال في مستوى حضاريّ يجتاز مرحلة AB التي أوضحناها في الرسم البياني؛ أي المرحلة التي يبدأ فيها عالم الأشياء وعالم الافكار بالتوازن ثم يأخذ (الشيء) يستحوذ على الفكرة، وخصوصاً في مرحلة BC.
هذا التوتر الذي طبع في عصرنا إقلاع الاتحاد السوفياتي مع التجربة (الستاخانوفية)(1) وأوضع للصين الشعبية ثبات إقلاعها خصوصاً منذ الثورة
(1)(الستاخانوفية stakkanovisme) . خطةٌ من العمل نشأت في عام (1935م) في المناجم الروسية في (دونتز) عبر عامل المناجم (ستاخانوف). وهي تهدف إلى زيادة الإنتاج بواسطة استعمال خبرة العامل والنظرة العقلانية إلى وسائل الانتاج. =
الثقافية قد سجّل هو أيضاً المرحلة الأكثر تفجُّراً في سياق تكوين واندماج المجتمعات الوليدة.
والتوتر هذا فكرة دافعة، لا يمكن بثُّها عبر نظرية أو بأي إرشاد تعليميٍّ.
أما ظرفها المفضَّل للظهور فقد فسره مؤرخ كـ (توينبي)(1) بذلك الظرف الذي فيه تضطر جماعة بشرية للردّ على تحدٍ ما بعمل منظم.
وهذا التفسير لا يقدم لنا شرحاً لتكوين المجتمعات التاريخية الحاضرة، والتي لا يتجاوز عددها ربع دزينة.
فنحن لا نفهم لماذا المجتمع البوذي لم يستجب في بداية العصر المسيحي لتحدِّي نهضة الفكر الفيدي ( pensée védique)(2) التي حكمت عليه بالنفي إلى بلاد الصين.
ولا نفهم كذلك لماذا لم يقاوم الفكر الفيدي في هذا القرن في موطنه الجديد تحدي الفكر الماركسي المستورد عبر (ماوتسي تونغ) والذي مسحه إلى الأبد من الخريطة الإيديولوجية في العالم.
= جاء في تاريخ الحزب الثيوعي في الاتحاد السوفييتي (ص 482، دار الفارابي، بيروت 1954): " وقد كانت الحركة الستاخانوفية هي التي دلّت بمنتهى الوضوح على تطور هذا الكادر، وعلى استيعاب رجالنا للتكنيك الجديد، وعلى نهوض إنتاجية العمل نهوضاً مستمراً لا انقطاع له. وقد ولدت هذه الحركة وترعرعت في حوض الدون في الصناعة الفحمية. وامتدّت إلى صناعات أخرى وإلى وسائل النقل ثم شملت الزراعة.
وقد دُعيت بالحركة (الستاخانوفيّة) نسبة إلى صاحب المبادرة الأولى فيها، العامل في قلع الفحم أليكى ستاخانوف (حوض الدونتز).
(1)
(أرنولد توينبي Arnold Toynbee) مؤرخ إنكليزي (1889 - 1975)، له عدة مؤلفات أهمها:(دراسة التاريخ) في اثني عشر جزءاً. يقول بأن الحضارات تتقهقر بضعفٍ يطرأ على قوة الإبداع، ويؤمن بأن زوال حضارة ما أمرٌ لا مفرّ منه.
(2)
الفكر (الفيدي)، نسبة إلى (فيدا) عنوان الكتب الأربعة المقدسة. التي تتضمّن الحكمة الإلاهية في المذهب الهندوسي.
أما ما هو جدير بالملاحظة في تجربة المجتمع الإسلامي المعاصر؛ فهو أنه لم يستطع أن يستمد دفعة الإقلاع الحضاري من العالم الثقافي للصفوة من أبنائه الذين نالوا تعليمهم في الجامعات الغربية، كما لم يستلهم روح الحضارة من الإيديولوجيات العملية التي طُوبت ثورية في البلاد العربية بإعطائها تلك الشعلة التي ألهبت روح الجماهير حتى مكّنتهم من سد الطريق أمام (موشي دايان) في حرب الأيام الستة!!، كما لم يستفد في أسلوبه من صرامة التفكير الموروثة من عصر (ديكارت).
بينما الفكرة الدافعة للإسلام نقلت شعلات الجمر المضيئة منذ أربعة عشر قرناً من الجزيرة العربية إلى الأقطار البعيدة؛ موحِّدةً جميع الشعوب الإسلاميّة في ذلك العمل المنسق الرائع؛ ألا وهو الحضارة الإسلاميَّة التي استمرَّت حتى سقوط بغداد وسقوط غرناطة.
وحتى حينما رجع المجتمع الإسلاميّ القهقرى ووصل إلى النقطة c من الرسم البياني، أي مرحلة ما بعد الموحدين (1) فإنَّ هذه الفكرة الدافعة سمحت له أيضاً بمقاومة العدوان الاستعماري ثم استعادة استقلاله.
(1) عصر ما بعد الموحدين: يبدأ عصر ما بعد الموحدين بسقوط الدولة الموحديّة بعد هزيمة الناصر لدين الله الموحدي في موقعة حصن العقاب في الأندلس في 15 صفر (609 هجرية). وقد اعتبرت هذه الموقعة نذيراً بنهاية قوة المسلمين بالمغرب والأندلس على السواء كما يقول مؤلف تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي؛ إذ سقطت الدولة الموحدية التي أنشأها عبد المؤمن بن علي سنة (524 هجرية، 1130 ميلادية) بعد أن بايعه المهدي بن تومرت، إثر سقوط الدولة المرابطية ثم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (1163 - 1184) الذي أخضع القبائل ثم غزا طليطلة واشبيلية بجيش جرار يضم قبائل عرب زناته ومصمودة وغمادة وصنهاجة واستولى على مدينة لشبونة. ثم أعقبه يعقوب المنصو ر (580 - 595 هجرية/ 1184 - 1199 ميلادية) الذي انتصر في معركة الأرك على نصارى الأندلس بعد تمردهم وطمعهم في أملاك المسلمين في الأندلس، فقاتل ألفونس حتى طلب الهدنة فهادنه خمس سنوات لكنه نقض العهد وقال لرسل ألفونس:((الجواب ما ترى لا ما تسمع)) فحلت الهزيمة بألفونس ثانيةً. =
إنَّ المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة دائماً بالأفكار الدافعة، والإيديولوجية السوفييتية هي التي سمحت للمجتمع السوفياتي أن يوقف في ستالينجراد زحف الجيش الهتلري خلال الحرب العالمية الأخيرة.
وإذا كان هذا التفسير الخارجي لا يكفي لتوضيح منشأ هذه القوّة في جميع الحالات، فينبغي أنْ نلاحظ مع ذلك أن هذه القوى هي التي جعلت تلك المجتمعات تنبثق من العدم، ونثرتها على مسرح التاريخ حيث بقيت قائمة بقدر ما بقيت هذه القوى تدعمها.
= وكان يعقوب المنصور معاصراً لصلاح الدين الأيوبي الذي طلب مؤازرته حينما تأهب الصليبيون لحرب صلاح الدين وتتابعت أساطيلهم على الإسكندرية لكن يعقوب المنصور كان مشغولاً هو الآخر بقتال النصارى في الأندلس.
وفي عهد يعقوب المنصور اكتمل بناء مدينة الرباط وبنى مسجداً عظيماً له مئذنة شامخة على هيئة منار الإسكندرية يصعد إليها بغير درج وتسمى الآن منارة حسان.
وقد ازدهرت الفلسفة والعلوم في عهد الدولة الموحدية فكان فيها ابن طفيل وابن رشد وابن باجة والوزير الطبيب ابن زهر.
إلا أنه بزوال دولة الموحدين في المغرب وانطواء الدولة الأيوبية المعاصرة لها في القرن الثاني عشر انتهت دورة الحضارة الإسلامية في رأي مالك بن نبي، وبدأ عصر الانحطاط رغم ما لمع من بوارق انتصارات المماليك والدولة العثمانية في الشرق والغرب، فقد بدأت دورة جديده للحضارة المسيحية الغربية تنبعث على أشلاء الأندلس وتأخذ اطرادها إلى حيث نرى نتائجها في عالمنا الحاضر.
(راجع حسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 4/ 219، وما يليها، الطبعة الأولى 1967 مكتبة النهضة المصرية).