الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر
صراع الفكرة- الوثن
• العلاقة بين الفكرة والشخص.
• الفكرة- الشخص قد تصبح فكرة- وثن:
- الجاهلية والوثنية متلازمتان في الوجود والعدم.
• جهل الشعب النظيف، وجهل المثقف الأخرق.
ــ
أثبتنا سابقاً أن عالم الأشخاص ينطوي كلياً في العالم الثقافي للمجتمع بقطع النظر عن مرحلته من التطور وعمره النفسي في تلك المرحلة.
هذه حالة عامة؛ لكنها تصبح حالةً خاصةً في مجتمع يمرُّ بعمر معين أو إثر حادثٍ ثقافي، حين يشرع في هيئة أفكار هـ وتحديد أحكامه طبقاً لمعايير تنحو بها العلاقة بين الفكرة- الشخص نحو هذا الأخير إضراراً بالفكرة.
في هذه الحالة يصبح لدينا خللٌ في التوازن الثقافي، تولِّد فيه المغالاة نوعاً من الطغيان سبق أن أشرنا إلى نتائجه الاجتماعية في بعض البلاد الإسلامية.
وأخيراً يمكن لهذا الاختلال أن يتأصل بدوره حينما لا يكون عالم الأشخاص على وجه عام هو الذي يستقطب النشاطات الثقافية بل بوجه خاص فإن شخصاً معيناً هو الذي يستقطب.
في هذه الحالة هنالك قضية اختلال أساسي للتوازن، تكون معه العلاقة بين
الفكرة والشخص مرتهنةً لشخص يستحوذ لصالحه على سائر الروابط القدسية في عالم الثقافة.
والواقع أنّ هذه العلاقة تمازجها الأسطورة، وتصبح مخادعةً في شكلها المتطرف إذ تغدو الفكرة- الوثن.
إنها حوادث ثقافية تقع دائماً، ولثقافة القرن العشرين واحدة، منها في إيطاليا في شخص (موسوليني) وأخرى في ألمانيا في شخص (هتلر).
إلا أننا نفضل هنا أن نبرز حالة لاحظناها في البيئة الإسلامية في الجزائر بسبب ارتباطها المباشر بموضوع هذه الدراسة (1).
لقد أطلق القرآن الكريم تسمية الجاهلية- أي الجهل- على الوثنية التي سيطرت على الجزيرة العربية قبل الإسلام ومع ذلك لم تكن تلك الجاهلية فقيرة في صناعة الأدب، فقد حفلت هذه الفترة بألمع الأسماء. لكنها ظلت تسمى الجاهلية أي عصر الجهالة لأن علاقاتها المقدسة لم تكن مع أفكار وإنما كانت مع أوثان الكعبة. فالكلام العربي آنذاك لم يكن يتضمن سوى كلماتٍ براقة وخالية من كل بذور خلاقة.
وإذا كانت الوثنية جهالة فالجهالة بالمقابل وثنية. وليس من قبيل الصدفة أن الشعوب البدائية تؤمن بالأوثان والتمائم.
هذه الجدلية تحدد طبيعة علاقة الفكرة- الشخص؛ التي تنقلب عند التطرف إلى علاقة فكرة- وثن. وبفضل تلك العلاقات المنجرفة نحو التطرف فإن الشعب الجزائري أقام قبب مرابطيه وأوليائه، وحافظ على عكوفه عليهم عبر قرون ما بعد الموحدين.
(1) لقد عالج المؤلف الحالة في كتابه (شروط النهضة) الذي اقتبس منه هذا الفصل كاملاً فيها بعض الحذف.
وحتى عام (1925) فإن الوثن كان يسيطر في ظل الزوايا حيث أرواحنا المتسكعة تذهب لالتماس البركات واقتناء معجزات الحجاب. ففي كل مرة تختفي فيها الفكرة يهيمن الوثن من جديد. والعكس صحيح. ففي عام (1925) كانت النتيجة المقابلة: الفكرة الإصلاحية التي خرجت إلى الوجود قد هزت قبب أوليائهم القديمة، وتدحرجت أوثانهم مع أسى عماتنا اللواتي رأين نار احتفالاتهن التقليدية الصاخبة المهداة نذوراً لذكرى الأولياء تنطفئ.
لقد خمدت حرارة المرابطين كيما يسترد الضمير الجزائري مفهوم الواجب. والجنة التي يضمنها الشيخ لمريديه بغير ثمن قد أخلت مكانها لمفهوم الجنة التي لا تدرك إلا بعرق الجبين.
لقد أمسك الإصلاح بكلتا يديه مصير النهضة واضعاً في خدمتها مصادر الروح الإسلامية التي أفلتت من غفلتها.
لقد كانت لحظةً مميزةً فيها وضعت علاقة الفكرة- الشخص في مجرى الفكرة الإصلاحية التي عرفت لحظة (أرخميدس)، وبلغت غاية تألقها في المؤتمر الإسلامي الجزائري عام (1936).
فهل كان انتصار الفكرة حاسماً ونهائياً؟
كان ينبغي ألا يكون لدى العلماء في عالمهم الثقافي سبباً يخل بعلاقة الفكرة - الشخص كيما يحولها من جديد إلى علاقة فكرة- وثن.
غير أن العلماء حملوا في ذاتهم عقدة نقص تجاه المثقفين السياسيين إذ كانوا يعدونهم حماتهم.
والواقع أن العلماء لم يكن لديهم حصانة كافية تحول دون الرجوع بقوة إلى الوثن، متنكراً هذه المرة في زي (زعيم) صانع المعجزات السياسية، ومعه
المعوذات تتخفى في شكل ورقة انتخاب، وتزدهر الاحتفالات المرابطية ( kermesses maraboutiques) في صورة زردة (فتة)(1) انتخابية كانوا عبرها يدعون الشعب لتقديم القرابين.
حقاً لقد أصاب العلماء دُوَارُ القمة المرتفعة التي ارتقوها وهم يحملون الإصلاح بتحقيق المؤتمر الإسلامي الجزائري عام (1936).
فالعلاقة بين الفكزة- الشيء قد أفلتت من أيديهم وهم على تلك القمة العالمية، فهوت في سحيق المستنقع السياسي الموحل حيث الوثن يحتل مكان الفكرة.
وهكذا غاص الإصلاح الجدول الذي فيه تسيل (شمبانيا) الولائم الانتخابية، ممزوجةً غالباً بدم الشعب الطاهر، المسفوح لغايات غير طاهرة في أكثر الأحيان.
لقد كانوا يزعمون أنهم بهذه الطريقة يرغمون الإدارة الاستعمارية على القيام بإصلاحات للشعب.
لقد كانت النية سليمةً إذا ما قوّمناها بمعيارٍ علميٍّ.
لكن الإدارة عضو يتكيف أو لا يتكيف مع المجتمع، فإذا هي لم تتكيف فإنها تختفي كما يستشهد (بفربريدج) في كتابه العالم واحد بمقطعٍ لبرك ( burke) (2) يقول فيه:((الدوإت التي لا تملك الوسيلة التي تحقق التغييرات لا تكون لديها وسائل استمرارها الذاتي)).
(1) إن كلمة marabout هي المقابل الفرذسي لكلمة (مرابط) العريية، وتعني: ناسك، أو: ولي.
(2)
ادموند برك Edmund burke رجل سياسة وكاتب بريطاني (1729 - 1797م) كان يدافع عن استعمار بريطانيا لأميركا. وكان عدو (الثورة). له مؤلف بعنوان (تأملات حول الثورة الفرنسية) نشر سنة 1790
والعلماء الذين كانوا يجهلون هذا القانون الأساسي قد استبدلوا ضمناً ودون أن يدركوا بالسياسة التي تفرض على الإدارة الاستعمارية حتمية التصفية طبقاً للمبدأ الذي قرره ( burke)، سياسة المطالبة التي تمنح الإدارة تأجيلاً لهذا الاستحقاق وتترك لها زمام المبادرة.
وبهذا العمل ذهب العلماء أبعد من ذلك: لقد حطّموا التوازن المنقذ الذي رسخت دعائمه بفضلهم في العالم الثقافي الجزائري من أجل الإصلاح.
لقد نُفيت الفكرة، وأمسك الصنم بالسلطة في الحياة العامة الجزائرية. وانقطع التيار الإصلاحي فانجرفت المعتقدات الشعبية في تيار (الديماغوجية) المرعد المزبد العقيم، وقد منع البلاد من أن تسمع دقات الساعات الحاسمة عام (1939).
إن السياسة التي تجهل القوانين الأساسية لعلم الاجتماع- وهو الذي يعتبر علم بيولوجيا البنى والأجهزة الاجتماعية- ليست إلا ثرثرةً عاطفيةً، ولعباً بالألفاظ وطنطنةً غوغائية.
لكن الأفكار التي خانها أصحابها تنتقم. وانتقام الإصلاح الذي غدر به عام (1936) كان بلا هوادة. لقد دارت الآلة إلى الوراء، وعادت البلاد أدراج المراحل التي كانت خلفتها وراءها. وعاشت الجزائر مجدداً (الزردات) في اليوم الذي دعتها فيه النخبة كي تحرق آخر ما تبقى لديها من البخور (الجاوي) في الزردة التي نُظمت بعد موت المؤتمر الإسلامي؛ ليس تكريماً لولي هذه المرة بل لوثنٍ سياسي.
لقد بدأت في ذلك اليوم مرابطية جديدة، مرابطية لا تبيع الحروز، البركة، الجنة ونعيمها، ولكن تشتري الحقوق، المواطنية
…
القمر
…
عبر أوراق الانتخاب.
لقد غاب عن الأذهان أن الحق ملازم للواجب، وأن الشعب هو الذي يخلق ميثاقه ونظامه الاجتماعي والسياسي الجديد عندما يغير ما في نفسه.
إنه لقانون سامٍ!
…
((غيِّرْ نفسكَ فأنت تغير التاريخ)) لكن في عام (1936)، وحينما خرق العلماء هذا القانون، فإن التحول توقف وتلاشى في السراب السياسي.
لم يعد الكلام حول الواجب دائماً بل حول الحقوق فقط. ولا داعي لمواصلة الحديث حول النتيجة النهائية لسياسة المطالبة التي عبر عنها بوضوحٍ صمتُ الأحزاب الوطنية في الساعات الحرجة عام (1939)، وتشرين الثاني " نوفبر " عام (1942)(1). وبدلاً من أن تظل البلاد حقلاً لجهودنا المتواضعة والفعَّالة المثمرة كما هو حالها منذ عام (1925)، فقد غدت منذ عام (1936) مؤتمراً ومعرضاً انتخابياً، حيث في كل مقهى قاعة استماع، وكل منضدة منبر خطابة.
لقد غدا الشعب مستمعاً، قطيعاً انتخابياً، قافلةً عمياء ضلت طريقها المرسوم عبر الفكرة؛ فتاهت في مسارب الأوثان.
ياله من احتيال! .... لا يزال مستمراً (2)؛ لأن الوثن إذا كان لابد زائلاً بسبب عدم فاعليته؛ فإنه كاليرقة تتجدد على كل الأشكال في المناخ الملائم حيث تترعرع المرابطية التي تنتج الصنم.
ولقد رأينا هذه الظاهرة أثناء الثورة الجزائرية، فالنخبة المثقفة الجزائرية لا تتمحور إيديولوجياً حول الفكرة الثورية، وإنما حول أصنام ألصقت بها بعض الصحافة هذه الفكرة. وهذا يعني أننا لم نُشف بعد من هذا المرض. وينبغي
(1) المقصود هنا قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 وسقوط مدينة باريس بأيدي الألمان عام 1942.
(2)
اقتبست هذه السطور من كتابنا "شروط النهضة" الذي نشر عام (1947)، أي قبل الثورة.
القول بأنه في مستوى النخبة لم يكن هذا المرض نقياً كما هو عند الشعب. فنخبتنا المثقفة على استعداد لأن تأكل في سائر المعالف.
ياللأسف! ليس أقبح من الجهل حينما يتزيا بزي العلم وينبري للكلام. فالجهل المحدود؛ جهل الشعب النظيف: إنه كجرحٍ ظاهرٍ يمكن علاجه. أما جهل العالم: فهو غير قابل للشفاء لأنه أخرق، مراءٍ، أصمُّ، مغرور.
وإذن ففي عام (1936) وعندما أسلم العلماء عالنا الثقافي إلى سلطان الأوثان وعادت المسيرة إلى الوراء إلى الظلمة.
لقد انقلب الجهاز الذي أخذ يسير وأرجله في الهواء ورأسه إلى أسفل، هذا هو المظهر الجديد للمشكلة حينما أخلت الفكرة مكانها للوثن.
لقد كان العز بن عبد السلام ينكر على فقهاء عصره التقليد الذي يشكل بالنسبة للفكرة الإسلامية أول مظاهر استبدال الوثن بالفكرة، يعني المظهر الذي أعلن نهاية الاجتهاد.